أصحو لأقلب موتاي
على قارعة الطريق.
لا أحد لملمني
ولا أحد أطفأ في قلبي الحريق.

إنه الموت بالمجان، فواجه موتك غير مختار. موت عشوائي لا جديد فيه غير الموت في صوره البشعة التي بتنا نألفها مع هبوب رياح الحرية والديمقراطية المعلبتان بسلوفان العولمة. إنه موت غاشم لأنك لا تعرف أعداءك، فهم كثر في عراق اليوم. بعثيون يتباكون على فقدان نعم السلطة والجاه فيحرقون البشر ضحايا الخسارة وفقدان الأمل يالعودة، وكل ذلك باسم المقاومة ومناهضة الاحتلال، تكفيريون جاءوا ليضعوا الحد على quot;رافضةquot; انتبهوا (الآن؟) إلى أن يصفوا معهم حساباً تأخر الف عام! أمريكيون لم تعجبهم التشكيلة الدينية التي تولت زمام السلطة، كونها ليست على المقاسات الأمريكية كما أراد البيت الأبيض، ناهيك عن الحسابات القذرة لدى المخابرات الأمريكية وما أدراك ما هي!!ثم ما أدراك بالمخابرات السورية أو الإيرانية أو... أو...
من لنا نحن المستجيرين من الرمضاء بالنار ومن النار بالجحيم؟ من لنا؟
أربع عمارات سكنية وتجارية كل واحدة تبعد عن الأخرى كيلومتر أو أقل أو أكثر تهدم إلى الأرض سوية في أقل من دقائق معدودة، وبالتكنيك الغادر ذاته، وهو أن تفجر سيارة أو عجلة نارية ثم تتبع بعد أن يتجمع الناس لأخلاء الضحايا بجحيم صاروخي أكبر لإيقاع أكبر ما يمكن من الضحايا في المكان نفسه.
المذهل والعجيب، أن يتم تحليل أسباب هذا الدمار الشامل على أنه نتيجة انفجار قنينة غاز!!! هكذا جرأ المحلل الأمريكي تعليل أسباب الفاجعة مستخفاً غاية الاستخفاف بعقول الناس وبكل اجهزة الإعلام وبكل دماء الضحايا ودموع الأهالي وشظايا الصواريخ البعيدة المدى وعصفها والتراب الذي عفر الشهداء وأشلاءهم كما عفر رؤوس أمهاتهم وآبائهم وباقي ذويهم واصدقائهم. ولم تكلف كل وسائل الإعلام نفسها عناء تفنيد هذا التحليل والرد عليه ومحاولة معرفة دواعي ذلك التضليل! لم يخرج لنا محلل عسكري، مثلما كانوا يتبارون في وقت ما، ويحلل لنا أسباب الانفجار ونوع الاسلحة التي يمكنها أن تفعل هذا الفعل؟ كيف تأتى لأنبوبة غاز سائل أن تطيح باربع عمارات من الكونكريت المسلح بالحديد بينما تبعد الواحدة عن الأخرى كيلومتر؟! أقول لكم من لنا؟
كان الإعلام العربي في غفلة أو تغافل عن هذه المجزرة منشغلاً بحرب لبنان ومجزرة قانا. ليس من الأخلاقي المقارنة بين المجزرتين، ولكن لماذا هذا الكيل بمكيالين؟ وصل عدد شهداء مجزرة الزعفرانية إلى اكثر من 76 شهيدا وأكثر من مائة جريح، وهو الرقم الذي لم تفصح عنه المصادر الرسمية فيما تعرفنا عليه من مستشفى الزعفرانية الصغير نفسه. وجل الضحايا من العامة بين صبيان وصبايا وأطفال ونساء وو...عراقيون بأطيافهم العديدة من سنة وشيعة ومسيحيين، إنه السوق والسكن يا عالم!
