لاشك أن لثورات و إنتفاضات الشعوب العربية للتخلص من طغاة العصور الوسطى من الحكام ( الآلهة ) الذين سيطروا على البلاد و العباد وحولوها لمزارع عائلية متوارثة جوانب تحررية واضحة و اهداف إنسانية راقية في التطلع المستقبلي لحياة أفضل للأجيال الجديدة، إلا أن مصائر بعضا من حكام الماضي التعيس كانت ملفتة للنظر في كيفية إخراجها وإغلاق ملفاتها و بطريقة تعتبر خيانية للحقيقة والتاريخ فضلا عن المنطق، فالمصير البشع الذي إنتهى إليه حاكم ليبيا الأسبق وملك ملوك إفريقيا و أحد أكثر الحكام إثارة للجدل والسخرية في العالم وهو معمر القذافي كان حالة شاخصة من الميليودراما الزاعقة المتفوقة على ما نشاهده في أفظع الأفلام الهندية!

فنظام العقيد القذافي الذي أطاح بالملكية الدستورية السنوسية في ليبيا عام 1969 و أدخل تلك البلاد الغنية بثروتها البترولية و القليلة بسكانها في أتون حرب داخلية للنهب و إضاعة الموارد و تبديد الإمكانيات و تطبيق النظريات السياسية البائسة بدءا من الناصرية بمفهومها القائم على عبادة الفرد ثم الإشتراكية الرثة الفوضوية القائمة على الفوضى وفقدان التخطيط ثم إبتداع صيغة الجماهيرية الأشد فوضوية مما سبق ثم بقية النظريات المضحكة المستمدة من خزعبلات ( الكتاب الأخضر ) الذي أهدرت على طباعته و الترويج له و التبشير بطروحاته مليارات هائلة من أموال الليبيين، جميعها كانت بمثابة حملة إستنزاف تاريخية للشعب الليبي كلفته الكثير وحيث ما زال يبحث عن طريقه المستقبلي في ظل تصادم وصراع الأفكار و الرؤى والتطورات، نظام العقيد الذي كان ترك أطنان هائلة من الخراب السياسي و النفسي و الإقتصادي و الإجتماعي ليس من السهل تخطيها و تجاوز آثارها و آثامها السلبية، فقد تحول العنف و القتل و الفوضى ليكون قانونا و عرفا للحياة هناك.

داود البصري

والأبشع من كل شيء هو النهاية العاصفة والدموية للعقيد و أركان نظامه الذين لم تتح الفرصة أبدا للشعب الليبي لعرضهم على محكمة التاريخ و الشعب و معرفة حقائق و تداخلات العقود الأربعة السوداء من عمر و تاريخ ليبيا و العالم العربي، لقد تم إعدام العقيد بأوامر و تخطيط مسبق من قبل المخابرات الدولية وهو أمر معروف وواضح منذ البداية وكان يمكن لمن أعتقله أن يتحفظ عليه ليعرض على الجماهير و لتعرف من فمه كل حقائق الماضي القريب و البعيد و بطريقة يمكنها من ترتيب الأولويات وفتح صفحة جديدة في تاريخ الشعب الليبي، ولكن الإرادة الدولية المنافقة و خطط الغرف المخابراتية السوداء لم تشأ إلا أن تفعل قوانين ( الإذن بالقتل ) و التصفية المباشرة و الإخراس المباشر لقادة المافيات السلطوية، لقد قتل العقيد و أنطوت ملفات نظام كان بمثابة إطار جامع لكل حركات الإرهاب و التخريب في العالم، نظام كان بحوزته أسرار إستخبارية هائلة تفضح طبيعة التخادم بين دول الغرب و الحكام الذين يتغطون بأردية الثورية و الوطنية و النضال و إذا هم في حقيقتهم أقوى أدوات الإستعمار الجديد ووكلاء تاريخيين للمصالح الغربية التي لا تريد الخير و التقدم لشعوب المنطقة، في حوزة نظام القذافي كانت تقبع أسرار هائلة لا نعرف أين توارت اليوم بعد إبادة النظام و هروب بعضا من قياداته الأمنية لملاجيء آمنة مثل السيد ( موسى كوسا )!! ووقوع عبد الله السنوسي وأبو زيد عمر دوردة رهن الإعتقال، ولكن لا أسرار متسربة و لا ملفات مفتوحة و الشعب مغيب لم يعرف شيئا و لن يعرف لأن أهل الحل و العقد في واشنطن و لندن و باريس و روما لا تريد للشعوب أن تعرف أبدا، بل أن تعيش الفوضى و تحمل سيوف الثأر و الإنتقام و الفوضى غير الخلاقة.

