هكذا وعلى مرّ التّاريخ العربي المعاصر تتعالى الأصوات من لَهَوات الحُلُوق والحناجر. فمرّة تعلو هذه في مسيرات مُسَيّرة، لا مُخَيَّرة، في الشّوارع، ومرّة تعلو هذه الأصوات من مؤتمرات ما يُسمّى زورًا وبهتانًا نقابات صحفيّين أو مُحامين في بلاد لا صحافة فيها ولا محاماة.
بالرّوح، بالدّم، نفديك يا فُلان: quot;فلان وفلانة: كناية عن أسماء الآدميين. والفلان والفلانة: كناية عن غير الآدميين. تقول العرب: ركبتُ الفُلان، وحلبتُ الفُلانة... وعن ابن السّكّيت: إذا كنيت عن الآدميين قُلتَه بغير ألف ولام، وإذا كنيت به عن البهائم قُلتَه بالألف واللاّم.... وقال ابن بُزُرْج: يقولُ بعضُ بني أسد: يا فُلُ أقْبِلْ، ويا فُلُ أقْبِلا، ويا فُلُ أقْبِلُوا... وقال ابنُ بَرِّي: فلانٌ لا يُثنّى ولا يُجمَع. وقوله عزّ وجلّ: quot;يا ويلتا ليتني لم اتّخذ فُلانًا خليلاquot;، قال الزّجّاج: لم اتّخذ فُلانًا الشّيطان خليلاًquot;. وهنالك أيضًا من يفرد ويثنّي ويجمع: فل وفلان وفلون (عن لسان العرب، مادّة: فلن)
***
هكذا، بشعار: quot;بالرّوح بالدّم، نفديك يا فُلانquot; يتمّ اختزال الوجود العربي، البشريّ والحضاريّ، في هذا الـ quot;فلانquot; كائنًا من كان، ويتمّ على هذا الأساس نفيُ الإنسان وعَزْلُ الأوطان. ولمّا كان هذا الـ quot;فُلانquot;، أكان من بني البشر أو من ذوي الوبر، آيلاً للزّوال، فما على العربان إلاّ استنساخ فلان بفلان في سمفونيّة التّهليل لكلّ حاكم ضِلّيل. وعندما يرتفع هذا التّهليل على خلفيّة مبنيّة على أسس التّهويل فما من سبيل إلى سواء السّبيل.
بالرّوح، بالدّم، نفديك يا فُلُ، ويا فُلان، ويا فلون. هكذا بشعار واحد يغيب البشر، طوعًا وكراهية، عن الوجود. وعندما ينفي الإنسيُّ وجوده كمخلوق عاقل فاعل في هذه الطّبيعة تُضحي صورةُ الشّعب صورةً طبق الأصل لهذا الفلان الّذي يتمّ افتداؤه بالرّوح وبالدّم. وإذا كان الفُلانُ نَزِقًا مُتهوّرًا يتطبّع الشّعبُ بهذه النّعوت. وإذا كان جاهلاً فهو يغدو كارهًا للعلم وللعلماء ويطبع النّاس بطبعه. وإن كان فاسدًا فسد النّاس معه، لأنّ النّاس تنازلت، تَمَثُّلاً به طبعًا، عن ملكة العقل تَزَلُّفًا. فالفُلانُ الرّابخ على سدّة الحكم، يُفكّر باسم الجميع، ويتكلّم باسم الجميع. وإن شاء أيضًا فهو المُخوَّلُ أيضًا بأن يُغيّر رأيه باسم الجميع. وما على الشّعب سوى أن يُوقّع على صكوك الولاء الأبدي السّرمدي لفُلان الفُلانيّ.
ولمّا كان الفُلانُ، كسائر الحيوان، مصيرُه الزّوالُ يقينًا، فلا خشية أن تتبدّل هذه الذّهنيّة لدى بني يَعرُب. فـquot;فلانquot; هذا، كسائر مخلوقات الطّبيعة، يُعقِبُ نسلاً على شاكلته، مثلما أنّ الشّعوبُ هذه المتطبّعة بذهنيّة quot;فلانquot; تُعقبُ هي الأخرى نسلاً على شاكلتها. وما أن يأتي فُلانٌ جديد حتّى تأتي فُلُونٌ أخرى تهتفُ من قعر رؤوسها، المُفرّغَة طوعًا وكراهية، بافتداء quot;الفُلان الجديدquot; بالأرواح والدّماء الرّخيصة.
