أدخل فيروس كورونا العالم في أزمة عالمية ودائرة خطر غير مسبوقة في العلاقات الدولية، المالية منها والجغرافية – السياسية، وتداخل هذا الوباء مع تصدير الإيديولوجيات كما مع تسعير النفط وترك المشهد في حال هلع في انتظار الدواء لوقف النزيف في الثقة وفي المنطق.

العلاقات الثنائية بين أكبر الدول وأهمها رضخت لإجراءاتٍ فرضها الكورونا تميّز منها هذا الأسبوع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب منع السفر من والى أوروبا، باستثناء بريطانيا، الأمر الذي يهدّد كامل الاقتصاد الأوروبي ويعيد فرز العلاقات التقليديّة بين الحلفاء.

الحرب النفطية بين روسيا والسعودية لم يكن وباء كورونا محرّكها، لكنه بالتأكيد كان مُساهماً مهمّاً فيها، الأمر الذي أسفر عن أوّل تحدٍّ للقيادة السعودية النفطية وساهم في انزلاق البورصات العالمية وهبوط قيمة العملة الروسية.

الجمهورية الإسلامية الإيرانية الموبؤة بالكورونا انشغلت مبدئياً بهذا العدوّ غير المنتظر واضطرت الى تعديل أنماط تصدير ثورتها – دون أن تغيب كليّاً عن ساحات المواجهة - واضطرت الى الاستغاثة بصندوق النقد الدولي الذي فرضت على لبنان رفض معونته بالرغم من انه الوسيلة الوحيدة لإنقاذه من الانهيار التام.

الصين عادت الى طاولة رسم السياسات الاقتصادية والسياسة وبدأت تطمئن أن الوباء الذي انطلق منها بات ينحسر قليلاً، لكن الإنجاز الأهم والأكثر ضرورة والحاجة اليه فعلاً ماسّة هو ايجاد الدواء لهذا الوباء قبل أن يتفشّى لدرجة الخروج التام عن سيطرة أية دولة كانت.

لذلك، ليس هذا وقت المُزايدات والإفراط في القوميّة وادّعاءات التفوّق من أي طرف كان. الولايات المتحدة بالتأكيد دولة رائدة في ميدان الطب والعلم والتكنولوجيا وهي الدولة العظمى الوحيدة في العالم، إنما هذه المكانة يجب ألاّ تكون موقع استقطاب سلبي في زمن الوباء من أجل تحقيق التفوّق في المعادلة المالية وكذلك الجغرافية – السياسية.

فالعولمة العلاجية لا مناص منها في زمن هذا الوباء الذي وضع أمام الكون المعنى الملموس للعولمة – من انهيار الصناعات والبورصات الى الانقضاض على شركات الطيران.

وهنا بالذات تكمن قدرة الرئيس دونالد ترمب على التحوّل الى قائدٍ عالمي بدلاً من التركيز حصراً على القومية والوطنية الأميركية ممّا يتطلّب منه بعض التواضع والرأفة بشعوب الدول التي لن تتمكّن من مواجهة هذا الوباء بمفردها. لكن الرئيس الأميركي ليس المسؤول الوحيد عن قفزة نوعية ضرورية في فكر القيادات السياسية والاقتصادية والدينية سيّما تلك التي تخفي الأرقام عن شعوبها وتتصرّف بلا مسؤولية وأحياناً بلا أخلاقية يجب أن تُحاسب عليه.

في إيطاليا الموبؤة بالكورونا، يقال ان أحد أهم أسباب تفشي الفيروس هو جشع وغباء البعض في صناعة الأزياء Fashion Industry حيث تحايلوا على الحكومة باستيرادهم عاملين من الصين أتوا بهم بتأشيرات سياحية ووظّفوهم بصورة غير شرعية للتمويه عن صناعات صينية وضعوا عليها "صُنع في إيطاليا". ولأن تلك كانت سوقاً سوداء، لم يعلن هؤلاء المجرمين عن الإصابات الأوّلية بفيروس الكورونا في صفوف الصينيين الذين استوردوهم، وهكذا تأخّرت الحكومة بالاستيقاظ الى حجم الكارثة.

هذا الى جانب نزعة الاستهتار لدى شعوب البحر الأبيض المتوسط التي ساهمت في عدم الوقاية من هذا الوباء. وهكذا تحوّلت ايطاليا الى أحد أهم الدول المصدِّرة لفيروس كورونا ليس فقط الى أوروبا وإنما كذلك الى روسيا بل منغوليا.

أوروبا لن تتمكّن من منع تفشي وباء كورونا بسبب انفتاح الحدود على بعضها – علماً ان إيطاليا أغلقت الحدود أخيراً – ذلك ان إغلاق الحدود بين الدول الأوروبية ينسف عمليّاً منطق "الاتحاد الأوروبي". ارتفاع نسبة الإصابات في المانيا مذهلة والخطر يحدّق بكافة القارة الأوروبية. وبحسب أحد الخبراء، ان أوروبا وأميركا الشمالية معاً في دائرة الخطر الآتي ما لم يتم التوصّل الى دواء وعلاج. هذا الشهر الحاسم في مسيرة فيروس كورونا يفيد، حتى الآن، ان شهر ابريل المُقبل سيبقى شهر القلق وتزايد المخاوف وأيضاً الهلع الذي بدوره بات شريكاً للوباء في تدمير الاقتصاد العالمي ما لم يستيقظ الناس الى المنطق قبل فوات الأوان.

