القمة الافتراضية لدول مجموعة العشرين G20 التي ترأس السعودية دورتها الحالية وتضم أكبر اقتصاديات العالم انعقدت هذا الأسبوع ودعت الى التكاتف وإنشاء جبهة موحّدة في وجه فيروس كورونا الذي يدمّر الاقتصاد العالمي فكرّست مبلغ 5 تريليون دولار لشن الحرب عليه وخصّصت ميزانية للبحث العلمي والتكنولوجي لوقف زحف هذا الوباء الذي يفتك بالأرواح عالمياً بلا تمييز. المبادرة السعودية أتت في مصلحة إحياء فائدة العولمة في معالجة آثار وتداعيات انقضاض هذا الفيروس الرهيب على البشرية.
أسفرت أيضاً عن احتواء حرب أسعار النفط والى ترطيب في العلاقات السعودية – الروسية مع ان موضوع النفط لم يتم بحثه داخل القمة الافتراضية. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حضر القمة بعدما تدخّلت الولايات المتحدة مع السعودية للعودة عن عزمها على إغراق الأسواق النفطية انتقاماً من السياسة الروسية، وذلك ارتقاءً الى مستوى الحدث الأكبر - أي آثار انتشار وباء كورونا على كافّة الاقتصاديات عالمياً.
استفادت المملكة من انعقاد القمة الافتراضية برئاسة الملك سلمان بن عبد العزيز لتعزّز مكانتها في مجموعة العشرين وتثبت حرصها على تماسك هذه المجموعة وتكاتف جهودها ضمن جبهة موحّدة. الفائدة الأخرى تمثّلت في التوافق الضمني على إيقاف حرب أسعار النفط بهدف زيادتها ممّا يفيد الاقتصاد الروسي الذي عانى نتيجة المعركة مع السعودية، ويُعالج المخاوف الأميركية من تدمير النفط الصخري الأميركي لو استمر تعويم الأسواق النفطية وانخفاض الأسعار، ويلبّي حاجة السعودية - والدول الخليجية التي دعمتها في حربها النفطية مع روسيا – الى ارتفاع أسعار النفط لأن الكساد الاقتصادي العالمي نتيجة فيروس كورونا مكلفٌ جداً لاقتصادها والتزاماتها الكبيرة.
الملك سلمان يوجه كلمة مع بدء أعمال قمة مجموعة العشرين الافتراضية (واس)
السباق العالمي ليس فقط على إنقاذ الأرواح والاقتصاد وإنما أيضاً على وضع تصوّر جديد للسياسات الاستراتيجية في زمن ما بعد كوفيد-19. الحزبان الجمهوري والديموقراطي في الولايات المتحدة توصّلا الى إجماع نادر واتفقا على تكريس ما يفوق 2,2 تريليون دولار لمساعدة المواطنين في رزمة لحماية الاقتصاد الأميركي من الانهيار ومن الوباء. ألمانيا في طليعة الدول الأوروبية التي خصّصت المليارات لإنقاذ الأرواح والاقتصاد وهي بين الدول الصناعية الكبرى التي تضع قدراتها المالية والتقنية والطبية والتكنولوجية في خدمة مواطنيها واقتصادها وترسم الاستراتيجيات للمستقبل.
الدول النامية تنقسم الى دول جدّية تبذل قصارى جهدها عبر استراتيجيات أثبتت جدواها، ودول فقيرة تفتقد المقوّمات الأساسية حتى لإنقاذ الأرواح، ودول وجدت في فيروس كورونا اصبعاً تختبئ السلطة وراءه تشبّثاً بالبقاء في الحكم وكوسيلة لإنقاذ نفسها من المحاسبة – ولبنان مثال حي على الفئة الثالثة.
فالطبقة السياسية الحاكمة ترفض الاستعانة بصندوق النقد الدولي علماً أنه الوسيلة الوحيدة لانقاذ البلد من الانهيار لأنها تخاف من الاطّلاع على دفاترها الفاسدة فتتعرّض للمحاسبة وربما المحاكمة. دولة تخاف من سلطة جيشها فرفضت إعلان الطوارئ صيانةً لتسلّطها على السلطة.
