كانت زيارة أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني لبيروت وجولته في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية حدثاً أستثنائياً بكل معنى الكلمة. أنّه حدث أستثنائي من منطلق أنّ لا سابق لمثل هذا النوع من الأقدام لدى معظم الزعماء العرب الذين أعتادوا التفرج على المعارك من بعيد والتصفيق للمنتصر والتبروء من المهزوم.
في لبنان، يمكن الحديث عن أنتصار لquot;حزب اللهquot; نظراً ألى أنّه يمكن القول أن المقاومة صمدت في وجه العدوان الأسرائيلي، على الرغم من الخسائر الضخمة التي لحقت بالبلد. كذلك يمكن القول أنّ المقاومة حالت دون تمكّن العدو من تحقيق أهدافه وهي قدمت بذلك نموذجاً يقتدى به عما يمكن أن يفعله أناس على أستعداد للتضحية بالرخيص والغالي من أجل تحقيق ما يؤمنون به. وهذا يعني أنّ في الأمكان البناء على ما تحقق في لبنان في أتجاه يخدم البلد الصغير ويحول دون تعرّضه لعدوان جديد في وقت يبدو واضحاً أن القيادة العسكرية والسياسية في الدولة اليهودية تعاني حالاً من الضياع. ومثل هذه الحال يمكن أن تؤدي ألى مزيد من المغامرات العسكرية تلحق مزيداً من الأضرار بلبنان واللبنانيين. فعندما تضع قيادة مثل القيادة الأسرائيلية نفسها في وضع محرج، لا يعود أمامها ما تفعله عندئذ سوى التصعيد، لعلّ ذلك يسمح بأخراجها من المأزق الذي وجدت نفسها فيه. منذ متى كان التصعيد العسكري وغياب الخيارات الأخرى سياسة؟

جاء أمير دولة قطر ألى بيروت بكلام مفهوم وواقعي في آن. وليس صدفة أنّه زار القاهرة ودمشق قبل توجهه ألى العاصمة اللبنانية نظراً ألى أنه يعرف تماماً أن الوقت ليس للماحكات بين العرب، وأنّ أكثر ما يفيد الموقف العربي هذه الأيام هو أحتضان المقاومة وليس الظهور في مظهر المتضايق مما تحقق ومن عدم قدرة أسرائيل على الأنتصار في ما سمّاه ألشيخ حمد بن خليفة الحرب السادسة. والواقع أن أحتضان العرب للمقاومة في لبنان والعمل على أيجاد مخرج من الوضع الراهن بعيداً عن التشنّجات، يساعد ألى حدّ كبير في في التخفيف من حال الأحتقان التي تعمّ الشرق الأوسط عموماً والتي في أساسها الوضع العراقي. هذا الأحتقان ناجم أوّلاً عن الفشل الأميركي في العراق وفشل السياسة الأميركية في هذا البلد منذ اليوم الأوّل لأحتلاله في نيسان- أبريل 2003 ، تلك السياسة التي لم تؤد سوى ألى أثارة الغرائز الطائفية والمذهبية والقومية على نحو لا سابق له في المنطقة العربية المطلوب أميركياً أعادة رسم خريطتها.

كان لا بدّ من حضور زعيم عربي ألى لبنان يقول لquot;حزب اللهquot; أن هناك أعترافاً عربياً وليس تضايقاً مما يعتبره الحزب أنتصاراًً بغض النظر عن كلفة الأنتصار وأنعكاساته على لبنان. هذا الوقت ليس وقتاً لتصفية الحسابات مع الحزب وما يمثّله أو لتصفية الحسابات العربية ndash; العربية أو الدخول في متاهات النزاعات التي ترتدي طابعاً مذهبياً بمقدار ما أنّه وقت السعي ألى مساعدة لبنان في تجاوز المحنة التي يمرّ فيها. وذلك يكون عن طريق تمكين جميع اللبنانيين من الشعور بأنّهم خرجوا منتصرين وأن النصر يتحدّث عنه quot;حزب اللهquot; هو ملكهم كلّهم وأن لا غالب ولا مغلوب في البلد. والحقيقة التي لا مفرّ منها أن من بين الأسباب التي ساعدت quot;حزب اللهquot; في القول أنّه خرج منتصراً تلك الوحدة التي أظهرها اللبنانيون من كل الطوائف والمناطق والتي تجلت في أحتضان بعضهم للبعض الآخر خلال العدوان الأسرائيلي. لقد فتح اللبنانيون البيوت والمدارس وكلّ الأماكن التي في أستطاعتها أستقبال نازحين كي يوفّروا أمكنة لائقة ينام فيها ضحايا العدوان الأسرائيلي الذين أضطروا ألى ترك قراهم وبلداتهم والتوجه ألى مناطق آمنة.