تصوروا لقد أرسل القذافي لقناة الرأي العراقية التي كانت تبث من دمشق و تحت إشراف المخابرات السورية وصاحبها مشعان الجبوري وثائق إستخبارية ليبية مهمة مع مبلغ 25 مليون دولار للتمويل الإعلاني لصالح النظام الليبي خلال الحرب الأخيرة فأعترضت المخابرات السورية تلك الصفقة و صادرت الملفات و الأشرطة الأمنية البالغة الدقة و الحساسية و الفضائحية و تقاسمت المبلغ مع مشعان الجبوري والذي يا لسخرية الأقدار عاد وطلب الصفح و بوساطة المخابرات السورية من نظام نوري المالكي في العراق الذي اسقط عنه التهم الإرهابية المدان بها في صفقات فاضحة للدوس على دماء الشعوب المقهورة، و الطريف إن المخابرات السورية قامت بدور فاعل أيضا في تحديد مكان القذافي للمخابرات الفرنسية وحيث جرت عملية الإغتيال و التصفية و الإخراس للأبد و بطريقة فوضوية متوحشة لم تراع أبدا أن ذلك الشخص قد مارس نزواته وجرائمه على الشعب الليبي و من حق الشعب أن يعرف كيف حصل ما حصل و ماهو مصير الملفات العالقة... و أين الأموال الليبية المنهوبة؟ و لكن كانت رصاصات المخابرات الدولية هي الأسرع لتطوي صفحة سوداء و لتفتح صفحات أشد سوادا من قطع الليل المظلم بعد أن تحول الموضوع لثأر عشائري محض و تلاشت الدلالات الحقيقية التي ينبغي أن تسود بعد نجاح الثورات الشعبية و التي سرعان ما تأكل رؤوس أبنائها من الثوار، لقد تم إسكات العقيد برصاصة في الرأس وهو أسلوب مافيوزي محض ليسدل الستار على فضائح الخدمات الخاصة التي قدمتها الحكومات الغربية لدعم القذافي ميدانيا رغم الحملات الإعلامية الغربية ضده.. إنه نفاق الغرب التاريخي و أسلوبه في صناعة النجوم ومن ثم إحراقها!! و كذلك يفعلون على الدوام؟ لقد سبق التجربة الليبية المرة و الصاعقة تجربة أشد مرارة في العراق الذي أطاحت بنظامه الإستبدادي السابق أقوى قوة عسكرية في الكون وهي الولايات المتحدة التي هدمت المعبد العراقي على رؤوس الجميع و لكنها و يا للمفارقة الغريبة لم تنجح أبدا في جمع أشلاء العراق المتشظية بل سلمته على طبق من ذهب للنظام الإيراني الشريك في التخادم الدولي و لوكلائه المنتمين فكريا و سلوكيا لأعتى قوى التخلف و الرجعية و الردة و الإرهاب تحت ظلال الدعايات الديمقراطية المزيفة، و حكاية صدام حسين هي حكاية أغرب من حكايات الروايات الخيالية وحتى الأسطورية لشخص بزغ من عتمة الظلام العراقي و إلتقطته المخابرات الدولية لتصنع منه رمزا قوميا آمن بطروحاته الكثير من العرب ورفع صورته ملايين العراقيين و حاربت تحت راياته ملايين أخرى!! شخص كانت كل مؤهلاته حياكة المؤامرات و التخلص من الرفاق قبل الأعداء و الجرأة في القتل و الإقتحام تمكن من الهيمنة على العراق لأكثر من ثلاثة عقود قاسية حفلت بإنجازات و خيبات و إنتصارات وهزائم ثقيلة و لكنه بالمقابل من كل ذلك نجح في بناء الدولة الأمنية بدلالاتها وسياقاتها المافيوزية ولم يكن الغرب بعيدا عنه بل كان يدعم وبوضوح كل خطواته التسلطية، فالفرنسيون ساهموا في بناء مشروعه السلطوي و الأمريكان دخلوا على الخط المباشر منذ عام 1979 وهو عام وثوبه المباشر على السلطة وقتل المخالفين له من قيادات حزب البعث الذي كان وساد ثم باد.

