لن تفلح الحكومة اللبنانية برئاسة حسّان دياب في أيّة خطة إنقاذية طالما انها تُقطِّر وتُؤطّر الإصلاحات بما يُلبّي "حزب الله" وحلفاءه اللبنانيين والإقليميين، وطالما يخاف رئيس الحكومة اليافع في منصبه على بقائه في المنصب أولاً حتى ولو كان ذلك على حساب الناس ومستقبل البلاد.

انه ورقة التين على محورٍ جليّ في وضوح انتماءاته يقوده "حزب الله" المحنَّك الذي يتباهى بولائه القاطع للجمهورية الإسلامية الإيرانية ولإيديولوجيتها ولمشاريعها الإقليمية وأجندتها الدولية التي يُمليها مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي والحرس الثوري الإيراني. القرار اليوم في طهران، كما نقلته مصادر وثيقة الاطّلاع، هو ان الوضع الداخلي الإيراني الآخذ في التدهور وبالتالي الخطورة على النظام إنما يتطلب أمرين: مغامرات عسكرية إيرانية في منطقة الخليج تجرّ الرئاسة الأميركية الى الرد العسكري بما يكلّف دونالد ترامب ولايته الثانية. حسب رأي القيادات الإيرانية.

وثانياً، حشد جبهة إقليمية معادية للولايات المتحدة، بالذات في العراق ولبنان، لتقوم بكل ما يستلزمه الأمر من أجل تحويل الأنظار عن التدهور في الداخل الإيراني. "حزب الله" يشكّل لطهران ذخيرة مميّزة قيمتها غالية. ولذلك تريد القيادة الإيرانية من لبنان أمرين أساسيين هما: أولاً، توطيد وتوسيع وترسيخ وتطوير قبضة "حزب الله" على لبنان للانقلاب على نظامه المصرفي واقتصاده الحر ودستوره ونظامه السياسي ليصبح يشبه النظام في طهران ويتصرّف بالكاش من الدولارات الضرورية لتنفيذ عملياته الإقليمية نيابة عن طهران بعيداً عن العمليّات المصرفية والرقابة. وثانياً، تريد إيران قطع الطريق على أية امكانية لنجاح الانتفاضة أو الثورة الشعبية اللبنانية التي تُطالب بالإصلاحات والمحاسبة والشفافية لأن تلبية تلك المطالب لا تطيح فقط بجميع الفاسدين في الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، وإنما تُعرّض منظومة "حزب الله" للهشاشة – وهذا ممنوع قطعاً بقرار من أعلى السلطات في طهران.

لذلك، لا داعٍ بالحكومات الأوروبية للاختباء وراء إعطاء حكومة دياب الفرصة لإثبات الجدّية في عزمها على الإصلاح متناسية قنبلة الوقت على الشعب الذي بات جائعاً وخائفاً وقلقاً. هذه حكومة "اللون الواحد" – أي حكومة "حزب الله" وحلفائه في التيار الوطني الحر بالدرجة الأولى، تحديداً رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل الساعي وراء وراثة الرئاسة. انها حكومة المحور الإيراني – السوري مهما تظاهرت بأنها حكومة تكنوقراط ذات بدعة الاجتماعات المتكرّرة والكلام المضلِّل واللجان التي تجتّر اللجان.

واضح تماماً للجميع أن لا مجال لانقاذ لبنان من الانهيار سوى عبر تفاوضٍ جدّي مع صندوق النقد الدولي IMF يفتح الباب أمام أموالٍ من الخارج شرط إثبات الإصلاحات الجذرية الجدّية. "حزب الله" يرفض التفاوض والتعاون مع "صندوق النقد الدولي" سوى بموجب شروطه وبالانتقائية التي يوافق عليها الرئيس عون وصهره باسيل القابض على مفاتيح شركة الكهرباء وكذلك مستقبل النفط والغاز والطاقة بِرُمتها.

