يمكن تحليل طبيعة الوضع في لبنان من تحليل الخطابات الثلاثة الأخيرة لكل من بشار الأسد وفؤاد السنيورة وحسن نصر الله.
خطاب الأسد، خطاب متشنج، شعاراتي، مزايد، عنيف، صاخب، مازؤم وغير مسؤول.
خطاب حسن نصر الله، خطاب مليشياوي، ديني، طائفي، تهديدي، تعبوي، تفكيكي، ميتافيزيقي ومستورد من الخارج.
خطاب السنيورة، عقلاني، هادئ، وحدوي، وطني، إنساني، ديموقراطي،بناء، واقعي ومسؤول.
ولكن الأهم في هذه الخطابات إنها دارت كلها حول وجود الدولة اللبنانية ذاته، فخطاب الأسد ونصر الله، وأحمدى نجاد، وخامنئي، وغيرهم من الإسلاميين والقوميين يصب في خانة quot;تقويض الدولة اللبنانيةquot; وإرتهانها لصراعاتهم الأقليمية غير اللبنانية، أما خطاب السنيورة والحريري وجنبلاط وسمير جعجع وأمين الجميل فيصب في خانة quot;إعادة بناء الدولة اللبنانيةquot; وهي مهمة عسيرة بعد عقود طويلة من أستباحة لبنان. ولهذا فالخطر الحقيقي هو على الدولة اللبنانية، والصراع الحقيقي هو على الدولة اللبنانية. ولا أبالغ إذا قلت أن المشكلة ليست إسرائيلية لبنانية، وإنما هي عربية إيرانية لبنانية أتخذت من الصراع العربى الإسرائيلى مبررا لها.
الخطر على لبنان من هؤلاء الذين أختطفوا الدولة اللبنانية وقرارها ويحاولون تبرير الأحتفاظ بهذا الإختطاف. ولهذا لم يبالغ السنيورة عندما قال quot;نحن أمام تحديات مصيرية، تحديات تتعلق بمعني لبنان، ووجود لبنان، وإنتماء لبنان، ومستقبل لبنان، وطبيعة النظام السياسى فيهquot;. وقال سعد الحريري quot; إن لبنان أمام مفترق مصيريquot;. وكان جنبلاط أكثر صراحة عندما قال quot;نحن ذاهبون إلى المجهولquot;.
الحرب الأخيرة في لبنان يمكن أن يقال عنها الكثير إلا كونها حربا لبنانية إسرائيلية. الحرب الأخيرة جمعت العديد من الحروب على أرض لبنان، الغرب مع الراديكالية الإسلامية، العرب مع الفرس، الخومينية مع الوهابية، إسرائيل مع العرب، الشيعة مع السنة، إيران مع الغرب، المسلمين مع اليهود، الشرق الأوسط الإسلامي مع الشرق الأوسط الديموقراطي الغربي.
ومن المفارقات في الوضع اللبنانى أن الغرب وأمريكا والمجتمع الدولي وقوى 14 يوليو(أذار) وقوى الأعتدال العربي كلها اتفقت على دعم quot;بناء الدولة اللبنانيةquot;، في حين أن قوى لبنانية أخرى ومن داخل لبنان تعمل بكل جهدها quot;لتقويض الدول اللبنانيةquot; وأرتهانها لمصالح أقليمية ومنها حزب الله، والرئيس اللبناني أميل لحود، المفروض على اللبنانيين من قبل سوريا، ومجموعة فرنجية، وما يدعو للأسف الشديد أن ميشيل عون يدعم هذه المجموعة. الخطر على لبنان إذن والذي يدركه كل متابع هو، هشاشة الداخل اللبناني وفساد كثير من سياسييه وأستخدام الكثير من أطرافه كأداة لقوى خارجية وخاصة سوريا وإيران، ولهذا يأتي خطاب وحدة الداخل اللبناني الذي يتردد باستمرار ليس أكثر من quot;تفكير بالتمنيquot; يجافي الواقع. كل القوى اللبنانية تختزل الموضوع في العداء اللبناني الإسرائيلي حتى تجد قاسما مشتركا تجتمع حوله، في الوقت الذي يدرك الجميع أن المشكلة تكمن في الداخل وارتباطات وتحالفات الداخل وإنقسامات الداخل وهشاشة الداخل. ربما يكون وليد جنبلاط هو الأكثر صراحة وجرأة في تشخيص الخطر على لبنان وتجسيده في حزب الله وسوريا وإيران وأتباعهما في الداخل اللبناني، هذه هي الحقيقة التي يجب ان تقال بدون لف ولا دوران، وعلى حد قول راغدة درغام فى جريدة الحياة quot;أن حزب الله قد يحصل على بطاقة شكر له بالفارسية لتدميره لبنانquot;،وهو قد حصل بالفعل على ما هو أكثر من بطاقة شكر على حساب لبنان.