منذ اليوم الأوّل للعدوان، كان ملفتاً أن كبار المسؤولين القطريين أمتنعوا عن أتخاذ أي مواقف يمكن أن يكون لها طابع أستفزازي في مجال أثارة النعرات المذهبية. وعندما توفّرت الفرصة لقطر، العضو العربي في مجلس الأمن، توجه النائب الأوّل لرئيس الوزراء وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني ألى نيويورك على رأس وفد عربي سعياً ألى تحسين صيغة القرار الذي كان متوقعاً صدوره عن مجلس الأمن من أجل وقف العمليات العسكرية في لبنان. وتكفّلت جهود الشيخ حمد بن جاسم في الوصول ألى صيغة لقرار حمل الرقم 1701 يمكن أن تصبّ في خدمة لبنان على الرغم من الثغرات الكبيرة التي تضمّنها النصّ. وربّما كان الدليل الأوّل على أن القرار يمكن أن يكون في مصلحة لبنان، تلك الرغبة الأسرائيلية في خرقه في أستمرار بغية تأكيد أن الدولة اليهودية لم تخسر الحرب وأنّها قادرة على أستئنافها ساعة تشاء.

ولكن أبعد من ذلك كلّه أن زيارة أمير قطر لبيروت، اظهرت أن لا مفرّ من العودة ألى السياسة في نهاية المطاف وأن هذه العودة لا تكون سوى عبر التفكير في كيفية تحقيق السلام الشامل. وفي هذا السياق، يمكن فهم ترديد الشيخ حمد بن خليفة أنّ فرص السلام القائمة حالياً أفضل من أي وقت خصوصاً بعدما تبين لأسرائيل أن القوة لا يمكن أن تفرض حلاًّ في المنطقة. لقد أظهرت الحرب الأخيرة بكل بساطة حدود القوّة، خصوصاً القوّة الأسرائيلية، فلماذا لا يعود الجميع ألى طاولة المفاوضات ويستعيد كلّ ذي حق حقّه أستنداً ألى قرارات الشرعية الدولية بدل العودة ألى لغة السلاح التي لا أفق لها؟ ربّما كانت تلك الرسالة الأهم التي يمكن أستخلاصها من الزيارة التاريخية التي قام بها أمير دولة قطر لبيروت وهي الأولى لرئيس دولة عربية أوغير عربية للبنان منذ العدوان الأسرائيلي. أنها ليست مجرّد رسالة تضامن مع لبنان، وليست مجرّد رسالة تطمين عربية ألى quot;حزب اللهquot; وليست دعوة ألى تجاوز الخلافات والحساسيات العربية فحسب، أنّها أيضاً وقبل كلّ شيء رسالة ألى أهل المنطقة والعالم فحواها أن ثمة مخرجاً للجميع، بمن فيهم أسرائيل، من المأزق الراهن. أسم هذا المخرج السلام الشامل. هناك فرصة لتحقيق السلام الذي في مصلحة الجميع. هل من يريد الأستفادة منها؟ كلّ ما يمكن قوله أن دولة صغيرة مثل قطر قامت بما تعتبره واجباً عربياً أوّلاً في وقت هناك من يعتقد أن لا مفرّ من جولة عسكرية جديدة يبدو أكيداً منذ الآن أنها ستلحق مزيداً من الأضرار بلبنان واللبنانيين من دون أن يعني ذلك أنّ أسرائيل ستكون قادرة على فرض أرادتها على الآخرين. هذا زمن ولّى ألى غير رجعة. وما دام السلام الخيار الوحيد الطروح لماذا عدم الذهاب أليه اليوم قبل الغد؟