كلما دعت أمريكا أبناء عشيرتها للاجتماع في مجلس الأمن، وهذا في رأيي، من الأسماء الأضداد، إلا وتوقعت عشيرة 'محور الشرquot; حفلة دم جديدة على نخب مشروع الشرق الأوسط الجديد.أما المدان الجديد فهو يدرك الحكم مسبقا ويعلم أنه مطالب بالاختيار بين أمرين أحلاهما مر. فإما دخول بيت الطاعة الأمريكي أو إحالة ملفه إلى المفتي، حسب تقاليد القضاء المصري بعد إصدار حكم الإعدام.
ففي الاجتماع قبل الأخير لقبيلة quot;محور الخيرquot; في مجلسها للأمن، صمت المجلس دهرا، إلى حين التخلص من اللبنانيين الزائدين عن الحاجة، ونطق كفرا بقرار حار في تصنيفه حكماء القانون الدولي. وما زال الجدل مستمرا حول إلحاق هذا القرار اللقيط بنسب الفصل السادس أو السابع من الميثاق، أو إدراجه في منزلة بين المنزلتين.
ويبدو أنهم لن يفلحوا في إثبات أبوّته لسبب بسيط وهو أن هذا القرار لا ينتمي إلى جنس القانون بل إلى سلالة القرارات السياسية الصادرة عن اللذين يملكون حق التدمير الشامل، للذين لا يملكون حتى حق الدفاع عن النفس.
وبعد أن غسل يديه من دماء اللبنانيين، وكما كان متوقعا، وجه مجلس الدمار الشامل الأمريكي ، في اجتماعه الأخير، فوهة دبلوماسية البوارج والدبابات نحو إيران التي صنفها كبيرهم منذ ثلاث سنوات في محور الشر.
والغريب في أمر لعبة المد والجزر في قضية أسلحة الدمار الشامل الإيرانية، أن الفاعلين الأساسين فيها لم يبرحوا مكانهم على امتداد هذه السنوات الثلاثة. ففي لحظة من اللحظات العسيرة لعام 2003 نجحت أمريكا في إيهام حتى المتابعين المتمرّسين، بأن المرشح للضربة القادمة هي إيران وليس العراق. وفي كل شوط من أشواط لعبة شد الحبل هذه، يتوقف اللاعبان في اللحظة التي تنذر فيها شعرة معاوية بالانقطاع.
ويبدوأن أمريكا قد وجدت في إيران ندا قويا لها.
فهي لم تتمكن من نسف النظام الإيراني من الداخل لأنه استطاع المسك بشارعه دون اللجوء إلى العنف، تماما مثلما تفعل أمريكا.
فالخصمان يعتمدان في نشاطهما على ثنائية الخديعة والاتصال.
أمريكا تلعب عبر وسائل إعلامها على جرح أحداث 11 سبتمبر التي سمحت بتفعيل عملية غسل الدماغ الأمريكي. وهي في الحقيقة رياضة وطنية تقليدية منذ حملة السيناتور quot;ماك كارتيquot; ضدّ الشيوعية.
أما بطل هذه الرياضة بلا منازع فهي وسائل الإعلام الأمريكية المتخصصة في التضليل.
فقد اعترفت الصحيفة الأمريكية quot;نيويورك تايمزquot; في نشرتها بتاريخ 26-5-2004، بأنها ارتكبت أخطاء في تغطيتها للأحداث التي تلت تفجيرات 11 سبتمبر، وهي تقصد حدث شن الحرب على العراق، جراء اعتمادها على معلومات مدتها بها جهات سياسية غير نزيهة، على حد قولها.
وجاء هذا الاعتراف بعد فضح أحد الصحافيين لهذه الممارسات وليس عن إيمان الصحيفة بالرسالة الإعلامية. كما جاء هذا الاعتراف متأخرا، أي بعد أن ساهمت في تضليل المتلقي الأمريكي وزينت له قتل سبعة آلف عراقي.
وقد قامت نفس الصحيفة في شهر جويلية 2003 بالكشف عن هوية عميلة بوكالة المخابرات الأمريكية (س أي إي) وهو عمل يسقط تحت طائلة القانون، وربطتها بهوية زوجها السفير quot;ولسنquot;. وكان السيد quot;ولسنquot; قد فضح أكذوبة صفقة الأورانيوم بين العراق والنيجر مسددا بذلك طعنة نوعية إلى مصداقية ملف أسلحة الدمار الشامل العراقي المقدم إلى مجلس الأمن كوثيقة تبرر الحرب على العراق. وأتضح في العام المضي، أن البيت الأبيض، وبالتحديد مكتب quot;ديك تشينيquot; نائب الرئيس quot;بوشquot;، هوالذي قام بتسريب معلومة حقيقة هوية زوجة quot;ولسنquot; إلى الإعلام، لإخماد صوت السفير المعارض.