بكلام آخر، هذا المحور يريد نصائح تعجبه من صندوق النقد الدولي إنما مع تحييده ومنعه من التدقيق في الدفاتر والحسابات كتلك في قطاع الطاقة الذي أفلس الدولة.

جواب صندوق النقد الدولي على البدعة تلو الأخرى التي تتقدم وتقدّمت بها حكومة المحور أتى عندما طلبت حكومة دياب قروضاً ومعونات في مواجهة "كورونا" اعتقاداً منها أن هذا الوباء يشكّل نافذة على اختبار ما إذا كان في الوسع جر الصندوق الى تقديم المعونات للبنان بمعزل عن تلبية المواصفات.

مصادر مطّلعة على الأمر أكّدت أن صندوق النقد الدولي رد على الطلب بالإشارة الى ان لبنان دولة تخلّفت عن الدفع عندما ضربت ديون "اليورو بوند" بعرض الحائط وليس في وسع الصندوق القفز على الأمر وتقديم القروض أو المعونات.

المفتاح للمعونات الخارجية واضح وهو: التفاوض الجدّي مع "صندوق النقد الدولي" مع إثبات الصدق في إصلاحات شاملة، وليس إصلاحات انتقائية تضغط على قطاع وتستثني الآخر لأسباب سياسية.

وللتأكيد، ان القطاع المصرفي ليس بريئاً من الصفقات السياسية التي أوصلت الى حافة انهيار لبنان بل ان ممارساته الأخيرة نحو المودعين هي إجراءات تعسّفيّة يمكن رفع دعوى على المصارف بسببها أمام القضاء – لو كان القضاء في لبنان فعلاً نزيهاً ومستقلاً. انها مصارف الجشع وبعضها يمارس أعلى مستوى الغباء لأنه يضع نفسه في واجهة المواجهة مع الناس بسبب تحقيره للمواطنين الذين وثقوا به. هذه المصارف استولت عملياً على أموال الناس ومنعتهم من استخدامها بحريّة وأفقرت الأغنياء والفقراء على السواء. انها تستحق الغضب العارم والمحاسبة، إنما ليس حرق الفروع في سابقة خطيرة ولا تدمير نظام الاقتصاد الحر في لبنان.

غطرسة حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، لم تساعد لا بالأمس ولا الآن. انه جزء من التركيبة السياسية ومساهم في تنمية الفساد. بعد محاولة الانقلاب عليه من قِبَل محور "حزب الله" وحكومة دياب، قدّم سلامة الأرقام التي أثبتت أنه ليس هو شخصياً، ولا مصرف لبنان، مَن نهب أموال الدولة وإنما هي الحكومات المتتالية والطبقة السياسية المتحكِّمة اليوم ومنذ 30 سنة برمّتها. لكن رياض سلامة دان نفسه بنفسه عندما قال انه كان ينفّذ القرار السياسي مع انه كان على علمٍ بوطأته على البلد الذي وثق به وأوكل اليه منصب حاكم مصرف لبنان.

إدانة ومحاسبة مصرف لبنان وحاكمه والمصارف اللبنانية المتعجرفة والممنهجة في إجراءاتها التعسّفية إنما هو حق من حقوق المواطن والثائرين الذين يهتفون "كلّن يعني كلّن". هذا شرط ألاّ ينصّب الغضب حصراً على القطاع المصرفي بإعفاءٍ للطبقة السياسية التي هي أساساً أصل البلاء. أيهما أولاً؟ ليتهما يُحاسَبان معاً. أما إذا كان هناك لا مناص من الاختيار، فإن أولوية الغضب والتغيير والإدانة والمحاسبة يجب أن تنصب على السياسيين من أهل السلطة و"الكارتيل" المتسلّط على لبنان، ومباشرة بعدهم تأتي المصارف.
فما سعى وراءه المحور وراء حكومة دياب هو توجيه الثورة ضد المصارف ليس فقط كوجهة غضب وإنما أيضاً في محاولة انقلاب على لُب النظام القائم على الحرّيات - بما في ذلك حرية الاقتصاد – وعلى الدستور. هذا المحور يريد أن يتحرّر من القيود المالية والمصرفية، وأن يحرّر الدولار من المصارف لتكون العملة الصعبة في متناول يديه يتصرّف بها كما يشاء بما في ذلك في مغامراته الإقليمية. وهذا ما يقاومه المحور المعارض الذي يخشى عواقب نجاح هذا الانقلاب على مستقبل لبنان ومستقبل نظامه.

