تملك كلّ الأنسجة في الجسم تقريباً نظامَ تأكسدٍ يُستعمل في تفاعلات هامّة. هذا النظام موجود في كل خلية ويكون عادة في جزيئة صغيرة في سايتوبلازم الخلية تدعى بالشبيكات الباطنية الهيوليّة Endoplasmic Reticulum أو بالأحرى في جزء منها يُسمّى بالجُسيْمات الدّقيقة Microsomes. هذه الجسيْمات تحتوى على مجموعة من خمائر (إنزايمات) وتدعى بالخمائر المؤَكسِدة مُتعدِّدة الوظائف Mixed Function Oxygenases التي تشكّل السايتوكروم P 450 Cytochrome العمود الفقريّ فيها، وتُستَعمل أيضاً مُرادفاً لها. وتتكون من بروتين مرتبط بجزيئة حديد يتم تأكسد المواد الكيميائية بواسطتها، وبهذا يتخلص الجسم منها بجعلها أكثرَ ذوباناً في الماء. وقد وجد بَرتْس وكَرانَـرمانBertz and Grannerman عام 1997 أنَّ 56% من 315 عَـقّـاراً أزيلوا (تأيّضـوا) بواسطة السايتوكروم P 450. دُعِيتْ مرحلة التأكسد هذه بالمرحلة الأولى وتليها المرحلة الثانية وذلك بارتباط المواد المؤّكسَدة بمجموعة كيميائية مثل كَلوكيورونايد Glucuronide ليزيد ذوبانها في الماء ومن ثمَّ طرحها خارجاً.
هذه الخمائر تنتشر بكثرة في خلايا الكبد، جهاز التأكسد الرئيس، وبكمية صغيرة في خلايا الأمعاء الدفيقة وفي بعض الأنسجة الأخرى.
أشكال السايتوكروم P 450
أكثر من ألف شكل. ولكنَّ الموجود منها في الإنسان لا يزيد عن الخمسين. تتنوع أو تتحور السايتوكرومات حسب حاجة الجسم الذي تتطلبه ظروف البقاء. في الواقع ثمّة معركة بين النبات والحيوان قائمة على إنتاج أنواع الخمائر للتنازع على البقاء. فمثلاً تُـنتِـج / تُطَـوِّر النباتات موادَّ قلويّـةً لتَحُـدَّ من استعمال الحيوان لها. والحيوانات بدورها تُنتِـج / تُطَـوِّر خمـائرَ جديدةً لتُـؤيِّضَ تلك الموادَّ الضّارة دون أن يُصيبَها أذىً وهكذا دوالَيك. ويظهر أنَّ عدد جينات السايتوكروم P 450كَـثُـرَ في الوقت الذي تنقّلت فيه الحيوانات من الماء (المحيط) إلى الأرض اليابسة قبل 400 مليون سنة.
تعدد الأشكال
فعاليّـة السايتوكروم P 450 تختلف من فرد لآخـرَ. قد يكون الاختلاف طفيفاً وقد يكون كبيراً تبعاً للبيئة التي يتواجد فيها الفرد وعرقه وطبيعة طعامه وشرابه واستعماله الأدوية. فهناك ما يُسمّى بتعدد الأشكال في الجينات ٍSingle Nucleotide Polymorphism أو اختصاراً (sniprsquo;s) يلعب دوراً كبيراً ndash; وهذا موضوع خاص بذاته ndash; ذلك أنَّ تغيرَّ قاعدة نتروجينية واحدة في الجين تجعل الفرد يختلف عن الآخر في تأيض أدوية مٌعيَّنة. فمثلاً مادة (كودئين)، التي تستعمل مُسكنَّة للآلام وفي السّعال أيضاً، تتحول في الجسم إلى مُسكِّن الألم المعروف (مورفين)، وهذا التحوّل يعتمد على تعدّد الأشكال هذا بين الأفراد، فقد يكون التحوّل بطيئاً أو سريعاً أو جزئيّاً. وكذلك مادة وارفارين (كومادين) Warfarin التي تُستعمل في علاج تخثّر الدم. فالنقص في سايتوكروم CYP 2C9، أحد أنواع سايتوكروم P 450، يؤدّي إلى نزيف حتى ولو كانت الجرعة المستعملة صغيرة جداً مثل نصف مليغرام يومياً.