أما السياسيون الأمريكيون فإنهم لا يتوانون في استبلاه المواطن الأمريكي. فقد قال مرة quot;رامسفيلدquot;، وكان جادا quot;نحن نعرف أين توجد هذه الأسلحة بالتدقيق. هي في شامل العراق وناحية الجنوب وأيضا شرق العراق وغربهquot;
وكانوا يلجأون إلى منطق السفسطة كلما افتضح أمر كذب معلوماتهم. فقد صرح quot;آري فليشرquot; الناطق باسم البيت الأبيض بأن quot;تصريحات الرئيس quot;بوشquot; اعتمدت على فرضية وجود الأورانيوم النيجيري. وبما أنه أتضح أن المعلومات المتعلقة بهذه المادة غير صحيحة فإن هذا يعكس الطابع العام لكلام الرئيسquot;.

ولم يخطر على بال المشاهد الأمريكي التساؤل حول معنى هذا الكلام الذي ليس له معنى والذي يجعل ما هو مستحيل وجوده برهانا قاطعا على إمكانية وجوده. لأن الثقافة الإعلامية والمدرسية لأغلب الأمريكيين لا تسمح بانبثاق السؤال الذي بدونه لا حياة للمعرفة.
كما أسفرت نتائج دراسة بحثت في تغطية وسائل الإعلام البريطاني للصراع الفلسطيني الإسرائيلي أن 43 في المائة من الأمريكيين يعتقدون بأن الفلسطينيين هم الذين يحتلون quot;الأراضي المحتلةquot;
وتكمن لعبة قلب الحقائق في هذا الموضوع بالذات في استخدام آلية بسيطة ولكنها فعالة تتمثل في الصمت على المقاربة التاريخية لهذه القضية والتشديد على الشر المتأصل في العرب والمسلمين لتفسير ما يحصل من أحداث عنيفة تمس الغرب.
إذ يمكن تلخيص خطابات الرئيس quot;بوشquot; منذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر في الأطروحة المركزية التالية:
quot;منطقة الشرق الأوسط تفيض بالنزاع والكراهية بسبب الجهل والفقر وهو ما أدى إلى تفشي ظاهرة الإرهاب التي جلبت المعاناة لبلادناquot;
ويتسم هذا الخطاب بخلل منطقي جلي لأنه مؤسس على حلقة مفقودة لا يمكن بدونها تفسير المرور الآلي من المرارة التي أدت إلى تفريخ الإرهاب، حسب رأي quot;بوشquot; إلى تفجيرات 11 سبتمبر. وهي حلقة الإهانات المتكررة التي تعيشها الشعوب العربية من جراء الغطرسة الإسرائيلية المدعومة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية.
وطبعا لم يكن في استطاعة المواطن الأمريكي البسيط الربط بين النتائج والأسباب الحقيقية. فقد سهل مهمة الدعاية السياسية والإعلامية جهل الفرد الأمريكي بالآخر والتي ساهمت المدرسة في تأسيسه بقسط هام. فقد أثبتت نتائج حديثة لاستطلاع الرأي بأن 85 في المائة من الأمريكيين البالغين من العمر بين 18 و25 سنة لا يعرفون موقع العراق على الخريطة وأن 82 في المائة من الأمريكيين ليس لديهم جواز سفر وأن اغلبهم لا يحسنون لغة ثانية. ويذكر أن عددا من الفنانين الأمريكيين، من بينهم quot;شوازنجارquot; الذي أصبح حاكما لكاليفورنيا، ألغوا سفرة كانت مقررة إلى فرنسا سنة 1991، خلال الحرب الأمريكية الأولى على العراق، لاعتقادهم بأن للبلدين حدودا مشتركة.
وللحقيقة لم يكن الإعلام الأمريكي مطالب بالقيام بمجهود جبار لإقناع الرأي العام بوجود مصاصي دماء يسعون للقضاء عليهم. فقد تدرب على ذلك لسنوات جعلت المتلقي الأمريكي مستعدا للتصديق بأن quot;للحمير أجنحةquot; على حد قول الكاتب الأمريكي quot;ميكل موورquot; ،طالما أن التلفزيون يقول ذلك.