خطاب حسن نصر الله هو إعلان عن تدشين دولة ولاية الفقيه في الجنوب اللبنانى ليس فقط كدولة داخل الدولة وإنما أيضا دولة لتقويض الدولة وتهديد رعاياها من الأغلبية التي لا تؤيده. هو إذن خطاب تفكيكي للدولة اللبنانية يصر على مقاومة سيادتها وإستقلالها. وهو خطاب تهديدي لمعارضين حزب الله بأنهم غير أخلاقيين ولغتهم خشبية لمجرد أنهم ناقشوا حق الدولة في أتخاذ قرارات الحرب والسلم،فهو كرجل دين راديكالى فاشي لا يؤمن بهذه الشفافية في النقاشات وإنما يؤمن بالعمل تحت الأرض وفي الغرف المغلقة السرية، بل ويعطهم درسا في الوطنية بأن الديموقراطية والشفافية ليست مصلحة وطنية كما يقول quot;وهذا طبعا برأيي ليس مصلحة وطنية وليس مناسبا على الإطلاقquot;، ويحذرهم ويهددهم quot; بأن هذا خطأ كبير، طبعا نحن بذلنا جهدا كبيرا حتى لا تكون هناك ردات فعل بأن ما حصل مسيئاquot;. هو يدعو إلى تحويل لبنان كدولة منفتحة على النقاش وتعددية الآراء إلى دولة فاشية دينية لا تقترب من مشروعه أو شخصه بالنقد،وسبق له إظهار العين الحمراء أمام اللبنانيين في تظاهرة الرسوم الدنماركية التخريبية وفي إيقافه لبرنامج quot;بسمات وطنquot; الذي أقترب بالنقد من ذاته المصونة، رغم أن هذا البرنامج أستمر على مدي سنوات يسخر بشكل منتظم من الراحل رفيق الحريري والسنيورة عندما كان وزيرا للمالية. بل وصل الأمر إلى اتهامه لمعارضيه بأنهم ليسوا فقط مستفزين وإنما أيضا يطالبون بأكثر مما يطلبه الأمريكي والإسرائيلي وهذا إتهام خطير يقترب مما قاله بشار الأسد بأنهم quot;منتج إسرائيليquot;.
حسن نصر الله الذي كان يصرخ من أجل وقف إطلاق النار وقال في خطابه quot; أولويتنا الحقيقية الآن مازالت هي وقف العدوان ووقف إطلاق النارquot; وناشد الرؤساء العرب بالعمل على وقف القتال، ناور حتى سريان وقف إطلاق النار ليعلن إنقلابه على الحكومة والدولة والطائف والمجتمع الدولي والقرارات الدولية، وتوجه بخطابه إلى طائفة لبنانية وصفهم بلغة دينية تعبوية بالأطهار والشرفاء والمجاهدين والمقاومين والمؤمنين والشامخين ...الخ، ووعدهم بأنه سيكمل وعده الصادق الذى أدى إلى تخريب لبنان بتعويضهم عن بعض خسائرهم، أما البنية الأساسية والتي تحتاج المليارات من الدولارات فهى من اختصاص الدولة بأموالها غير الطاهرة غير الشريفة غير النقية، أما ماله النقي،الذى لم يخبرنا عن مصدره وسر نقائه والثمن السياسى الذى دفعه فيه، سيذهب إلى أتباعه كاستمرار لعملية الحشد والتعبئة وأخراس الأصوات المنتقدة والوفاء بالعهد على طريقة زعيم القبيلة.
