ولكن أين نضع قضايا الأمة الكبيرة؟ أين نضع مسألة الصراع مع الاستعمار والصهيونية؟ أين نضع صراع الفقراء من أجل قوت يومهم وكرامتهم الإنسانية؟ أين نضع قضية الديمقراطية التي صارت مطلباً عالمياً؟ أين نضع قضايا التحرير والتحرر العالميين؟
أين موقف هذا المثقف الشيعي من كل هذه القضايا المصيرية التي تخص كل الأمة، تخص العرب والمسلمين وكل من يحمل هماً إنسانيا خيرا؟
هذه الأسئلة وغيرها ليست بعيدة عن هموم المثقف الشيعي، وكيف تكون بعيدة عن هم هذا المثقف في حين هو الذي قاد عملية النضال ضد الاستعمار والتبعية والتخلف في العراق وفي البحرين وفي لبنان؟ وكيف ينسى أو يتناسى هذه الأسئلة المصيرية وهو المثقف الذي عرف بخلْقه لفكر المواجهة، ومراجعة بسيطة لرموز العمل السياسي المقاوم في العالم العربي تكفي للتدليل على هذه الحقيقة.
هذه القضايا بالنسبة للمثقف الشيعي بديهيات، لا تحتاج إلى مساءلة، لا تحتاج إلى فكر، ولكن المثقف الشيعي يرى حالة شاذة، حالة مزعجة، تكشف عن فكر قمعي قاتل، يهدف إلى تمزيق الأمة، ويصب في تمزيق الأوطان. المثقف الشيعي أدرك أن هناك خطراً داخلياً هو أولى بالمعالجة من أي خطر أ خر، ذلك هو العمل على حذف الآخر، وفي مقدمة هذا الآخر هم الشيعة. وهذه حقيقة لا يمكن تغافلها، وللأسف الشديد قد يكون بعض المثقفين متورطين في هذه المأساة، وليس سرا أن الموقف من شيعة العراق كشف عن مثل هذه المفارقة المؤلمة، وهل ننسى نداءات بعض المثقفين أو أدعياء الثقافة تضج بالعفن الطائفي البغيض؟
أن المثقف الشيعي عندما يحمل هموم طائفته إنما كجزء من عملية ثورة إنسانية عالمية على كل ما هو ليس إنساني، جزء من عملية أخلاقية تهدف إلى تعطيب هذه القوى التي تسعى إلى الإنفراد بحق الحياة وبحق الوجود.
هذا المشروع النافي يهدد كل إنجازات الأمة، يهددها من الداخل، وبذلك يكون المثقف الشيعي قد أدرك نقطة حساسة، نقطة بالصميم، وهو يكون بذلك قد سبق الآخرين في تحليل الواقع، وتشريح المرحلة، أي إمكانية لتحرير هذه الأمة من الهيمنة والاستغلال العالمي والاستعمار وهناك عملية حذف لقطاعات كبيرة من هذه الأمة، قتلها، إنهائها، ثقافياً سواء كان ذلك أو وظيفياً أو وجوديا، من هنا أنتبه المثقف الشيعي لهذه المفارقة الخطيرة.
فإذن المثقف الشيعي العراقي يتعامل مع القضية من منطلق التكاملية بين الكلي و الجزئي، بين العام والخاص، لم يعد هلاميا، لم يعد خياليا، لقد كان دقيقاً في موقفه.
قضايا الأمة الكبيرة مثل الاستعمار والتخلف والإرهاب والطائفية وغيرها هي في صميم مهمات هذه المثقف، ولكن ليس بمعزل عن القضايا الداخلية ا لتي تهم وحدة الأمة، ووحدة المجتمع، ومن المعلوم أن قرار حذف الإنسان الشيعي قضية خطيرة تهدد الواقع برمته، أصلا تهدد المستقبل، مستقبلنا جميعا، ومن هنا كان اهتمامه بقضايا طائفته الكريمة في غاية الأهمية، وفي غاية الدقة، ليس هناك تناقض أبدا، خاصة أن المثقف الشيعي كان هدف الحذف بشكل مركزي، كان هدف التذويب والتمييع والتجيير خلاف القناعات وخلاف الانتماء الطوعي.
لقد أثبتت التجربة أن معالجة القضايا الداخلية التي تعرِّض الأمة للتصدع، وتهدد الواقع بالتسيّب والتخلخل... هذه القضايا يجب تقديمها على معالجة القضايا الكبيرة، أو لتكون المعالجة متزامنة، متوازية. من هنا نشخص دقة هذا الطرح من قبل المثقف المسلم الشيعي، كان سبَّاقا لذلك، وهو بهذا لا ينطلق من مقتربات طائفية، بل من تقدير علمي للواقع، من تقدير علمي للقضية المصيرية التي تهم المسلمين في كل مكان.
وهناك سؤال آخر، ترى هل يستطيع المثقف المسلم الشيعي تجاوز انتماءه الطبقي ـ مثلا ـ ليكون في صالح كل الشيعة، ليكون في صالح كل الكيان؟ وبعبارة أكثر صراحة...
هل يمكن للمثقف الشيعي أن يكون مثقفاً موضوعيا؟
يجب أن لا نكون خيالين في الجواب على هذا السؤال الكبير، ذلك إن الإنسان صنيع بيئته، كذلك النصوص التي يقرأها ويتعامل معها، كذلك طبقته التي ينتمي إليها من الناحية الاجتماعية، كذلك تجربته السياسية، و مهنته، و وظيفته، وحزبه السابق، وعائلته...
ولكن رغم ذلك يمكن لهذا المثقف أن يلتحم بعموم الكيان، من خلال الالتحام بقضاياه العامة، بمشاكله الكبيرة، هذا التوجه هو الجدير بتوظيفه للكيان كله، للشيعة بكل أطيافهم وفئاتهم الاجتماعية، هناك قضية تهم الشيعة ككل، ولعل التسميات الخطيرة التي مرّ عملية تشريحها، وتحليلها لا تخص الفقير الشيعي دون الغني الشيعي، الملتزم الشيعي دون غير الملتزم، الموظف الشيعي دون المهني، وبالتالي، فإن مثل هذا الالتحام الكلي سوف يطعم ذوق هذا المثقف بروح الكلية، بروح الكيانية العامة، لا ننسى أن الممارسة من شانها تغيير القناعات، تغيير التوجّهات، تغيير القناعات، تغيير المهمات، تغيير الآليات، المهم البداية، كما أن هناك الفكر ودوره العملاق ... كل هذه المقتربات من شأنها المساعدة على بلورة فكرة المثقف الشيعي الموضوعي. وأجدني هنا مضطرا على نحو الاستطراد أن اعيد تعريفي الرسمي العادي للمثقف الشيعي، لأقول هو هذا الكاتب، الفنان، المفكر، الشاعر، الذي ينتمي إلى كيان بشري يسمّى ( شيعة ) بصرف النظر عن كل التزام ديني، شريطة أن يحس بهذا الانتماء، ويعمل من أجله، ولكن بلحاظ الانتماء لدائرة أكبر، تلك هي الإنسانية، فهو مثقف حقوق وليس أحكام شرعية، ولا علوم كلام، ولا حتى تاريخ، فمن البساطة أو السذاجة أن نحاسبه أو نناقشه فقهيا أو كلاميا، فتلك ليست شغلته ، ولا تمس فكره ونضاله وعمله طرفا من بعيد أو قريب.