وعدم فعالية خميرة CYP 2D6 التي تؤيِّض الكودئين، يؤدّي إلى عدم فعالية الكودئين وكثير من المواد التي تُستعمل في معالجة الكآبة. لذا نجد بعض الأفراد يتأثر بجرعة صغيرة وآخرين لا يتأثرون إلا بجرعات كبيرة معتمداً على (نشاط) خمائر السايتوكروم P 450 في الفرد. وهذا يعني أنَّ جرعة الدواء (الكافية) لزيد مثلاً قد تكون ضعيفة أو قويّة جداً لعمرو. وأهم أنواع السايتوكرومP 450 هو CYP 3A4الذي يُكوِّن الجزء الأكبر من هذه الخميرة.
الحثّ والتثبيط Induction and Inhibition
بعض المواد الكيميائية والأدوية تحفِّـز أو تحثّ على إنتاج السايتوكروم P 450 مثل مادة ريفامبسين Rifampicin التي تُستعمل في علاج التدرن الرئوي ومادتَيْ كاربامازباين Carbamazepine و فنيتوين Phenytoin (في معالجة الصّرَع) والستيرويد مثل ديكساميثازون Dexamethsone. لذا تقلّ فعالية الدواء المتناوَل مع هذه المواد لسرعة تأيّضها/ تأكسدها وطرحها إلى خارج الجسم، فلذا يجب أن تؤخذ بكميات أكبر، وقد يؤدي هذا إلى ضرر في الجسم، لتؤدِّيَ المفعولَ المطلوب. وقد يجلب الحثّ أخطاراً جمّة تبعاً للمادةّ المُؤَيَّضة. فإذا كانت المادة المُؤيَّضة تُـنتِج مادةً أكثرَ فعاليّـةً منها أو سامّة، يكون المريض في حالة بائسة. فمثلاً، مادة الباراسيتامول أو ما تُسمّى في أمريكا وكندا بالأسيتـامينوفين يتأيّض جزء منها بواسطة السايتوكروم P450 فيتحول إلى مادة سامة فعالة تسمى كوينون إمِـين quinone Imine. هذه المادة تهاجم دنا DNA خلية الكبد فتحطّمها، فتتلف خلايا الكبد، هذا إذا أُخِذَ الباراسيتامول مع مادة أخرى مُحفِّزة للسايتوكروم كالريفامبسين أو أُخِـذ لوحده بكميّـة كبيرة أيضاً. ومن نافلة القول إنَّ شواء اللحم أو الكباب باستعمال الفحم (بارباكيو) يؤدّي إلى تحفيز هذه السايتوكروم. على العكس ثمّة مواد أو أغذية تؤدّي إلى تثبيط فعاليّة الخميرة سايتوكروم P 450، وربما تكون هذه أهمَّ جداً من المواد الحاثّة أو المُحفِّـزة لكثرة تداولها بين الناس من ناحية ولتأثيرها أو خطرها على صحة الفرد لاستعماله موادَّ كثيرةً تتعارض معها من ناحية أخرى، وكمثل بسيط عليها هو موادّ الماكرولايد Macrolides، التي تشمل المادة مضادَّة الحياتية المعروفة إريثرومايسين Erythromycin، وهذه قد يؤدّي تناولها مع مادة أستيميزول Astemizole (Hismanal) التي تُستعمل لمعالجة الحساسية إلى الموت نتيجة عدم اتّساق نبضات القلب Arrhythmias.