كما يقولquot;ميكل مورquot; مؤلف quot;أهلا بكم في الولايات الأمريكية الغبية quot; في كتابه quot;هلموا إلى الملجأquot; في هذا الصدد، بأن الأمريكيين يشعرون بفداحة ممارسات نظام الرئيس quot;بوش الابنquot; لكنهم لا يستوعبون ذلك بوعي تام يمكنهم من رد الفعل الملائم. ويرد quot;ميكل مورquot; هذا العجز إلى ما يسميه بحالة الجهل الإجبارية المفروضة على هذا الشعب منذ المدرسة، حيث لا يتعلم الفرد الأمريكي شيئا يذكر حول بقية العالم. وتتواصل هذه الحالة مدى الحياة بسبب تجاهل وسائل الإعلام لكل معلومة ترد من الخارج ولا تهم مباشرة الولايات المتحدة الأمريكية.
كما يؤكد quot;مورquot; بأن عشرات الآلاف من الأمريكيين يعارضون سياسة quot;بوشquot; لكن الناس لا يعرفون بوجودهم لأن وسائل الإعلام تتجاهلهم.

أما إيران فهي تلعب على وتر الفخار الفارسي التقليدي الشرس، القادر على تحويل أعداء النظام إلى أبواق دعاية لصالحه. كما أنه يذكي باستمرار نار الذاكرة الجماعية الإيرانية المسكونة بجثث مئات الآلاف من أبنائها الذين ذهبوا ضحية الحرب مع العراق. ويعتبر الإيرانيون هذه الحرب انتقاما سلّطته أميركا عليهم عبر الذراع العربية وأنهم إذا تقاعسوا في مساندة نظامهم فإنهم سيتحملون حربا مشابهة يعتقدون أن أمريكا تجهّز لها وتنوي شنها بالوكلة عبر العرب مرة أخرى.

والحقيقة أن إيران مبهرة حقا. فهي تستحق لقب quot;الشاطر حسن عن جدارةquot; لنجاحها في الحصول على أسلحة أمريكية عبر سماسرة إسرائيليين خلال حربها مع العراق في ما عرف بقضية 'إيران جيتquot;.
كما نجحت في الحصول على صفقة أسلحة فرنسية لقاء توسطها لدى quot;حزب اللهquot; لإطلاق سراح الرهائن الفرنسيين في لبنان، في الوقت الذي كان فيه الأمريكيون والفرنسيون يسلحون نظام صدام حسين في حربه ضد إيران.
والحقيقة أيضا أن إيران صعبة الهضم، فهي تقوم بالدفاع عن نفسها على مستويين على الأقل. من على أرضها بالكلام ومن على أرض غيرها بخلق القلاقل بين الطوائف وكذلك بالصواريخ المزروعة على رأس أصبع الجليل. وقد قدمت في الشهر الماضي ما يزيد عن ألف قتيل لبناني قربانا لمشروعها النووي.
وهومشروع، مشروع جدا بالنظر إلى البؤرة الجغرافية التي تنتمي إليها والموبوءة بمرض أسلحة الدمار الشامل من الهند إلى إسرائيل، مرورا بباكستان التي لا تكن حبّا جارفا لجارتها الشيعية إيران. لكن هؤلاء مسموح لهم بما لا يسمح لإيران باعتبارهم من أهل البيت الأمريكي.
ومشروع إيران شرعي أيضا على المستوى المعرفي. فأمريكا لا تطالب إيران بالتوقف فقط على تخصيب اليورانيوم بل تطالبها أيضا بإغلاق معامل البحوث في هذا المجال. فحتى العلم أصبح له مكيالان في زمن غطرسة بني صهيون.
لكن، وكما أسلفنا، فإن إيران قادرة على الخروج من حلبة الصراع دون أضرار جسدية. فهي تجيد لعبة فرّق تسد بين أبناء عشيرة quot;محور الخيرquot;. فللألمان وللروس وللفرنسيين مصالح اقتصادية خالصة في إيران، عكس أمريكا التي أطردت من جنة فارس من 27 عاما، وظلت تائهة في الصحراء تنتظر المن والسلوى إلى اليوم.
كما تجيد إيران لعبة الخطاب المزدوج، بين التّشدد والمرونة، التي تسمح بها بنية اللغة الفارسية العريقة في التحضر وفي الصراعات الدولية.
وتجيد كذلك لعبة تقاسم الأدوار بين عقلاء الحكومة والبرلمان، من جهة، والرئيس أحمدي نجاد من جهة أخرى.
وهي أيضا ماهرة في لعبة الموازنة بين الرضوخ وحفظ ماء الوجه.
ولا يجب أن ننسى أن الفرس لا يقهرون في لعبة الشطرنج وأنهم ابتدعوا مقولة quot;الشاه ماتquot; وطبّقوها.
ولذلك فلا خوف عليهم ولا يحزنون.
ألم أقل لكم أنهم مبهرون.

د.سلوى الشرفي
http://www.geocities.com/salouacharfi/index.html
[email protected]