هل يمكن القول أن وقف النار الذي بدأ سريانه بعيد صدور القرار الرقم 1701 عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ليس سوى هدنة بين المتحاربين؟ الواضح، أقلّه ألى الآن، أن الأمر يتعلّق بهدنة أكثر من أيّ شيء آخر، خصوصاً أنّ القرار الذي يدعو ألى وقف العمليات العدائية لم يحل دون متابعة إسرائيل لعدوانها. والدليل على ذلك عملية الأنزال في سهل البقاع اللبناني قرب بعلبك ليل الجمعة- السبت الماضي. ويبدو أن العملية فشلت ألى حدّ كبير وعكست في الوقت ذاته حال الأفلاس التي تعيشها الحكومة الإسرائيلية والقيادة العسكرية هذه الأيّام.

تفسح الهدنة في المجال أمام تقويم للأوضاع اللبنانية في ضوء الحرب التي تعرّض لها البلد، وهي حرب أستهدفت تدمير البنية التحتيّة للبنان وتقطيع أوصال البلد الذي كُرّس quot;ساحةquot; للتجاذبات والصراعات الأقليمية كما لو أن المطلوب التضحية بلبنان لأغراض لا علاقة لها لا بمصالحه ولا بمصالح شعبه ولا بالمصالح العربية عموماً.

كانت الحرب التي شهدتها quot;الساحةquot; اللبنانية بين طرفين هما أسرائيل من جهة وquot;حزب اللهquot; ومن يقف وراءه من جهة أخرى، أي سوريا وإيران. أما لبنان، فكان ضحية المواجهة التي أستمرّت شهرا ًوالتي أعادته عقدين ألى خلف. وما يثير القلق حيال ما يدور في لبنان، ليس الأضرار التي لحقت بالبشر والحجر فحسب، بل هناك أيضاً الأنقسامات السياسية العميقة التي تجعل أيّ حوار بين quot;حزب اللهquot; والأطراف الأخرى في البلد أقرب ألى حوار طرشان أكثر من أي شيء آخر. وفي واقع الحال، يتبين يوميّاً أن لا مجال للتوفيق بين منطقي الثورة الذي ينادي به quot;حزب اللهquot; ومنطق الدولة الذي تنادي به الأكثرية النيابية والحكومية والشعبية ممثّلة بأطراف 14 آذار (14مارس2005) نسبة ألى أكبر تظاهرة شهدها لبنان في تاريخه أدّت عملياًّ ألى أخراج القوات السورية من الأراضي اللبنانية في 26 أبريل- نيسان 2006 تنفيذاً للقرار 1559 الذي أعاد القرار 1701 التذكير به غير مرّة. والخوف كلّ الخوف في حال غابت المعالجات الهادئة وأستمرّت الأنقسامات السياسية، من أن تكون خطوة إرسال الجيش إلى الجنوب خطوة في المجهول، خصوصاً بعد فقدان الحماسة الدولية، والفرنسية تحديداً للمشاركة في قوّة دولية ترسل ألى جنوب لبنان على وجه السرعة. والأمل الآن في أن يكون التغيير في الموقف الفرنسي في أتجاه المشاركة بعدد لا بأس به من الجنود في القوة الدولية خطوة أولى نحو حسم موضوع التعجيل في أرسال هذ القوة بما يحمي اللبنانيين في المنطقة ويوفّر غطاء لعملية أنتشار الجيش اللبناني فيها.

في النهاية، أن الجيش جزء من المجتمع اللبناني، وأيّ أنقسامات عميقة في المجتمع لا بدّ أن تنعكس عليه في مرحلة ما. حتّى الآن أظهر الجيش تماسكاً كبيراً وأظهر المواطنون الجنوبيون من كل الطوائف والمذاهب أنهم يفضّلونه على أي وجود آخر. لكنّ هذا الشعور الوطني الصادق الذي عبر عنه الناس العاديون في القرى والبلدات الجنوبية، يمكن أن يتلاشى متى تعمّقت الخلافات السياسية ومتى صار على لبنان الاختيار بين منطق الثورة الذي يمثّله quot;حزب اللهquot; ومنطق الدولة الذي تمثّله الأكثرية وفي صلبها السنّة والمسيحيّون والدروز.. وقسم لا بأس به من الشيعة الذين يدركون مدى خطورة مصادرة quot;حزب اللهquot; لقرار الطائفة.

كان لبنان الخاسر الأوّل من الحرب التي شنّتها عليه أسرائيل، خصوصاً أنّه يبدو جليّاً أن أكثر من طرف أقليمي لن يسمح له من الأستفادة من القرار 1701 الذي يمكن أن يصب في مصلحته على الرغم الثغرات التي تضمّنها. على رأس هذه الأطراف، إذا وضعنا جانباً إسرائيل التي تبدو مصممة على متابعة إعتداءاتها، نجد أن النظام الحاقد في سوريا لا يمكن أن يقبل بالقرار الجديد لمجلس الأمن. وأعلنت دمشق منذ اللحظة الأولى لصدور القرار 1701 رفضها له من منطلق أنّه يعزلها أقليمياً أكثر مما هي معزولة خصوصاً أنه ينسف في حال تطبيقه أستراتجيتها القائمة أساساً على أستخدام الوضع في جنوب لبنان أداة ضغط من أجل أبقاء قضية الجولان المحتل حيّة ترزق بدل أن تصبح قضية منسية في غياب أي قدرة سورية على تحريك هذه الجبهة والدخول في أيّ نوع من المغامرات.أنّ المغامرات جميلة متى كانت من الأراضي اللبنانية ومتى كانت على حساب اللبنانيين، لكنّها تصبح جريمة متى تعلّق الأمر بالأراضي السورية وبما يمكن أن تترتب عليها من نتائج داخل البلد نفسه وعلى النظام القائم.

