اذا ما حاولنا تقديم وصفا واقعيا لنتيجة الهجوم الاسرائيلي على لبنان في حرب 12 تموز (يوليو) 2006، اثر تعدي حزب الله على اسرائيل داخل الخط الازرق وتكلل بخطف جنديين اسرائيليين، فانه تكون اسرائيل قد بائت باخفاقات بهجومها المضاد في حربها على لبنان ولكنها لم تهزم، والدليل، امتلاك اسرائيل مفاتيح الجو والبر والبحر اللبناني. وفي المقابل ماحققته المقاومة اللبنانية (بفضل نهج حرب العصابات) من انجازات التصدي البطولية على الارض لم يخرجها منتصرة، والدليل، ابعاد حزب الله الى ماوراء نهر الليطاني، ومنع تواجده على الجنوب اللبناني، وتوالى خروج جنود القوات الاسرائيلية الخمسة عشر الف مقاتل تباعا من الجنوب اللبناني الذي تم احتلاله وبدء تسليم الارض للجيش النظامي الذي طال امد انتظار وصوله. وقد استقبل الجيش بفرحة عارمة من ابناء الجنوب، وفي خضم تلك الفرحة ورش الرز، ارسلت رسالة ضمنية موجهة الى حزب الله، ان لا سلطة الا للدولة ولا سلاح الا في يد الجيش اللبناني. وبهذا الوصف الدقيق نكون قد تجاوزنا المزايدات والمبالغة من بعض الاطراف العربية التي حاولت استثمار الحرب لصالحها كمثال دولة من دول الطوق التي استعدت العرب بوصفها لهم بانصاف المواقف وانصاف الرجال، او كتلك الدولة التي ارادت استثمار الحرب اللبنانية للاستهلاك الشعبي المحلي لتحقيق هدف سياسي انتخابي مقدمة على انتخابات رئاسية في سبتمبر القادم. وتشتد تعاظما المزايدات عندما تعرضها وتؤججها الميديا مكينة الاعلام العربية في وصف اقل مايقال عنه انه دون المستوى ويبتعد عن الرصانة المهنية الاحترافية المطلوبة في رصد الاحداث صحافيا كتلك القناة الفضائية، قناة quot;الرأي.. والرأي الآخرquot;.

واذا ما حاولنا ان نكشف ايضا هدف الحرب الحقيقية، فأننا لن نبالغ اذا ماقلنا ان هناك سيناريو حرب معد ومحضر قادم ضد ايران بسبب ملفها النووي الشائك، وكذلك السعي للحد من نفوذها السياسي والعسكري في منطقة الشرق الاوسط. فالحرب على لبنان قد تمت لتأمين الجنوب اللبناني ومنع عناصر حزب الله من التواجد على الحدود مع اسرائيل بتطبيق خطة نشر خمسة عشر الفا من الجيش اللبناني ومثلها من قوات اليونيفيل المعززة، وبالتالي ذلك سيمنع اي هجوم مباشر على اسرائيل ويحد من رشقات صواريخ حزب الله (ذراع ايران الطولى في لبنان) حال اشتعال حرب خليج اخرى وضرب ايران من قبل الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها. ايران متنبهة لمثل هذا السيناريو، ولذا تقوم بمناورات عسكرية مكثفة وترسل اشارات وتهديدات بالرد الصاروخي الذي سيصل الى تل ابيب. فضلا ان الذريعة لاتزال قائمة باعلان ايران عن عدم عزمها ايقاف برنامجها النووي على لسان الناطق الرسمي لوزارة الخارجية وذلك قبيل انتهاء المدة المحددة للرد حول المقترحات الاوروبية في نهاية اغسطس الحالي. لقد اصاب الرئيس المصري حسني مبارك حين ذكر لصحيفة اخبار اليوم المصرية ان اي ضربة محتملة على ايران قد تنشر الفوضى وتفقد السيطرة على الشرق الاوسط، اي ان سيناريو الحرب المقبلة اصبح واردا وملحا في الوقت الراهن اكثر من ذي قبل، ولكن مبارك لم يطرح بدائل حلول لملف ايران النووي، وكيفية الحد من النفوذ الايراني المنتشر والمتوسع ضد العرب بعد ان خدمت الستراتيجية الامريكية ايران جراء قصفها افغانستان واسقاط النظام العراقي تسبب في نفوذ الشيعة الموالية لايران في العراق. ويبدو من الجانب الآخر ان العمل جار على فك الارتباط بين المحور السوري الايراني عندما قررت وزيرة الخارجية الاسرائيلية تشكيل مجموعة عمل للحوار برئاسة ياكوف دايان حول امكانية بدء التفاوض مع الجانب السوري لاحلال سلام دائم بين البلدين مما سيساعد زمن التحاور بين الجارين على ابقاء ايران في وضع منعزل ومفرض الحصار عليها دوليا من قبل مجلس الامن عند اجتماعه لهذا الغرض بسبب ملفها النووي (سيئ الصيت)، حتى احانة ساعة الصفر لدى الدول الكبرى والقيام بالضربة العسكرية المعدة سلفا، ووقف مراوغة ايران المستمرة بكسب المزيد من الوقت بهدف تحقيق الغاية من برنامج تخصيب اليورانيوم مما قد يجعلها رقما صعبا تفاوضيا والاوسع نفوذا وانتشارا في الشرق الاوسط الجديد القادم. ويبدو ان الضربة العسكرية القادمة ستكون مختلفة هذه المرة والتي قد يقدم فيها النظام الايراني لاستخدام اسلحة (قذرة) كيماوية مما قد يجعلها تواجه ضربة نووية (محدودة) كالتي وقع بها الرئيس