حصلت خلال اليومين الماضية فقط تطورات خطيرة ومتسارعة على الحدود التركية ndash; السورية . جاءت هذه التطورات في ظل الاتهامات التي وجهها الجانب التركي للحكومة السورية بانها هي التي تقف وراء اطلاق قذيفة على احدى القرى التركية اودت بحياة خمسة اتراك . لذا ردت تركيا على عجالة باستهداف بعض المناطق الحيوية عند الحدود السورية , كما عقد اجتماع لحلف الناتو لدراسة موضوع تعرض احد اعضائه للاعتداء . وهو ما يفتح الاحتمالات على مصراعيها ازاء حالة الاستعصاء الدبلوماسي في التوصل الى حل سلمي للازمة السورية.

وعلى الرغم من ان تركيا نفسها وعلى لسان رئيس وزرائها اعترفت بان هذا الحادث لم يكن الاول من نوعه , الا انها لم تعطي التفسير المنطقي الذي يجعل المتتبع يستسيغ كل هذا التحشيد الذي بدات به تركيا ازاء سوريا . خاصة وان البرلمان التركي مرر تفويض لحكومة العدالة والتنمية يسمح لها بالقيام باعمال عسكرية ضد الدول الاخرى ومدته عام واحد . الا ان الغريب في الامر ان هذا التفويض لم يحدد على وجه الدقة من هي الدول الاخرى المعنية بهذا الامر . والتي قد تشتمل مبدئيا على دولتي سوريا والعراق.

في الحالة السورية , تعاني تركيا من تازم كبير لموقفها الذي اتخذته من الازمة الحاصلة هناك . اذ ان الضغط الشعبي فيها يتزايد يوما بعد يوم داعيا الحكومة الى عدم التدخل بهذا الشان ومتهما اياها بدعم الحركات المسلحة التي تقاتل على الارض السورية . كما انها تتخوف كثيرا من الوضع المستقبلي للاكراد في حال انفلات الامور من سيطرتها مع اي تطور قد يحصل على الارض هناك . ناهيك عن امكانية استثمار احزاب المعارضة التركية لتوجهات الحكومة الحالية من اجل الاطاحة بها مستقبلا في الانتخابات القادمة . كما ان فشل المشروع التركي ndash; الخليجي في سوريا سيقود الى التاثير سلبا على الاحلام التي رسمتها القيادة التركية والمتمثلة بخلق شرق اوسط جديد تكون فيه الزعامة لتركيا من خلال جعل الجميع تحت المظلة التركية بهويتها العثمانية الجديدة.

د. دياري صالح مجيد

في العراق المأزق التركي ليس باقل من نظيره السوري . فالحكومة العراقية عازمة على انهاء التفويض الخاص بتواجد القواعد التركية في كردستان العراق , خاصة وان العلاقات بين الطرفين تشهد اعلى مراحل التوتر بينهما منذ العام 2003 . كما تخشى تركيا من ان تتحول جبال قنديل الى مركز استقطاب مستمر لحزب العمال الكردستاني الذي قد يتحول الى احد اهم البيادق في لعبة العلاقات المضطربة بين بغداد وانقرة . كما ترى تركيا ان هنالك خطورة على مستقبل دورها السياسي في المنطقة , اذا ما استطاعت بغداد ان تشكل حكومة قوية لا تعصف بها الانقسامات السياسية والطائفية.

الامر الذي دفع تركيا الى اصدار ذلك التفويض الذي يبدوا انه موجه بالاساس لهاتين الدولتين . وقد يكون ذلك خطوة استباقية جديدة من قبلها باتجاه تصعيد المشكلات الداخلية في هاتين الدولتين عبر خلق مزيد من التعقيد في اوضاعهما الداخلية المليئة بالاضطراب . وهو ماقد يدعوها الى استخدام ادوات ضغط جديدة لتحقيق اهدافها الرامية الى استمرار حالة الفوضى والضعف لدى تلك الدول . ولعل فيما تسرب من انباء مؤخرا حول علاقة ما تجمع تركيا بمنظمة مجاهدي خلق الايرانية , دليل على هذا التوجه . اذ انها تسعى الى استخدام احدى اوراق الضغط الجيوبولتيكية بالضد من سوريا والعراق معا عبر هذه الاداة باعتبارها عنصر اخر مضاف يمكن الاعتماد عليه في خلق مزيد من الارباك في المشهد السياسي لهذه الدول . حيث اشارت وكالة انباء الاناضول الى هذا الموضوع بالاتي quot; إن قيادات الجيش الحر تدرس حاليًا عرضًا من منظمة مجاهدي خلق ، أكبر وأنشط حركة معارضة إيرانية ، لإقامة معسكر دائم على الحدود السورية اللبنانية لمواجهة مقاتلي حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني quot; . وهذا التوجه قد يستخدم مستقبلا في الحالة العراقية عبر فتح معسكرات لهم عند الحدود التركية مع العراق وبالذات منها بالقرب من جبال قنديل , كي تكون عنصر موازنة لتركيا في حربها ضد حزب العمال الكردستاني وكذلك تكون حربة متقدمة لها في اي صراع قادم مع العراق وذلك في ظل التاريخ والمعرفة بالجغرافيا الذي تملكه هذه المنظمة في الاراضي العراقية . اذ قد يتخذ هذا الامر في احد اشكاله ارسال عناصر هذه المنظمة للقتال ضمن مايعرف بالجيش العراقي الحر الذي تجري الاستعدادت لتأسيسه.