انه "صراع المحاور"، قال أحد المخضرمين في مجال المال. ان ما يحدث هو "التحوّل الجذري في النموذج" Paradigm shift قال مخضرم آخر في المجال الديبلوماسي شارحاً ان الهدف وراءه هو كسر كل شيء له علاقة بالنظام الحالي. انها حقاً مرحلة في غاية الدقة والخطورة حيث الفلتان الأمني وارد جداً سيما في زمن الفقر والجوع والغضب. فلبنان يقف على مفترق الهاوية بلا قلق دولي، بل بلا اهتمام.
وباء كورونا لم يساعد – ليس فقط لأنه فتك بالناس والاقتصاد العالمي – بل لأنه شجّع الانقلاب على الأنظمة الديموقراطية والليبرالية في ظل التهاء الدول بنفسها وأولوياتها.

روسيا، حسب قول مسؤول روسي سابق، ليست في وارد الاهتمام بلبنان "وهي تلعب دور المراقب وتترك دور اللاعب الأساسي لإيران في لبنان". الصين قد ترحّب بما من شأنه أن يشكّل دعماً معنوياً وسياسياً لها، لكنّها لا ترحّب باستخدام "حزب الله" لها على أن هناك معسكرين، أميركي وصيني، وأن محور الحزب ينتمي الى معسكر الصين. فهي لا تريد أن تُقحَم في الخلافات اللبنانية السياسية ولا في لعبة المحاور.

فرنسا تُبلّغ دون أن تضغط كما يجب. لذلك تقوم الحكومة اللبنانية بتفسير المواقف الفرنسية كما ترتأي، ثم تأتي باريس لتشرح أنها تطالب بإصلاحات جذرية حكومية وإلاّ فالرحمة على الأموال الخارجية للبنان والتعهدات بموجب "سيدر".

المانيا اتخذت موقفاً مُهمّاً نحو إيران التي لها معها علاقات جيدة تقليدياً. فلقد أعلنت المانيا قبل أيام حظراً كاملاً لنشاطات "حزب الله" في جميع أنحاء البلاد وصنّفته "إرهابياً". سفير الولايات المتحدة السابق في ألمانيا والمدير العام بالوكالة للاستخبارات القومية الأميركية، ريتشارد غرينيل، رحّب بالقرار الألماني معتبراً أنه "لا يجب السماح لحزب الله باستخدام أوروبا ملجأً لدعم الإرهاب في سوريا والشرق الأوسط كاملاً".

إدارة ترامب تركّز على إيران وليس على ما يعدّه "حزب الله" في لبنان باعتباره، من وجهة نظرها، الملحق وليس الأساس. لذلك تنوي فرض عقوبات إضافية مالية واقتصادية ونفطية على إيران في الأسبوعين المُقبلين، حسب المصادر. وهذا، حسب قول المصادر نفسها، سيحمل إيران على عمل عسكري لإظهار القوة كي لا يؤدي الضعف داخلياً الى أوقاتٍ أسوأ.

الأوقات الصعبة في إيران ولبنان ستتفاقم والتصعيد يتطلّب حشد الكاش لأن الدولار بات جنديّاً مهمّاً في الحروب الإيديولوجية الدولية منها والإقليمية والمحلية على السواء.