بصرف النظر عن التعريفات الدارجة فيما يخص هذه المصطلح، فإن الثقافة بما تعنيه من فكر، وتقاليد، وعادات، وأنسقة تفكير، تشكل الحقيقة الخافية للجماعات، والأحزاب، والشعوب، والحركات، بل هي باطن التاريخ، ومن هنا، فإن تشخيص المشاكل وطرح الحلول بالنسبة للمجتمعات، و الطوائف، والأفراد، والأحزاب، إنّما تبدأ من تحليل ونقد وتفكيك النظام الثقافي، ونقد الثقافة.
الثقافة المسلمين الشيعة بشكل عام هي ثقافة عقيدة بالدرجة الأولى، تركّز على النسق العقدي الخاص بأهلها، وقد كيّفت المنطق والتاريخ لخدمة هذه العقيدة بغض النظر عن تقييمها الموضعي والعلمي، متواصلة بطبيعة الحال مع الإيمان، الإيمان العميق، وقد كان للخوف دوره في هذا التوجه، وهو خوف مشروع، لأن عقيدة الإنسان أثمن ما يملكه في هذه الحياة، والاضطهاد كان له دوره هو الأخر في هذا الحصر الثقافي إلى حد ملموس، فالمضطهد قد ينكب على الثقافة العقدية أكثر مما ينكب على الثقافة السياسية، أو على الثقافة الحقوقية،يلوذ بالعقيدة، يلتف حولها، يحميها وتحميه.
هذا الموقف صائب، بل هو ضروري سواء كان هنا ك خوف أو أمان، سواء كان هناك اضطهاد أو لم يكن، لان عمر الإنسان عقيدته، ولكن ليس على نحو المطلق. فإن ثقافة العقيدة مطلب جوهري، وهو حق، شرط أن لا ينسينا ثقافة الحقوق، ولماذا نفصل بين ثقافة العقيدة و ثقافة الحقوق؟.
لقد عاش الشيعة عبر التاريخ نوعين من المأساة بشكل عام، المأساة الأولى، مأساة الحذف العقدي، فهم من أتباع ذلك اليهودي المتآمر، لا يحق لهم ممارسة عقائدهم بحرية، يخافون الصلاة كما يؤمنون، كما ثبت لهم في شريعة نبيهم، والمأساة الثانية هي مأساة الحذف الوجودي، تجسّد بأنهار الدم في العصر الأموي والعباسي والعثماني والمملوكي و (الوطني)، فضلا عن حرمان المسلم الشيعي من الوظائف المهمة، ودرجه في خانة الإنسان الهامشي، الذي يجب أن يكون مواطنا من الدرجة الثانية، و التاريخ يشهد، بأن ليس هناك ارتباطا دائماً ومصيرياً بين النوعين من المأساة، فيما حصل ذلك بالنسبة للشيعة ، فإن الحذف ا لعقدي الذي يرجع إلى مئات السنين تحول إلى حذف وجودي بامتياز، لقد تحول الجزئي إلى كلي، من العقل إلى الوجود، إنّ الحذف العقدي كان بداية، ثم تحول إلى حذف وجودي، رغم عدم العلاقة الضرورية بينهما على صعيد المنطق المجرّد، ولم يلتفت الشيعة إلى هذه النقطة المهمة، وانصبت الجهود على حماية العقيدة، فهل كان هناك شعور داخلي بأن حماية العقيدة يعني حماية حملتها من القتل والإبادة والتهميش؟
على أن هناك نقطة جديرة بالانتباه، العقيدة تصمم المجتمعات والطوائف والأحزاب من الداخل، لأنها البعد (الجواني) من هذه الكيانات والكتل البشرية، وكان من المفروض أن يتحوٍّل التنزيه الإلهي في ثقافة الشيعة (صفات الله عين ذاته، عصمة الرسول وعصمة إئمتهم، العدالة ا لمهدوية المنتظرة...)... أ ن تتحول إلى عينات حقوقية في الخارج، أي أن تكون عبارة عن حركة مادية على صعيد الحقوق، حقوقهم، فضلا عن حقوق الإنسان بشكل عام، ولكنَّها للأسف الشديد تخلَّفت عن أداء هذا الدور على الأرض، فيما نجد أن خطب علي بن أبي طالب تتميز بإبراز ثقافة الحقوق (وصية الأشتر...)، ولماذا ننسى وتلك هي وصايا الأمام الجميل علي بن الحسين السجاد تجسد روحها بمشروع الحقوق قبل أي شي آخر، حق الله، وحق النفس، وحق الراعي والرعية، وحق الآخر...!