***
ولمّا كانت الأجيال العربيّة النّاشئة تعيش في حالٍ من الأوهام. ولمّا كانت هذه الأجيال لا تقرأ شيئًا من تراثها، وإن قرأت لا تفهم، وإن لم تفهم فهي لا تتجرّأ على الاستفهام، فها نحنُ نذكّرهم ببعض ما رُوي من أقوال عن السّلف، لعلّ في ذلك ما يدفعهم إلى مساءلة هؤلاء الحُكّام، وإلى قول كلمة الحقّ علانيةً، لا يخشون في ذلك لومة من أحد اللّوّام. فقد ورد في حديث عليّ الإمام (عليه السّلام): quot;عن أبي جعفر قال: خطب أمير المؤمنين الناس بصفين، فكان مما قاله: فلا تُكلّموني بما تُكَلَّمُ به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي بما يُتَحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمُصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حَقٍّ قيل لي، ولا التماسَ إعظامٍ لنفسي لما لا يصلح لي. فإنّه من استثقلَ الحَقَّ أن يُقالَ له، أو العدلَ أن يُعرضَ عليه، كان العملُ بهما أثقلَ عليه. فلا تكفّوا عني مقالةً بحقٍّ، أو مشورةً بعدلٍ، فإنّي لستُ بفوق أن أُخطئ، ولا آمَنُ ذلك من فِعْلي، إلاّ أن يكفي الله مِنْ نفسي ما هو أمْلَكُ به منّي؛ فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكونquot;، (عن: بحار الأنوار للمجلسي، ج 27، ص 253)
***
ولمّا كانت السّياسة ليست دينًا، كما أنّها ليست توحيدًا إلهيًّا، وليست أيّ شيء من هذا القبيل، فحريّ بنا أن نفكّر في سبيل آخر للخروج من هذا المأزق. بكلمات أخرى، بوسعنا أن نقول، إنّه فيما يخصّ السّياسة والنّظم الّتي تسيّر أمور النّاس فإنّنا، نحن العربان، بحاجة إلى مبدأ الـquot;شِرْكٍquot; في هذه السّياسة. أي قد آن الأوان إلى الخروج من شراك هذا الشّعار quot;التّوحيديquot; الّذي يعني، في أعرافنا المتوارثة كابرًا عن كابرٍ، الحاكم القائد الرّمز الفرد الواحد الأحد، الّذي تسلّط على ذهنيّة العربان السّياسيّة.
وهذاالـquot;شِرْكُquot; الّذي نعنيه في السّياسة هو بمعنى الـquot;مشاركةquot; في تسيير أمور البشر، كمجتمع عصري متكامل متكافل. والمشاركة تعني أيضًا عدم الاقتصار على فُلان الفُلاني، أكان هذا الـquot;فلانquot; من بني تميم أو بني قيس أو بني أسد، في السّيطرة على مصائر هؤلاء البشر وتصريف أمور المجتمع والدّولة. بل يجب أن ينضاف إليه quot;عَلاّنquot; آخر أو أكثر من علاّن واحد. بل نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول، إنّه يجب أن يتمّ استبدال فلان بـ quot;علاّنquot; في دورات انتخابيّة محدودة الزّمن من بين صفوف النّاس في الوطن. ألم نقرأ في المأثور: quot;لا يُغيّر الله ما بقوم حتّى يُغيّروا ما بأنفسهمquot;. أو لنقل، حتّى يُغيّروا المفاهيم الّتي يترعرعون عليها في بيوتهم وفي كتاتيبهم الّتي شاعت باستخدام مصطلح مدارسهم.
وما لم يسر العربُ في هذه الطّريق، فلن يتمّ إسكات هذا الوسواس الخنّاس.
أليس كذلك؟
salman.masalha at gmail dot com
التعليقات