حينما نضعُ المثقفين العراقيين جانباً، يصحّ لنا القول بأنّ قلة قليلة من العرب قد سمعوا بقصيدة الجواهري، quot;كردستان، موطن الأبطالquot;. هذه المطوّلة الشعرية، التي أنشدها أبو فرات تحية ً لثورة أيلول 1961 وقائدها البارزاني الأب، ويقول مطلعها: quot;قلبي لكردستان يُهدى والفمُ / ولقد يجودُ بأصغريْه المعدمُquot;. لقد شغفَ شاعرنا بالشمال وأهله، وبادله هؤلاء عاطفته بأحسن منها. وإذ لم تفارق القبعة الكردية، الفلكلورية، مرة ً أبداً، رأسَ الجواهري وإلى يوم رحيله ؛ فإنّ تماثيله المختلفة الأحجام، المتشامخة في بعض ميادين وحدائق كردستان العراق، تفضي بمشاعر الوفاء لذكراه من لدن شعبٍ يعرف قيمة الأصدقاء، على قلتهم. شعبٌ عريقٌ، ما فتأ مثله الشعبيّ، الأشهر، يترددُ على مرّ الأجيال : quot; لا صديقَ للكرديّ إلا الجبال quot;. هيَ ذي quot; الأنفال quot;، أخيراً؛ فصلٌ دمويّ آخر، يتلو فصلَ quot; الدجيل quot;. إرتبط إسمُ الاولى بأربعة آلاف وخمسمائة قرية وعشرات القصبات والبلدات، تمت تسويتها بالأرض الكردية، وأضحى معظم ساكنيها جثثا في أعماق أراض اخرى، عراقية. وإذ إنتهت جولة المحاكمة الصدامية، الخاصة بمجزرة quot; الدجيل quot;؛ فكل قرية وقصبة وبلدة في كردستان، تروي قصة مشابهة للقرية العراقية، الشيعية، أو ما يفوقها في الهمجية البعثية، المتناهية القسوة.

quot; موطنُ الأبطال quot; هذا، أضحى بعد قرابة الربع قرن من إنشاد القصيدة الجواهرية، موطناً للأنفال؛ تلك الحملة الفائقة الوحشية والمنذورة، كقربان شيطانيّ، للإبادة الجماعية، والتي ستصِمُ أبداً نظام البعث المجرم، المندحر، بالعار والشنار. هاهوَ رأس ذلك النظام البائد، رفقة أقرب معاونيه الجلادين، مرمياً خلف قضبان العدالة فيما صار يُعرف بـ quot; محاكمة العصر quot;. إن جفن الديكتاتور السابق لا يرف، عندما يتهدجُ صوت المدعي العام، خلال عرضه الموجز لما حلّ بأطفال الكرد، خصوصاً، من أهوال لا توصف. إلا أن هذا المتفرعن، وقد نسيَ موقفه المخزي في قفص الإتهام، لا يتورع عن الصراخ بالمدعي العام، متهدداً متوعداً (!)، حينما يصل هذا الأخير، في عرضه الإتهاميّ، لما جرى للفتيات الكرديات من حالات إغتصاب جبانة على يد الجيش وإستخباراته : أهيَ شيمة البدويّ، المتأصلة بتكوين الطاغية، النفسيّ، ( المتغنية بـ quot; المرأة العراقية، الماجدة quot; )، التي أثيرتْ في الطاغية آنئذٍ،.. أم أنها صفة الداهية الماكر، المرتبطة بسلوكه التآمري الأرعن ؟؟ تلك الصفة، إنتحلها أيضاَ محامو الشيطان، البعثيّ، ممن رأيناهم ينافحون عنه التهمَ الموثقة بما تيسّر لهم من أراجيف متهافتة، رخصة؛ ولكنها مدفوعة الثمن، غالياً، من لدن أقاربه الممسكين بأرقام حساباته البنكنوتية، الأسطورية، المودعة في أقبية المصارف الأجنبية.

علاوة ً على أولئك المحامين العراقيين والعرب، quot; المتطوعين ! quot;، بحسب تعبير الطاغية في الجلسة الاولى لمحاكمته الثانية؛ ثمة إعلاميون من شتى الأصقاع، تطوعوا أيضاً في هذه الحملة quot; الأنفالية quot;، الجديدة، التي تقودها بعض الفضائيات الخليجية. فإذ بلع إعلاميو مصر ألسنتهم أمام التهجم الأسديّ، السافر، على بلدهم سياسة ً ورئيساً؛ فإنهم لم يفوتوا الفرصة الذهبية في المزايدة القوموية، ليندفع الواحد منهم على هذه الفضائية أو تلك، دافعاً تهم الإبادة بتبريراتٍ واهية ما أنزلَ فيها بسلطان. وكم هي مخزية حجة البعض، في سياق تبرير الجريمة؛ كلإدعاء بالهيمنة الإيرانية على العراق حالياً، والتي كان قد quot; تنبأ quot; بخطرها الرفيق صدام، حارس البوابة الشرقية : نفس أولئك الأدعياء، كانوا في الأمس القريب يدافعون عن برنامج إيران النووية وعن تسليحها ودعمها لحزب الله اللبناني، الشيعي. فأيّ نفاق صارخ هذا !؟ وبصدد محكمة quot; الأنفال quot;، تفردت الفضائية السورية، للصمود والممناعة والمقاومة، عن شقيقاتها العربيات، فلم تنقل لمشاهديها محاكمة صدام وأعوانه. وأذكر جيداً، أنّ المرة الاولى التي تناهى إلينا حديث الأسلحة الكيماوية، كان ذلك في الشام عام 1986، حينما نقلت وسائل الإعلام الرسمية عن مصادر المعارضة العراقية تأكيدها إستعمال صدام لتلك الأسلحة، المحرمة دولياً، في قصف بعض مناطق كردستان. والمفارقة هنا، أنّ وسائل الإعلام السورية، طوال أعوام الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم، كانت هي الوحيدة عربياً التي تصرخ في آذان الجماهير فضحاً لممارسات النظام الصدامي، واصفة إياه مراراً بـ quot; الفاشي ! quot;. على أنّ ذلك عهدٌ مضى. فمنذ مستهل هذه الألفية الجديدة، شعر التوأمُ البعثيّ، اللدود، بقرب نهاية نظاميْهما الإستبدادييْن، فعمدا إلى التفاهم سراً تارة ً وعلانية تارة اخرى. وفضلاً عن تأكد النظام الأسدي من زوال خطر الجبهة العراقية عنه، فثمة حقيقة أكثر أهمية لاحت له : وهيَ إستعداد النظام الصدامي للبذل والعطاء، وبسخاء المقتدر المحتضر، لقاء خدماتٍ معينة سياسية وإقتصادية. إن جشع أركان نظام الأسد الصغير، المتوارث عن السلف الكبير، قد وجدَ أبلغ تعبير عنه في ذلك الإبتزاز النادر المثيل، الذي مارسه هؤلاء على نظام صدام، طوال السنوات الثلاث التي سبقت إنهياره. وعدا عن تلك الحقيقة، الموصوفة، فثمة حقيقة لا تقل إعتباراً عند النظام السوري في منعه التغطية الإعلامية لمحاكمة صدام ؛ وهيَ تحسسه الشديد من أيّ حديث في هذا الشأن أو شبيهه : إنها كوابيسه في المثول، آجلاً أو عاجلاً، أمام quot; محكمة العصر quot;، داخل أو خارج سورية.

[email protected]