الأنظار العالمية ليست مسلّطة على هذه الفئة من الدولة الفاشلة. تكريس مبلغ 5 تريليون دولار في القمة الاستثنائية الافتراضية لدول مجموعة العشرين سيساعد حتماً الدول النامية غير القادرة على تخصيص التريليونات والمليارات داخل بلادها.
الأنظار اليوم تتسلّط على الدول الصناعية المتطوّرة التي تحمل مفاتيح الفرج لأنها متقدّمة علمياً ولديها القدرات التكنولوجية والطبية. هذه الدول لن تتوقف عن التنافس فيما بينها حتى في زمن كوفيد-19 الذي يكاد يوحّدها. الانصباب الآن هو على إيجاد الدواء واللقاح وإجراء الفحوصات وكل دولة تبحث عن طبع هويتها على وسائل احتواء وتدمير هذا الفيروس. ذلك أن اقتصاد الدولة التي ستسبق الآخرين في إيجاد الدواء واللقاح سيُحلّق كما سمعتها في العالم، إذا كانت السبّاقة.
التوتّر بين الولايات المتحدة والصين ليس بلا أساسٍ منطقي مهما طاب للبعض الاستهزاء بالرئيس الأميركي دونالد ترمب مهما فعل. فالصين فعلاً ألحقت الأذى بالعالم أجمع بإخفائها قصة فيروس كورونا وبتضليلها لغايات قد لا نعرف أبعادها في مجتمع غير منفتح وحُكم شيوعي لا يفسح المجال للتساؤل والمساءلة.
النظريات عديدة تمتد من اتهام الصين بالتغطية على اختبارات بيولوجية خرجت عن السيطرة، الى توجيه تهمة تعمُّد ضرب الاقتصاد العالمي عبر تصدير الفيروس، الى الاستمرار في حجب الأرقام الحقيقية اما في إطار الإصابات أو في إطار الشفاء. إنما في أعقاب تبادل الاتهامات بين أميركا والصين والتي بدأت بتوجيه الصين اتهام عدوى الفيروس الى القوات الأميركية ووصلت الى وصف ترمب للكوفيد-19 بأنه "فيروس صيني"، عاد الرئيسان الأميركي والصيني الى رشدهما وتحدّثا هاتفياً بعد قمة دول العشرين بروح العمل المشترك في وجه هذا الوباء. وسنرى لاحقاً كيف ستتطوّر الرغبة بالتعاون وأين ستكون حدودها في إطار التنافس العالمي.
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال مؤتمر صحافي في البيت الابيض
الولايات المتحدة دخلت أيضاً على خط حرب أسعار النفط بين روسيا والسعودية أولاً لمصلحتها الذاتية حمايةً للنفط الصخري الأميركي الذي كادت السياسة السعودية النفطية تدمّره. لكن المساهمة الأميركية في إقناع السعودية بالعدول عن إغراق الأسواق النفطية أتى لمصلحة روسيا التي دفعت ثمناً كبيراً اقتصادياً لحربها مع السعودية.
النتيجة ستكون في إعادة الحوار بين موسكو والرياض لتتكلم القيادتان حول كيفية معالجة الخلافات وحل الأزمة والتوصّل الى تفاهمات في شأن مستوى الإنتاج، والأهم في شأن الأسواق وحرب الحصص. فروسيا بدأت الحرب وفي ذهنها تدمير "الأوبك" ففوجئت بردة فعل سعودية لم تكن تتوقعها. والسؤال الأهم اليوم هو هل ستستفيد القيادات المعنية من دروس ما حصل فتعالج الأمر بمقاربة جديدة، أو هل سيخيّم العناد على أجواء الانفتاح فتعود الأزمة الى المواجهة مهما كان الثمن وبغض النظر عمّن يتوسط.