أما المواد المُثبطة لسايتوكروم P 450 والتي ذكر استعمالها الكثير فهي قائمة كبيرة جداً سأذكر بعضها أو الأهمَّ منها، وهي التي تثبط النوع CYP 3A4 المتورط في التأيض وهي:
Felodipine, Nifedipine, Amlodipine (لمعالجة ارتفاع ضغط الدم).
Hydrocodone, Hydromorphone, Codeine (تسكين الآلام).
Erythromycin, Ciprofloxacin (مضادّة الحياتية ndash; أنتيبيوتيك).
Fuoxetine (Prozac), Paroxetine (Paxil) (لمعالجة الكآبة).
ولكنَّ الغذاء أو الفاكهة المعروفة ذات الفوائد المتعددة هي كريبفروت Grapefruit!
التي يتعارض تناولها مع عقاقير كثيرة أهمها العقاقير التي تُستعمل لتخفيض الكوليستيرول، والمتوفر الفعال منها هو عائلة الستاتين Statin، التي هي:
Simvastatin (Zocor)
Provastatin (Pravachol)
Lovastatin (Mevacor)
Atovarstatin (Lipitor)
Fluvastatin (Lescor)
Rosuvastatin (Crestor)
إنَّ استعمال الموادّ المُثبطة لسايتوكروم CYP 3A4 المذكورة أعلاه أو كريبفروت (عصيراً أو قِطَعاً) مع موادَّ مُخفِّضةِ الكوليستيرول يؤدّي إلى عواقب سيئة وخطيرة.
فقد وُجِد أن تناول الكريبفروت مع أيٍّ من هذه الأدوية يزيد تركيز الدواء إلى ثلاثة أضعافٍ أو أربعةٍ أو أكثرَ. ونظراً لكثرة استعمال الناس فاكهةَ الكريبفروت بكثرة، ولهم الحقّ في ذلك، أودّ أن أتناول هذا الموضوع بشيء من التفصيل نوعاً ما.
فوائد الكريبفروت (ليمون الجّـنّـة) Grapefruit
هذه الفاكهة ذات فوائد صحيّة كثيرة لاحتوائها على عناصر غذائية مهمة، فهي تحتوي على فيتامينات ج بكمية كبيرة تفي عن الاحتياج اليومي وأيْ وبي 5 و فوليت وبوتاسيوم وألياف وغير ذلك، كما أنها ذات سعرات حرارية قليلة لا تتجاوز 80 سعرة في كل واحدة منها. لذا تكون خيرَ غذاء لتخفيض الوزن، وتحتوي على موادَّ كيميائية تعمل ضدَّ بعض أنواع السّرطان وأمراض القلب. فالنوع الأحمر منها يحتوي على مادة لايكوبين Lycopene، هذه المادة هي مانعة تأكسد قويّة ولها فعالية ضدَّ الأورام (موجودة في الطماطم بكمية كبيرة أيضاً). والنوع الأصفر منها يحتوي على موادَّ ليمونيّة Limonoids، هذه المواد أظهرت في دراسات معيّنة أنها كانت فعالةً في مكافحة سرطان الفم والجلد والرئة والثدي والمعدة والقولون في خلايا بشريّـة. توجد هذه المواد في الحمضيات أيضاً بكميات مختلفة. وفي دراسات أخرى ظهر أنها تخفّض الكوليستيرول الضارّ LDL فتساعد بهذا على منع بعض أمراض القلب.
وإنَّ المادّة نارينجينين Naringenin الموجودة بكمية كبيرة في الكريبفروت تلعب دوراً كبيراً في إصلاح الدنا DNA المتضررة في خلايا سرطان البروستات (جورنال أوف نيوتريشنال بايوكمستري، شباط 2006). سرطان البروستات يحدث عادة في العمر المتقدم، حيث تأخد الخلايا بالتغيّر / التشوّه Mutation، ففي كل مرة تنقسم الخلية إلى خليتين يكون تشوّه أكثرُ، وإن إصلاح الدنا هو العملية الكبرى والأهم في منع وقوع السرطان. وعمل النارينجنين هو في تحفيز خميرتين (إنزايم) تقومان بإصلاح هذا (الخطأ) أو التشوّه في الدنا أثناء انقسام الخلية. هاتان الخميرتان هما ndash; تُكتَب مختصراً ndash; hOGG1 و DNA poly beta.