الحقيقة أن خطاب حسن نصر الله أخطر بكثير من خطاب بشار الأسد لأنه أولا قادم من الداخل اللبناني، وثانيا لأنه يوضح استراتيجية حزب الله المليشياوية الطائفية في المرحلة القادمة، وثالثا لأنه أحتوى نفس إتهامات بشار الأسد لقوى 14 آذار ولكن بطريقة مختلفة، ورابعا لأنه يتحدى الدولة من داخلها ويتهمها بالعجز ويتحداها بالاعلان عن الأصرار على حقه في الأستمرار بخطف قرارها في السلم والحرب quot;من الذي يدافع عن هذا البلد، من الذي يلقن العدو درسا، من الذي يجعل من هذا العدو يدفع ثمنا باهظاquot;. وخامسا لأنه بشكل غير مباشر يعلن أن مغامراته سوف تستمر وأن سلاحه المقدس سيبقي وبرر ذلك بقوله quot;هل جاؤوا ومعهم أرض مزارع شبعا وسيتمكن سكان هذه الأراضي من العودة إليها؟ هل جاؤوا ومعهم الأسرى؟ هل جاؤوا ومعهم ضمانات حقيقية بحماية لبنان؟ quot;، ولم يسأل نفسه هل مغامراته أتت بشيء من هذا أم دمرت لبنان وإذا أستمرت هذه المغامرات معناها تدمير البقية الباقية من لبنان .وسادسا لأنه تحدث وكأن كل هذا الخراب الذى تسبب فيه لم يحدث، مصرا على الإستمرار كما قبل 12 يوليو، منفذا بعض البنود الشكلية فى 1701 والتى لا تؤثر على إستمرار مليشياته.
وأخيرا فهولا يعجبه شكل هذه الدولة من ألفها إلى يائها،فهي ليست مقاومة ولا قوية ولا عادلة ولا مطمئنة ولا تمثل اللبنانيين.
ببساطة شديدة لم يأخذ خطاب السيد حسن نصر الله حقه الواجب في النقد والتحليل، وتفادي أغلب اللبنانيين الأقتراب منه رغم إنه يمثل مشروع متكامل لتقويض الدولة اللبنانية،لإن الكثيرين أخذوا تهديداته على محمل الجد ويخشون حاليا مواجهته ومليشياته. وحتى الإعلام العربي تراجع بشكل كبير من الأقتراب من مشروعه الأنقلابي ليس فقط على لبنان ولكن على مجمل المنطقة.
أبسط سؤال يمكن أن يوجه لحسن نصر الله هل سيبقي على الحياد في حالة حدوث مواجهة إيرانية أمريكية او إيرانية إسرائيلية أو إسرائيلية سورية؟. الأجابة على هذا السؤال ستوضح الأسباب الحقيقية حول إحتفاظه بسلاحه ونوياه المستقبلية .
لم أعرف فى التاريخ حركة إسلامية تخلت عن سلاحها بشكل طوعى وعبر المفاوضات، وأظن أن هذه القناعة وصلت لإغلب دول العالم،ولهذا بدا الفتور وأضحا فى المشاركة فى قوة اليونيفيل لأنهم يدركون أن حزب الله سيعيد تسليح نفسه ولن ينفذ شيئا من القرار 1701 فيما يخص مليشياته ومن ثم لن يكونوا شهودا زور على إنتهاكات القوانيين الدولية المنوط بهم تنفيذها.والحكومة اللبنانية تعرف ذلك أيضا ولكن البديل هو حرب أهلية يحرص الجميع على عدم تكرار مأسيها.
أما خطاب الأسد فلا يستحق الوقوف أمامه طويلا فهو خطاب صبيانى يعكس مراهقة سياسية وكما وصفه المتحدت باسم الخارجية الأمريكية شون ماكورمك بأنه مجرد quot;كلام صاخبquot;، ويحوى إتهامات وتهديدات يعاقب عليها القانون وأستغرب هذه اللغة أن تصدر من رئيس دولة.
السؤال من سينتصر في النهاية رؤية السنيورة كرجل دولة مسؤول أم رؤية حسن نصر الله المليشياوية؟ هل سينتصر مشروع إعادة بناء الدولة، أم مشروع تقويضها على يد نصر الله وحلفاءه وتوسيع دائرة التخريب لتشمل المنطقة بأكملها؟.
المهمة الصعبة لم تكن في القرار 1701 والأجماع الدولى حوله وإنما في تطبيق كامل بنوده، المهمة الأصعب تكمن في إستعادة سيادة لبنان ووحدته وكيانه وروحه والتعايش السلمي بين طوائفه.
[email protected]