الحديث عن نظام صدام حسين يحتاج لمجلد وليس لمقالة عابرة متوجعة، لقد إنتهى صدام حسين على يد رعاته من القيادات الغربية لأنه خرج عن التصوص المرسومة وأضطرت الولايات المتحدة للتدخل المباشر لإزاحته لأن القوى الوطنية العراقية كانت عاجزة تماما عن التحرك فضلا عن التخلص من الدكتاتورية و الإستبداد، إعدام صدام حسين كان النقطة الأسوأ في سيناريو النهاية البشعة، لقد عرض صدام امام محاكمة علنية ولكنها من الناحية القانونية والتاريخية كانت مهزلة، فملفات الإتهام كانت يمكن أن تكون محاكمة تاريخية هائلة وغير مسبوقة لوبدأت فعلا من التحقيق في بدايات جرائم صدام والتي كانت موجهة أولا ضد حزب البعث نفسه عام 1979 فضلا عن ملف الحرب مع إيران و تداخلاتها وأسرارها وملف غزو الكويت و أسراره و مغاليقه الرهيبة التي تم طمسها بالكامل لتتمحور المحاكمة حول قضية طائفية دعوية صرفة وهي محاولة إغتيال صدام في قضاء الدجيل عام 1982 من قبل عناصر من حزب الدعوة وفي زمن الحرب؟ هل هذه قضية تستحق فعلا التركيز عليها و تجاهل ملفات وقضايا محورية كونية خطرة، وطبعا عملية إعدام صدام وإسكاته للأبد لم تكن عراقية صرفة بل كانت قرارا أمريكيا أولا و أخيرا، فلولم يسلم الجيش الأمريكي صدام لجلاديه لم تكن لتتم عملية الإعدام التي جاءت بإخراج كان غاية في الرداءة وعمق من أصول الفتنة العراقية الطاغية و أظهر صداما بمظهر البطل الذي يرتعد منه وهو مكبل ومدلى من على حبل المشنقة قيادات النظام الجديد الذين كاد بعضهم أن يتبول بسرواله من الرعب كما حصل مع مستشار الأمن القومي العراقي الرهيب!!

ولم تكن عملية الإعدام لشخص سقط من الحكم و أنتهت أيامه وبال عليه الزمن بل أنه إعدام للملفات الستراتيجية الرهيبة ولذاكرة التاريخ التي طمست بالكامل و للملفات الغامضة و السرية للمافيات الدولية التي تحرص أشد الحرص على منع مقولة ( من حق الشعوب أن تعرف ) من التجسد... وملفات التآمر المافيوزي الدولي على ذاكرة الشعوب المظلومة و المسحوقة أكثر من أن يتم حصرها في مقال.. إنه النفاق الدولي الذي لايرحم، والتاريخ في النهاية لن يرحم الضعفاء، ومن يهن يسهل الهوان عليه.

[email protected]