فلقد سبق للولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ريغان عام 1986 ان فشلت في إقناع السعودية بالتخلّي عن حرب الأسعار مع أن المبعوث الخاص بهذه المهمة كان جورج بوش الأب. ثم ان روسيا أرادت ليس فقط استهداف النفط الصخري الأميركي عندما وضعت سياساتها النفطية الاستفزازية وإنما استهدفت منظمة "أوبك" الأساسية في كامل السياسة السعودية النفطية والسياسية والاقتصادية. لذلك، وفيما تتنفّس الأسواق والصناعات قليلاً نتيجة الحديث المرتقب بين عملاقين نفطيّين، ما زالت تقبض على أنفاسها خوفاً من الفشل في التفاهم.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعمّد مصافحة ضيوفه أمام عدسة الكاميرات برسالة اعتبرها البعض إنذاراً بفوقيّة خارقة لرجل الكرملين الذي كان في الوقت نفسه يعلن إيقاف الرحلات الجوية وسط غموض في حقيقة حال فيروس كورونا في روسيا. الغاء التصويت الشعبي على التعديلات الدستورية التي أعطته صلاحيات فوق العادة والذي كان مقرراً في 22 الشهر المقبل ليس قراراً سهلاً لأن بوتين أراده أن يكون تصديقاً شعبياً على تتويجه في السلطة. قد يضطر لإلغاء موعدٍ آخر فائق الأهمية له وهو الاحتفاء بيوم الانتصار على النازيّة في 9 أيار (مايو) حين يتجمّع تقليدياً أكثر من مليون نسمة تأكيداً على الوطنية والفوقية والهيبة الروسية.
موظف في البلدية أثناء عملية تعقيم في موسكو بتاريخ 28 مارس 2020 لمنع تفشي كوفيد-19
ليس واضحاً ان كانت خيبة الأمل بإلغاء هذه المواعيد ستدفع بوتين الى التركيز على إنقاذ الاقتصاد الروسي حتى ان كلّفه تراجعاً في سعيه لسحب البساط في القيادة النفطية من تحت أقدام السعودية ليفرض على دول الأوبك ما تريده روسيا. فقد رفض الرئيس الروسي الالتزام بخفض انتاج النفط لأن نسبة الانتاج والأسواق المتاحة أهم له من الأسعار. صدمته الردود السعودية لأنها قطعت الطريق عليه برفعها مستوى الانتاج لتحرم روسيا منها ولتواجه التحدّي بتحدٍّ أكبر. فكانت النتيجة مُكلفة للعملة الروسية وللاقتصاد، ثم أتى فيروس كورونا ليُضاعفها قبل أن تساهم جبهة التصدّي للوباء في دفع موسكو والرياض الى إعادة النظر.
الرئيس الأميركي واثق من القدرة على مواجهة تداعيات هذا الوباء ضمن مواعيد يعتبرها البعض خرافية مثل قوله انه يتطلّع الى احتواء تفشيه بحلول عيد الفصح منتصف الشهر المقبل. شخصية دونالد ترمب لطالما أثارت الإفراط في الولاء له والإفراط في الكراهية تجاهه. الرأي العام الأميركي هو الذي سيقرّر في نهاية المطاف إذا كان دونالد ترمب أحسن الأداء في التصدّي لفيروس كورونا صحيّا واقتصادياً أو ان فشل، وذلك عند إجراء الانتخابات الرئاسية الخريف المقبل. إنما لا بد من الاعتراف أن الولايات المتحدة الأميركية تسجّل أكبر نسبة من الإصابات بكوفيد-19 لأنها تقوم حقاً بإجراء الفحوص test للتعرّف على حقيقة مستوى تفشي الوباء. أميركا وضعت خلافاتها السياسية وراءها واتفقت على رزمة 2,2 تريليون دولار لدعم الاقتصاد ومساعدة الناس عبر شيكات مباشرة الى المواطنين الأميركيين.
نموذج لأجهزة فحص كوفيد-19
حفنة صغيرة من الدول تصرّفت حقاً بالشفافية المطلوبة أخلاقياً أمام شعوبها وأمام العالم وتبنّت استراتيجية التصدّي للوباء وصيانة الاقتصاد من الانهيار، كما فعلت الولايات المتحدة. وبغض النظر عن ايدلوجيات البعض وكراهية البعض الآخر للولايات المتحدة، إنّ تعافيها وقيادتها للخروج من كابوس وباء كورونا إنما هو السبيل الى التعافي العالمي لأنها الاقتصاد الأول في العالم وإمكانياتها خارقة. فاستحق الأمر ليس التمني لأميركا بالزوال وإنما الدعاء لها لتقود العالم الى الخروج من نفق هذا الوباء.
التعليقات