تلك هي ترشحات العقيدة على لسان أهلها الأولين !
أعتقد أن هذا التخلف بين ثقافة العقيدة من جهة وثقافة الحقوق من جهة أُخرى رغم شبه العلاقة ا لعضوية أو المنطقية بينهما بالنسبة للشيعة إنما كان بسبب عدم تبحرهم في فهم تلكم العقيدة التنزيهية، لم يعكسوا ذلك على الصعيد المادي، كانت ثقافة حوارية مع العقل، حوار مع المفاهيم، فيما تحولت عقيدة (التجسيم) لدى الأخ الطرف السني إلى فعل (تجسيمي) حقوقي على الأرض.
نعم لقد كانت هناك ثورات شيعية، ولكنها ثورات عاطفية في أغلب الأحيان، ولم تصدر عن ثقافة الحقوق المبرمجة في نسق فكري متغلغل في الضمير، كانت عاطفة وليس ثورة، كانت رد فعل على الظلم و الطغيان، وليس ثورات ذات نسقية فكرية تتقوَّم بثقافة الحقوق.
كان بإمكان التنزيه الشيعي أن يتحول إلى ثورة مادية على الأرض، ثورة حقوق، تماما كما تحول التوحيد في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله، بل كما هو التوحيد كما يطرحه القرآن الكريم، فهو فكر تنزيهي بالدرجة الأولى، ولكن تحول إلى طاقة حقوقية عارمة على الأرض. وكان ذلك من أهم العوامل التي شيَّدت الحضارة الإسلامية و أمدّدتها بالقوة والمنعة والاستمرار.
أن الدفاع عن الحقوق على الأرض لا يتم بالدفاع عن العقيدة، كلاهما له مجاله وأساليبه، والذي غرقنا به هو الدفاع العقدي،فما كان إلاّ أن أُستغِلَّ هذا الجدب على صعيد الدفاع الحقوقي، كان بالإمكان أن تتحول إلى نضال في سبيل الحقوق بشكل عام،حقوقهم، وحقوق الأخ السني فيما إذا تعرض للظلم، وحقوق الأخ المسيحي الذي يُضطهد باسم التوحيد، وحقوق الأخ اليهودي الذي يضطهد بجريرة الصهيونية في كثير من الأحيان، وحقوق الأخ البوذي الذي يذبح بتهمة الشرك. حقوق كل إنسان مهمش، حتى لو كانت (مومس) زقاق قذر، فضلا عن (مومس) صالونات و بلاطات، فهي لها أيضا حقوقها المهضومة، بل هي أكثر بني البشر تعرضا للظلم...
ثقافة المسلمين الشيعة يجب أن تتخطى ثقافة العقيدة، لتتواصل مع ثقافة الحقوق، حقوق اجتماعية واقتصادية وسياسية، ليست ثقافة تشقيق وتفصيل عقائديين وحسب، بل ثقافة حقوق طبيعية أولا، وثقافة حقوق مهضومة ثانيا، ثقافة مطالبة بهذه الحقوق ثالثا، ومن ثم يجب أن يتحولوا إلى دعاة حقوق، بلا فصل، بلا تمييز، لكل الناس، فأن أي إنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.
يتبع