ربما يحاول البعض انكار حقيقة هذا التوجه التركي . وهو ذات التخبط الذي يقع فيه السيد اردوغان منذ ايام فتارة يعلن بانه لا يريد الحرب ضد سوريا وتارة اخرى يحاول تحشيد الراي العام لهذه الحرب . يكفي التذكير بانه قام يوم الجمعة بالقاء كلمة في اسطنبول قال فيها quot; يجب ان تستعد تركيا للحرب اذا ما ارادت ان تنعم بالسلام quot; . علما بان الحروب عادة ماتبدأ في الاذهان قبل ان تجد لها مكانا على ارض الواقع , وهو ما يعزز فرضية التخطيط التركي لاستغلال الفرص المتاحة مستقبلا باتجاه شن مثل هذه الحرب عبر استخدام ذلك التفويض الذي يبدوا ان صلاحيته ستتحدد وفقا لما سيطرأ على الارض من تطورات لاحقة.

لقد بدأت تركيا الاعداد لهذا المخطط عمليا من خلال قيامها قبل اسابيع بنقل الالاف المقاتلين الاتراك من المناطق الشمالية والشرقية باتجاه الحدود السورية ndash; العراقية , حتى انها قامت بنقل شباب لم يعدوا بشكل جيد من الناحية العسكرية بحسب ما اوردته التقارير من تركيا نفسها , وهو ما اثار سخط العديد من المراقبين الاتراك لهذه الخطوة خاصة في صفوف المعارضة التي اتهمت الحكومة بانها تأخذ ابناء تركيا غير المُعدين جيدا نحو المجهول . هذا ناهيك عن قيامها في يوم الجمعة (5-10-2012) بالعمل على ارسال العديد من السفن الحربية الى البحر المتوسط محملة بالاسلحة التي كتب عليها quot; حمولة عسكرية quot; . وهي خطوات مهمة لتتبع ما سيطرأ مستقبلا من تطورات ذات علاقة بالسياسة الخارجية التركية في هذه المنطقة.

لكن بالمقابل تدرك تركيا جيدا بان الوقت الحالي بعد غير ملائم للقيام بمغامرة التدخل العسكري في سوريا بشكل خاص . اذ ان الظرف الاقليمي الخاص بالجغرافيا السياسية لسوريا , فضلا عن الظرف الدولي الممثل بالدور الصيني والروسي , يقف بالضد من امكانية تحقيق هذا الهدف . يكفي هنا ان نشير الى ان نائب وزير الخارجية الروسي حذر تركيا من اعتماد هذا الاسلوب في التعاطي مع الشأن السوري او غيره . ووصف سياستها الحالية بانها quot; دبلوماسية تفجير القنابل quot; مؤكدا موقف بلاده من الحل العسكري الذي تفكر به تركيا بالقول quot; ان بلاده تقف بقوة مع القوى الداعمة للحل السلمي والدبلوماسي في سوريا وتعارض بالمقابل التدخل العسكري الخارجي تحت ذريعة حماية المدنيين quot;.

ما تقوم به تركيا اليوم يعتمد على فكرة الغاء مبدأ تصفير المشكلات مع دول الجوار الجغرافي , والاعتماد بدلا من ذلك على مبدأ تفجير الازمات عبر دس انفها بكل الملفات الخلافية التي تشعل فتيل الاحتراب الداخلي في هذه الدول . كما ان ما قامت به من تعزيزات عسكرية يهدف الى استثمار حالة الضعف المستقبلية التي ستعاني منها هذه الدول بهدف اما التحسب لاي تداعيات قد تطال امنها الداخلي في تركيا , او الاستعداد للانقضاض على هذه الدول في حال سمحت الظروف الاقليمية والدولية بمثل هذا الامر . وهو امر مرهون بما ستشهده الفترة القادمة من تطورات داخلية واقليمية ذات علاقة بهذا الملف , الامر الذي يعني باننا سنشهد مستقبلا اكثر من تفويض يمنح للحكومة التركية من قبل برلمانها لتحقيق هذه الغاية التي ستحرم تركيا من كثير من الامتيازات التي حصلت عليها في زمن ممارسة سياسة تصفير المشكلات التي يبدوا انها تبددت دون رجعة في ظل عقلية الحرب التي تداعب مخيلة حزب العدالة وداعميه في المنطقة العربية.