وإذا كان قد توفر لمشردي حرب لبنان القصيرة ومهجريها بعض الملاجيء والمؤونة والتعويض العاجل في السكن والرزق، فلم يكلف أحد من المسؤولين زيارة ضحايا الزعفرانية ومشردي حرب العراق الطويلة عموما ومهجريها إلا ما ندر وعلى استحياء من دونما تعويضات تذكر بينما خسر المنكوبون بالقصف أولادهم وأهاليهم فضلاً عن خسارتهم لمصادر رزقهم اليومي؟
تقضي يومك تقفز من مجلس عزاء لآخر. الجالسون في تلك المجالس تجدهم مستريبين حتى ممن يأتون لقراءة الفاتحة، مخافة أن يندس من بينهم أحد المفخخين، لذلك وضعوا الحواجز لمنع السيارت من الاقتراب من خيمة المجلس وحملوا ابناءهم الأسلحة الخفيفة وأوقفوهم بعيدا لتفتيش من يشكون بأمره أو يواجهونه بالسلاح إن اقتضى الأمر. البعض من اسر الضحايا لم يستطيعوا تامين تلك الحماية الذاتية، فلجأوا إلى الجوامع لقيام مجالس الفاتحة، وهو الأمر الذي لم يألفوه، إذ يحز في أنفسهم أن لا يذبحوا الخراف ويقدموا الطعام لثلاثة أيام فدية للمتوفي! وتجد في تلك المجالس عينات كاملة من المجتمع العراقي، ضباط متقاعدون ورجال مصارف ومهندسون وإعلاميون وشيوخ عشائر وحكماء وعمال بناء وفنيون ومدرسون .. ومن المذاهب والأديان والقوميات كافة. وكلهم انحدروا من محافظات مختلفة إلى بغداد. فتجد من جاء من البصرة والناصرية والعمارة مثلما تجد من جاؤوا من الرمادي وديالي والكوت والنجف والموصل.. وتدورالحوارات والنقاشات الحادة والهادئة. إنها حكاية عجيبة حقاً فأنت لم تجدهم مختلفين أو في خنادق كما تصورهم الفضائيات في أخبارها المرتجلة، ساخطين نعم ولكن في الغالب لا نوايا حتى للانتقام لذويهم ممن غادروا الدنيا إلى الاخرة، ليلحقوا بالحلاقين والخبازين وبائعي الثلج ومصلحي الإطارات المثقوبة والأساتذة الجامعيين والصحفيين وعمال البلدية وضباط الطيران والأطباء... ترى أي مرفق من مرافق الحياة كان القتلة من أحفاد دراكولا ونيرون قد استثنوه؟!! ثمة طائفيون؟ نعم. غير قلة من المتعصبين عبئوا بالكراهية وغسلت أدمغتهم فغشيت أبصارهم عن العدو، بل الأعداء الحقيقيين، لم يعودوا يفرقون بين أهاليهم والغرباء، عميت أبصارهم الأموال السحت والمبادئ المزيفة والمقفلة عن التفكير حتى صارت ولاءاتهم للمتلاعبين بعقولهم في الداخل والخارج مخزية!!
كانت قد قذفتني الظروف من قبل في أتون حربين قذرتين هما الحرب الإيرانية والكويتية، جنديا ملزماً أن أكون أو تكون العواقب لا تحصى أقلها قطع الأذن أو الأنف إن لم يكن القتل باسم خيانة الوطن والتخاذل من مقاتلة الأعداء من عيلاميين أو أمريكيين أو من الجن الأزرق. وأثناء هاتين الحربين الطويلتين وبينما كنت في الغالب قريباً من خطوط النار الأمامية لم أشهد مثل بشاعة الحرب التي نعيشها في العراق اليوم، حيث الأعداء أكثر من الأصدقاء وحيث الأساليب أشد فظاعة وليس ثمة من رادع لا إنساني أو مدني أو ما شابه. الغصة هنا غصة والكرب هو الكرب بعينه، إذ تبلغ الوحشية أقصاها وإذ يتلفت العراقي نازفاً يطعنه القريب والبعيد طمعاً في دمه الأبيض الثري!
هل كتب ضمير العالم على العراقيين أن يعيشوا كل يوم بمجزرة نسميها اليوم مجزرة الزعفرانية وبالأمس سميناها الكرادة والمحمودية وحي الجهاد والثورة وسامراء والموصل وتكريت وتلعفر والنجف ..وو.. ماذا سنسميها في الغد لا سمح الله؟
ألا تستحق حال العراقيين اجتماع مجلس الأمن وجامعة الدول العربية من دون ما تصريحات مائعة وتسويفات ولقاءات باردة ووعود معسولة بينما تستمر ماكنة سحق البشر بالدوران؟!!
كيف تأتى لمؤتمر للمثقفين العرب عقدوه بصنعاء مؤخراً أن لا يتطرق لا من بعيد ولا من قريب للكارثة التي تحل بالعراق؟ لمصلحة من هذا التغاضي؟
لماذا لا تكاد تجد تحليلاً منطقياً وموضوعياً لحالة العنف في العراق، وليس سوى إدانات ساذجة للاحتلال، متناسين التدخلات الإرهابية من دول الجوار والصراع الدولي المقيت الذي جعل من العراق ساحة له، فضلاً عن يتامى السلطة السابقة والمتطرفين الذين يندسون كالجراد لحصد الأخضر واليابس من أبرياء الناس إنتقاماً من سلطة جديدة متحصنة بالجدران الكونكريتية الضخمة، إنهم يتصورون أنهم كلما قتلوا مزيداً من الأبرياء إنهارت السلطة، بينما السلطة بمنأى عن النار!! بهذا الوهم وهذه العقائد الجامدة تسفك الدماء وكأن لا شرائع إلهية أو وضعية يمكن الإلتزام بها لحل معضلة الحكم والقيادة البغيضة!
[email protected]