ربما تكون معركتنا مع quot;المستبدquot; قد انتهت سريعا يوم 14 جانفي 2011 برحيل الرئيس بن علي إلى السعودية، لكن معركتنا مع quot;الاستبدادquot; لن تنتهي سريعا، فالمستبد رجل قد يرحل أو يموت، لكن الاستبداد ثقافة متغلغلة في العروق والسلوك، وهو quot;يزرع كل الرذائلquot; كما قال عبد الرحمن الكواكبي قبل قرن ونيف.
و الحق أن quot;بن عليquot; معشعش في عقل وحركة كل واحد فينا، ولئن سهل قتله جسدا بإجباره على الفرار بعيدا، فإن إخراجه من أرواحنا سيتطلب كثيرا من الجهد والوقت والوعي والعزيمة، خصوصا إذا ما وضع في الحسبان أنه كان نفسه نتاج ثقافة سلطانية سائدة تضيق بالرأي الآخر ولا تؤمن إلا مجبرة ndash; تصريحا فقط- بالديمقراطية.
و خلال الفترة القصيرة الماضية التي عشتها على الأرض الوطن بعد رحلة منفى استمرت ما يزيد عن العقدين، لمحت بن علي مطلا برأسه في أكثر من ركن وزاوية، وأفزعني quot;جنهquot; الساكن في أكثر من جسد، ووقفت على إخلاص النخب لممارساته في أكثر من حزب وهيئة ومؤسسة، وقد صدق عبد الناصر العويني عندما أعلن عن رحيل المستبد، لكن الوقائع والأشخاص تأبى أن تصدقه، فهي من تربية الدكتاتور وإن أنكرت.
قبل أشهر رأيت أصدقاء أعزاء عرفتهم مناضلين أشاوس من أجل تونس ديمقراطية، يصرون على التحول إلى قادة وزعماء ملهمين منفردين بكراسي أحزابهم التي لا تعد ولا تحصى، على الرغم من أن الجميع يكاد يدرك أنها كراس وهمية لا قيمة لها ولا مستقبل.
و قبل أسابيع اندهشت لأمر أحد الأصدقاء، أصبح اليوم أقرب في سنه إلى دار الفناء، وكان قد عرف في بعض الأوساط بحرصه على استقلاليته وعدم الرضوخ لقوالب المستبد الجاهزة، يظهر ولعا عجيبا، ولكنه ويا للأسف جاء متأخرا جدا، بتقليد سلوك الديكتاتور حرفيا، وممارسة كافة عقده السلطوية على دائرة سلطان وهمي جادت به الثورة عليه، وبدا لمن حوله quot; بن عليquot; مصغرا في نزوعه إلى الانتقام وتلذذه الشديد بمشاعر الهيمنة وإخضاع الآخرين إلى أوامره وأمزجته المتقلبة، أو طردهم من حظائر جنته المتوهمة.
و قد أفزعتني جدا تصريحات السيد الباجي قايد السبسي حول سلطته المطلقة، وأن أحدا لا يشاركه في الحكم، فهو يحكم وحده كما قال، بينما حكم بن علي وحده لكنه لم يجرؤ يوما على قول أنه يحكم وحده، وحمدت الله أن جاءنا الرجل حاكما وهو في الخامسة والثمانين من العمر، وإلا ماذا تراه كان فاعلا بنا.
و لعل أهم انجازات السيد السبسي إلى حد الآن، أنه جعل من رجال السبعين شبابا، وأنه دون أن يعلم شجعهم على الإفك والعداون، ومنحهم الإحساس بأنهم ما يزالون شبابا، بيدهم أن يعوضوا ما فاتهم زمن المستبد الهارب، بأن يكونوا اليوم، كل على ما يملك، بن علي صغيرا.
و البين أن خلاف كثيرين مع الرئيس السابق، لم يكن خلافا بين مستبد وكاره للاستبداد معارض له، بقدر ما كان خلافا بين مستبد تمكن من الحكم، ومستبد لم يمكنه الله لحكمة يعلمها من الحكم، ولربما كان سيكون quot;بن عليquot; مضاعفا لو قيض له أمر السلطان، لكن الله بعباده رؤوف رحيم.
و لئن آمن الدراويش بأن quot;الحضرةquot; قادرة على إخراج quot;الجانquot; من الجسد البشري المسكون، فبما ترانا نؤمن إن أردنا إخراج quot;بن عليquot; من جسد هذه الأمة المبتلاة بآلاف المستبدين المتوثبين لتكرار تجاربنا المريرة ومد سلسلة الاستبداد بحلقات جديدة قاتمة..ثمة نضال ثقافي مرير وشاق وطويل النفس في انتظارنا.
* كاتب وإعلامي تونسي