الامريكي جورج بوش قرارا بالسماح بأستخدامها عند الطلب حال التهديد المباشر، ومايجعلنا نعتقد بسيناريو حرب كهذا قائم هو ان النظام الايراني يسعى حثيثا منذ زمن انتهاء الحرب الايرانية العراقية لبناء ترسانة من الاسلحة وتطوير قدراته العسكرية الهجومية وليس الدفاعية فقط، وكون بناء نظام الدولة مبنيا ايديولوجيا، اذ تعاود اليه فكرة تصدير quot;الثورة الاسلاميةquot; من وقت الى آخر. ويختلف النظام الايراني عن نظام صدام حسين، اذ ان النظام العراقي زمن الرئيس المخلوع كان قد انهكته الحروب المتواصلة وكسره طول امد الحصار المفروض عليه سابقا وكان نتيجة ذلك نظام محتضر لم يعد يملك آليات الدفاع والولاء الحقيقي للنظام فسقط بسهولة ويسر. بينما النظام الايراني نظام له اذرع قتالية متعددة في المنطقة وله ولاءات دينية موزعة في بلدان عربية وبرنامج نووي طموح مستمر. ومن هنا اية مخاطرة بضرب المفاعلات النووية في العمق الايراني وكسر طموح الدولة الايديولوجية التوسعية واذلالها بضربة مهينة ستجعل منها نظاما انتحاريا سيستخدم فيه كل امكانات الرد المحتملة التقليدية وغير التقليدية. والسيناريو الاقل احتمالية انه قد يعتمد كثيرا بعد الضربة الجوية المطولة الشاملة في العمق الايراني وتدمير المفاعلات النووية سيعتمد على انقلاب في الداخل الايراني يقوم به ايرانيين ناقمين على نظام الائمة، من دعاة الديموقراطية والحرية المناهضين للارهاب الدولي الاصولي.
لقد بدأ يلوح في افق السياسة العربية منطق جديد يستند الى الواقعية السياسية على الارض ويقرأ الاحداث بمنطقية واعية تخلت عن مثيرات العواطف المعتادة والشعارات الشاحذة للهمم بمناسبة وغير مناسبة، وقد تشكل مثل هذا الوعي السياسي الواقعي لدى دول مثل، مصر، السعودية، الاردن، الامارات والكويت، اذ اعلنت هذه الدول وقوفها الى جانب الحكومة اللبنانية وشعبها، منذ الوهلة الاولى للحرب وساهمت بشكل فعال في العمل على وقف الهجوم الاسرائيلي لدى مجلس الامن، وادانت في الوقت ذاته ولاول مرة الفصيل اللبناني الذي خطف قرار الحرب والسلم، ووصفها العملية بالمغامرة الغير محسوب عواقبها، واشارت الى تجاوزات ومزايدات حزب الله الذي جر لبنان الى الدمار الشامل ويسعى لجر الدمار الى كامل المنطقة برمتها، وكون حزب الله لايمتلك قراره السياسي بل مرتهن لسياسات خارجية ينفذ مخططاتها الخاصة، والتي لاعلاقة للحكومة والسياسة اللبنانية بها بعد رحيل اخر جندي سوري من لبنان، وتصحيحا لهذه النقطة، تتحمل الحكومة اللبنانية جزء كبيرا من مغامرات حزب الله اذ، كان يتوجب عليها ان تنصاع للقرار الدولي 1559 الذي ينص على نزع سلاح جميع المليشيات ونشر الجيش اللبناني على كامل ارض لبنان. وبما ان الكل يعلم ان الحكومة اللبنانية ليست قادرة على تنفيذ القرار الدولي، كانت الحرب هي المدخل لتطبيق القرار، وهذا مابدأ يتشكل على ارض الواقع ولو مبدئيا بنشر الجيش في الجنوب اللبناني، بحسب القرار 1701 ولكن مع الاسف بعد دمار معظم بنية لبنان التحتية وخسائر في الارواح والممتلكات. ويخشى ان لاتتمكن الدولة اللبنانية من نزع سلاح حزب الله كمرحلة قادمة حتمية ضرورية تدرج كمهام في ظل سيادة الدولة واستقلالها، الا من خلال دمار حرب اخرى تأتي على كل لبنان، فهل استوعب اللبنانيون الدرس المكلف غاليا؟.
تداعت نتائج اثار الحرب على لبنان في المجتمع الاسرائيلي الديموقراطي بمؤسساته الرسمية والحزبية والمدنية وتعالت الاصوات المطالبة بالمحاسبة ولايستبعد تقديم استقالات واسقاط حكومة وغيره مادام المجتمع والدولة ديموقراطيا، ومناخه صحي، والآلية الناقدة للذات المتبعة سليمة، وهذا في واقع الامر لايعطي مؤشر لنتائج هزيمة اسرائيلية في الحرب كما قرئتها غالبية عربية متابعة للحدث واعلنتها في خطابات حماسية او تحليلات سياسية تخطئ غالبا في استقراء الواقع السياسي والعسكري الميداني بغية تحقيق الحلم الوهمي المزمن بالانتصار على اسرائيل ومن خلفها امريكا وانما ذلك ينم على تفاعل المجتمع الاسرائيلي مع نسق الدولة بنظامه الديموقراطي. فمن يحاسب حزب الله و الحكومة اللبنانية -اسوة كما يجري في اسرائيل- على انفراد حزب الله بقرار الحرب والسلم وجر لبنان الى الدمار الهائل ونكبة الخسارة الفادحة في الارواح والممتلكات. او على الاقل لماذا لاينفى حسن نصر الله عدة خطوة من لبنان الى الجولان المحتل

كاتب وباحث اكاديمي
[email protected]