بعد أسرائيل، التي أتّقنت الممارسات الوحشية، وسوريا ذات النظام الحاقد على لبنان واللبنانيين واللتين تلتقي مصالحهما عند عرقلة تنفيذ القرار 1701 ، تأتي إيران التي يتقن نظامها لعبة الدهاء. لم تتردد إيران في رفض القرار مبدية أمتعاضاً شديداً من صدوره نظراً ألى أنّه يغلق في وجهها quot;الساحةquot; اللبنانية التي وظّفت فيها مليارات الدولارات منذ نحو ربع قرن معتمدة على quot;حزب اللهquot; الذي أستطاع وضع يده على الطائفة الشيعية ملغياً أبناء الطائفة من ذوي الولاء اللبناني من المعادلة السياسية الداخلية. وألى ما قبل فترة قصيرة، لم تكن حركة quot;أملquot; التي يتزعمها رئيس مجلس النواب نبيه بري تتجرّأ على أتخاذ أي موقف مختلف عن مواقف quot;حزب اللهquot; خشية تعرضها لتصدّع داخلي بعد نجاح الحزب في أختراقها في كلّ الأتجاهات في ضوء ما يمتلكه من أمكانات كبيرة. ولا شك أن إيران أستفادت في هذا المجال من التقصير العربي تجاه لبنان في العقدين الأخيرين، خصوصاً من السياسة المترددة للملكة العربية السعودية التي لم تستوعب ألاّ متأخرة، هذا أذا أستوعبت، ما يدور في لبنان ومعنى نجاح النظام الإيراني في أخذ شيعة لبنان رهينة تمهيداً لجعل لبنان كلّه رهينة للسياسة الأيرانية كما حصل أخيراً.

لا شكّ أن quot;حزب اللهquot; أستطاع الخروج من الحرب منتصراً حتى لو كان ذلك على حساب لبنان واللبنانيين. والأهمّ من ذلك أنّه أستطاع الحلول مكان الدولة اللبنانية بمسارعته في تقديم مساعدات مالية سخيّة بالدولار الأميركي ألى المتضررين من الحرب الأسرائيلية. وقد أظهر الحزب أنّه اقوى من الدولة وأكثر قدرة على التحرّك وأنّ من الظلم في حق الحزب القول أنه دولة داخل الدولة. على العكس من ذلك، بات في الأمكان القول أنّ الدولة اللبنانية مُحتضنة من دولة quot;حزب اللهquot; بعدما تبيّن أن دولة الحزب تمتلك قرار الحرب والسلم في البلد. وما ساعده على تأكيد أنتصاره الفشل السياسي والعسكري لأسرائيل، اللهم ألاّ أذا كان الهدف تدمير لبنان والأنتقام منه. فقد كشفت الحرب أن في أسرائيل قيادة سياسية وعسكرية في غاية الغباء لا تعرف شيئاً عن المعادلات الأقليمية وكيفية التعاطي معها.

باختصار شديد، ليس ما يشير ألى أن لبنان مقبل على أكثر من هدنة ما دام ليس في أمكان القرار 1701 أخراجه من الطريق المسدود الذي بلغته الحرب. هذه الحرب التي لا أفق سياسياً لها ألاّ بالنسبة ألى سوريا وأيران اللتين تريدان أظهار أن محورهما قادر على زعزعة الأستقرار في الشرق الأوسط كلّه أنطلاقاً من لبنان، فيما لا تستطيع أسرائيل سوى اللجوء ألى لعبة التصعيد العسكري التي يتضرر منها لبنان وتعود بالنفع على quot;حزب اللهquot; القادر على توظيفها في رصيده.

ماذا بعد الهدنة في لبنان الواقع بين الوحشية الأسرائيلية وحقد النظام السوري والدهاء الإيراني؟ أو على الأصحّ هل تصمد الهدنة في لبنان وتؤسس لمرحلة جديدة أكثر أستقراراً في غياب العالجات السياسية الشاملة لقضايا المنطقة؟ أنّه سؤال الساعة في وقت لا يبدو التردد الفرنسي في المشاركة بوحدة عسكرية كبيرة في القوّة الدولية في الجنوب اللبناني تردداً بريئاً. هل وراء التردد الفرنسي خوف من أحداث كبيرة في المنطقة تلي الهدنة؟ أم أنّ المسألة مسألة أدراك باريس لحقيقة أن القرار 1701 ليس قابلاً للتنفيذ في ظلّ المعطيات الراهنة وأن جنودها في الجنوب، الذين قررت زيادة عددهم، بعد تردد، من مئتين ألى نحو ألفي عنصر، يمكن أن يتحوّلوا مجرد أهداف سهلة ورهائن لمن يريد تصفية حساباته معها بواسطة quot;حزب اللهquot; أو غير quot;حزب اللهquot; من تنظيمات دينية مسلّحة في جنوب لبنان ، سنّية هذه المرّة، يُعتبر مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين المأوى الآمن المفضّل لها!