برزت الأسبوع الماضي قراءة متفائلة للأجواء الأميركية – الإيرانية بأنها تتّجه نحو التهدئة والتفاهمات في رسائل مُبطّنة عبر الساحات الخليجية والعراقية. لعل التمنّيات هي التي كانت المؤثِرة في هذا التفكير لأن ما يحدث الآن عملياً في اطار العلاقة الثنائية ليس مُؤشّراً أو مُبشّراً بنقلة في اتجاه التفاهم والتعاون، حسبما أفادت مصادر على تواصل مع الطرفين.

مطلع هذا الأسبوع، الأرجح غداً الاثنين، سينعقد اجتماعان مُهمان أحدهما في واشنطن على مستوى عالٍ لصنّاع القرار للبحث في المسألة الإيرانية من عدة منطلقات بما فيها بحث خيار العمليات العسكرية الوقائية لمنع طهران من تنفيذ ما تعتقد واشنطن أنها تقوم بالإعداد له. أما الاجتماع الآخر فإنه، حسب المصادر، سيُعقد على أعلى مستوى قيادات "الحرس الثوري" بما فيها خليفة قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني الذي تعهّدت هذه القيادات بالانتقام لقتله بعملية أميركية في مطار في العراق.

المثير في هذه المعلومات هو أن هذا الاجتماع سيُركّز على بحث لبنان ومستقبله السياسي والاقتصادي لضمان سيطرة "حزب الله" عليه، وسيتناول أيضاً البحث في موضوع العراق الفائق الأهمية للجمهورية الإسلامية الإيرانية. لبنان والعراق يشكّلان الأولوية القصوى لطهران بحيث ان قرار القيادات هناك هو أن يبقى البَلَدان في الفلك الإيراني مهما كان الثمن ومهما كلّف الأمر. وبالتالي، ان قراءة أجواء الأسابيع المُقبلة في العلاقة الأميركية – الإيرانية لا تُفيد بالانفراج وإنما هي أقرب الى التأهب بتدابير لا نعرف توقيتها وما إذا كانت استباقية أو انتقامية.

تحوّل العراق الى محطة تفاؤلية في أعقاب فوز مصطفى الكاظمي بأغلبية الأصوات البرلمانية لانتخابه رئيس وزراءٍ للعراق يتمتّع أيضاً بترحيب أميركي وروسي وأوروبي وإقليمي. البعض أشار الى ملامح تغيير في المشهد العراقي، بما فيه إزالة صورة عملاقة لقاسم سليماني من محيط المطار حيث قُتِلَ، كمؤشّر على تحرّر العراق نسبياً من قبضة إيران، أو، كرسالة مبطّنة من طهران الى واشنطن عنوانها "قب الباط" بهدف التهدئة وسحب فتيل التوتر.

الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكّد في اتصال هاتفي مع مصطفى الكاظمي أن العراق بلد مهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي وأعرب عن استعداده لتقديم الدعم الاقتصادي. وبدوره، أكد الكاظمي حرص العراق على اقامة أفضل العلاقات مع الولايات المتحدة.

"قب الباط" – إذا كان هذا فعلاً ما حدث وليس تطوّراً حدث رغم أنف طهران – لا يعني أن تحوّلاً جذرياً طرأ على السياسات الإيرانية في العراق، لا نحو الولايات المتحدة داخل العراق ولا نحو العراق بحد ذاته. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية ليست في وارد الاستغناء عن العراق وتركه ساحةً للأميركيين. لذلك، وبحسب مصادر مقرّبة من طهران، ان رأي القيادة الإيرانية هو "ان هذه الحكومة الجديدة ستكون انتقالية جداً، وهي مجرد حل مؤقّت". فالعراق ما زال مفتوحاً على المآسي واللااستقرار وسيبقى ساحة هشّة طالما لم يُحسَم النزاع الأميركي – الإيراني اما لجهة التفاهمات أو لجهة هزيمة طرفٍ من الطرفين في العراق.

لبنان مسألة مختلفة وهو في حسابات الجمهورية الإسلامية الإيرانية "صكّاً أخضر" في حوذتها طالما حزب الله يحكم ويتحكّم في لبنان. فالقيادات الإيرانية ليست في وارد التهاون أو التنازل في لبنان وهي مسّتعِدّة لأية إجراءات ضرورية تضمن لها الملكيّة التي صانها لها حزب الله في الأراضي اللبنانية.

هذا لا يعني ان لبنان أهم لدى طهران من العراق وإنما يعني أنه أهون وأسهل حتى وان كانت إسرائيل على حدوده. فهناك هامش معروف من التفاهمات والخطوط الحمر والمناطق الأمنية وشريط العزل عبر القوات الدولية أي "اليونيفل"، بين حزب الله وإسرائيل. ثم هناك الآن منطقة عازلة أخرى تضمنها روسيا بين إسرائيل وإيران في الجولان، كذلك بـ "قب باطٍ" للنظام في دمشق. لهذا، ان الداخل اللبناني يشكّل الأولوية للجمهورية الإسلامية الإيرانية حيث أنها تنوي ألاّ تسمح بأي ما من شأنه تغيير معادلة تحكّم حزب الله مهما كان.