تفاعلها مع بعض الأدوية
ذكرت قبل قليل أنّ مادة النارينجنين موجودة في الكريبفروت، والحقيقة أنها موجودة بشكل غير فعّال يسمّى نارينجين Naringe(i)n، تحوّله البكتريا الموجودة في الأمعاء الدقيقة إلى شكله الفعال نارينجنين. وهذا الأخير هو مُثَـبِّط قويّ للسايتوكروم P 450 3A4. فهو يرتبط بهذه السايتوكروم ويعيق عملها، وكذلك تفعل موادّ Furanocoumarins المُؤكسِدة الموجودة في الكريبفروت والحمضيات الأخرى وبعض الخضروات والبقوليّات. كما أنَّ عصير الرّمّـان (يحتوي على موادّ ضدّ التأكسد) هو مُثبط قويّ أيضاً للسايتوكروم، بينما البرتقال والكيوي والمانجو تكون بتأثير أقلَّ. وإنَّ جُرَعاً مُركّزة من عصير الكريبفروت تؤثّر على السايتوكرومCYP 3A4 الموجودة في الكبد أيضاً.
ولما كان هذا الارتباط (يعيق) عمل السايتوكروم CYP 3A4 في تأييض الأدوية في الأمعاء الدقيقة، لذا تُمتَصّ هذه الأدوية بكميات أكبرَ مما هو مُقـَدَّرٌ لها، ويكون تركيزها عالياً في الدم مما يُسبب تسمّماً للأنسجة التي يصل إليها هذا الدم الحامل لهذا التركيز العالي. فتناول الكريبفروت، عصيراً أو قِـطَعـاً، سويّـةً مع الأدوية مُخَـفِّـضةِ الكوليستيرول المذكورة أعلاه، يجعل تركيز الأخيرة في الدم عالياً جداً، ومن هنا يأتي الخطر وهو مرض انحلال العضل Rhobdomyolysis: تحطّـم العضل الأحمر الذي يعقبه الضعف والانحلال العام وقد يسبب ألماً شديداً، وفي بعض الأحيان، ولو نادراً، فشلَ الكلية.
كما أنَّ استعمال الأدوية المخَـفِّـضة لضغط الدم العالي مثل فيلوديباين Felodipine ndash;(Plendil) مرَّ ذكره - مع الكريبفروت معاً يسبب تركيزاً قويّاً لهذه الأدوية في الدم مما يؤدّي إلى هبوط قويّ في ضغط الدم.
وفي تجربة أجرتها شركة ميرك (منتجة العقار ميفاكور) وُجِدَ أن تنـاولَ الكريبفروت صباحاً واستعمال الميفاكور قبل النوم (يجب استعماله ليلاً على أيّة حال)
لم يؤثِّر على تركيز هذا العقّـار في الدم إلاّ قليلاً. وما يصحّ عليه، يصحّ أيضاً على بقيّة أدوية الستاتين المذكورة. لذا يكون تناول الكريبفروت في النهار فقط أسلمَ حسب ادِّعاء شركة ميرك، لمن يتناول موادَّ الستاتين وبعضَ الأدوية المُخَفِّضةِ للضغط. ولكنَّ السؤالَ هنا: إذا كان الكريبفروت، والفعل للمادة الفعالة فيه، يؤثّـر على السايتوكروم الموجودة في الأمعاء الدقيقة، فكيف لا يؤثّـر على السايتوكروم الموجودة في الكبد، ما دامت المادة الفعالة ساريةً في الدم وتصل الكبد سريعاً؟
أما إذا كان البرتقال والليمون يُسبّبان هذه المشكلة أيضاً، فهو احتمال قويّ جداً رغم أنَّ البحثّ لا يزال جارياً في هذا المضمار.
التعليقات