المواقف الأميركية ليست واضحة تماماً في شأن لبنان لأنه يبدو أولوية ثانوية لدى واشنطن سوى من منظور محاربتها حزب الله عبر توسيع نطاق تصنيفه "إرهابياً" في الدول الأوروبية. إلا أن المصادر الأميركية الرفيعة المستوى تصرّ على فعاليّة سياسة تطويق حزب الله بالتصنيف، وبالعقوبات الإقتصادية، وعبر التصدّي لعملياته وشبكته العالمية، وباتخاذ الاستعدادات لتنفيذ خطط استهداف حلفائه بعقوبات مؤذية، وبالإصرار على منع الدول الأوروبية من مد شبكة الإنقاذ الاقتصادي للبنان طالما لا تتبنّى حكومته إصلاحات جذرية جدّية تشمل إفشال تملّك حزب الله المطار والمرفأ والحدود مع سوريا.

استرخاء اللبنانيين - زعامات وقيادات طائفية وأحزاب وحكومة ومؤسسات مالية ومصرفية وغيرها- في عفن المحاصصة والفساد واستدعاء العالم الى مد المساعدة أدّى بوزير الدولة الأسبق للشؤون السياسية الخارجية البريطانية، أليستر بيرت، الى القول بصراحة لجميع اللبنانيين: "عالجوا فسادكم واقتصادكم وكفّوا عن الركض الى الآخرين" للمساعدة. قال ان "الحلول تقع في أيادي الذين يحكمون في لبنان وأولئك الذين يصبون للحكم، إنما المسألة في نهاية المطاف هي مسألة حزب الله والتي لا يمكن التملّص أو التزوّغ منها. فلا مناص من مواجهتها".

أليستر بيرت كان يتحدّث في الحلقة المستديرة الثانية لمؤسسة "بيروت أنستيتوت" وشارك فيها الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية عمرو موسى، والخبير الروسي بشؤون الشرق الأوسط فيتالي ناومكين، ونائب قائد القوات الأميركية المركزية الأسبق والرئيس الحالي لـ"لوكهيد مارتن" الأدميرال روبرت هاروارد.

فيتالي ناومكين قال "ان الوضع السياسي والاقتصادي سيء، إنما لا أعتقد أنه علينا أن نلوم إيران". قال انه يجب الكف عن "شيطنة" إيران. روبرت هاروارد قالها بوضوح "ان الأمر يتكرر دوماً ولقد شاهدنا ذلك من قبل. لن نستطيع مساعدتهم أكثر مما في إمكانهم مساعدة أنفسهم". فوضحت الرسالة.

عمرو موسى، وفي معرض الكلام عما إذا كانت هناك حقاً حلحلة في العلاقات الأميركية – الإيرانية وبداية للتهدئة وتخفيض التوتر، قال: "حتى الآن، لا أرى أي مؤشر جدّي على تغيير في الوضع بين الولايات المتحدة وإيران" إنما "نحن في حاجة بالتأكيد الى خفض التوتر" وبالرغم من انه لا مؤشّر على هذا حالياً "لا يمكننا استبعاد حصول ذلك".

ناومكين وافق الرأي. لكنه أضاف أيضاً "اعتقد ان الكلام عن المواجهة الجدّية، أو الحرب، أو الانخراط عسكرياً إنما هو كلام مفرط عن مثل هذه المخاطر. وأنا أعتقد أن الجميع براغماتيين" حالياً بسبب وباء كورونا وبسبب انخفاض أسعار النفط.

همسات البراغماتية تصدر كما يبدو عن بعض الدوائر في واشنطن– بسبب الرغبة بتجنّب المواجهة العسكرية– وفي طهران كوسيلة من وسائل التموضع عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية ونتيجة الصعوبات الداخلية المصيرية في إيران.

البعض يتحدث عن صمت طهران وحزب الله ازاء صراحة ووقاحة اعلان إسرائيل العزم على ضم الضفة الغربية وغور الأردن ويقول انه مؤشر الى الاستعداد لتمرير صفقة القرن الأميركية. ما هو المقابل؟ هوذا السؤال الأهم والأعمق والذي يدخل في حسابات بوصلة التصعيد والتهدئة في العلاقة الأميركية – الإيرانية.

ما قيل عن ان سحب الولايات المتحدة صواريخ "باتريوت" من السعودية هو نتيجة رؤية أميركية جديدة بأن واشنطن لا تعتبر "التهديد الإيراني" كبيراً ليس كلاماً دقيقاً سيما بعدما سكب وزير الخارجية مايك بومبيو الماء البارد عليه مؤكداً أيضاً ان ذلك "ليس تخفيضاً لدعمنا" للسعودية "ولم يكن بأي شكل من الأشكال محاولة للضغط عليهم (السعوديون) بشأن النفط".

إنما ما صدر في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الى مجلس الأمن حول تنفيذ القرار 1559 المعني بلبنان فإن له دلالة ووراءه رسالة نظراً للتوقيت وللنبرة – وبالرغم من أنه ليس كلاماً جديداً بالمطلق. قال "لا زلت أحث الحكومة والقوات المسلحة اللبنانية على اتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع حزب الله والجماعات المسلحة الأخرى من الحصول على أسلحة وبناء قُدرات شبه عسكرية خارج نطاق سلطة الدولة في انتهاك للقرارين 1559 (2004) و1701 (2006)".

الاجتماع المهم في طهران الأسبوع المقبل في شأن لبنان سيلقي الضوء على مصير لبنان. والاجتماع المهم في واشنطن سيضيء على ما إذا كانت الأجواء مع إيران أجواء مواجهة أو ان فيها ضمناً بعض التمهيد للتهادنية البراغماتية.