الصين، مصدر الفيروس، ستمر يوم الاثنين 16 الشهر الجاري في امتحان مهم جداً، حسب قول أحد الخبراء، إذ انها ستسمح بعودة 280 مليون نسمة الى العمل في أعقاب عزلهم لفترة شهرين. وما يراقبه المسؤولون ببالغ الخوف هو ما إذا كانت عودة هؤلاء الى سوق العمل ستؤدّي الى "موجة جديدة" من انتشار الفيروس، أم لا. انه امتحان يقبض على أنفاس العالم.

في منطقة الشرق الأوسط، تتوجّه الأنظار الى إيران التي باتت مركز الزلزال Epicenter مع ارتفاع عدد الإصابات فيها الى درجة الخروج عن السيطرة فيما يتردّد أن الوفيّات فاقت الألف شخصاً، منهم مسؤولين حكوميين ومنهم من "الحرس الثوري" الذين ينتشرون في سوريا كمقاتلين، وفي العراق ولبنان كمستشارين.

الدول الخليجية المجاورة لإيران اتخذت احتياطاتها عبر اقفال الحدود وإلغاء المراسم الدينية بما فيها العمرة والحج في السعودية. لكن الدول الضعيفة الخاضعة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، مثل لبنان، تأخرت كثيراً في ايقاف الرحلات الجوية من طهران لأسباب سياسية فعرّضت الشعب اللبناني كلّه للخطر. "

"الفائدة" الوحيدة – إذا جاز التعبير – قد تكون في طلب طهران المعونة من صندوق النقد الدولي لمواجهة أزمتها الحادّة لعل ذلك يؤدي بـ"حزب الله" الى فك الحصار عن لبنان بمنع حكومته من اللجوء الى صندوق النقد الدولي. فلا مجال اطلاقاً لخروج لبنان من نفق الانهيار التام ما لم تسمح الدولة – برئيس جمهوريتها ورئيس حكومتها ورئيس برلمانها – أن يتولى صندوق النقد الدولي مهمة الإصلاح الذي يقترن به سخاء الدول الجاهزة لانقاذ لبنان. أي كلام آخر عن إصلاحٍ ذاتي من قبل حكومة حسّان دياب إنما يدخل في خانة الادعاء والهراء.

لا أحد سيستعجل الى معونة الآخر في زمن كورونا الذي ينقضّ على اقتصاد الدول ويُعيد صياغة طُرق العمل ويفرض التأقلم على كافة الحكومات والناس. لكن ما حدث في أسواق النفط ليس نتيجة مباشرة لفيروس كورونا مع أنه بالتأكيد قد تأثّر به بصورة أساسية.

معركة تسعير النفط ومستوى انتاجه بين روسيا والسعودية انتهت هذا الأسبوع برفض الرياض القاطع لتحدّي موسكو لدورها التقليدي الذي نصّبها في "عرش التحكّم وديبلوماسية النفط" حسب تعبير أحد المخضرمين في هذا الملف، "عبر قيادتها للأوبك وتطويقها للمتطرفين لعقود عديدة".

الرئيس ترمب اعتبر ان انخفاض أسعار النفط نتيجة المعركة الروسية – السعودية لعلّه يساوي إعفاءً ضريبياً Tax Cut للأميركيين كأمر واقع. الرئيس بوتين من جهته دفع ثمناً ليس فقط بانخفاض قيمة العملة الروسية بنسبة 10 في المئة وإنما أيضاً لأنه أساء تقدير ردود فعل الرياض على أية محاولة لسلبها من القيادة النفطية – إنتاجاً وتسعيراً. فهذه أول مرة يأتي فيها طرفٌ من خارج الأوبك ليتحدّى الموقع البارز والمتميّز للسعودية ليحاول سحقه.

حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تلقين السعودية درساً فأتت المفاجأة السعودية بقطع الطريق عليه لتصدمه. رفض بوتين الالتزام بخفض انتاج النفط لأن الأهم له هو نسبة الانتاج والأسواق المتاحة، وليس الأسعار. أتت المفاجأة بإجراءات سعودية هبطت معها أسعار النفط برسالة واضحة بأن روسيا ليست هي من يُدير السياسة النفطية، وأن الرياض جاهزة لزيادة الإنتاج لتحرم روسيا من ورقة التحدّي.

وهكذا دخلت الديبلوماسية النفطية لأول مرة في فلك الاضطراب والتحدّيات بما قد يؤدّي بروسيا لاحقاً الى تحريض أعضاء آخرين في الأوبك ضد السعودية. لكن فلاديمير بوتين لديه أولويات أخرى في هذا المنعطف، مع انه ينوي خوض هذه الحرب لاحقاً، وهو يعي مدى خطورة كورونا على روسيا كما على بقيّة القارة الأوروبية. انها أولوية التغيير الذي فرضه على الدستور في روسيا والذي يضمن له البقاء في السلطة الى ما لا نهاية. وهو يريد اجراء استفتاء على الدستور الجديد "كي يكتسب التغيير بسيكولوجية الدعم الشعبي" حسب تعبير أحد الروس.

هذا الموعد، موعد الاستفتاء في 22 ابريل يخشاه الروس – وقد يخشاه بوتين إذا اضطر الى إلغائه مع أن الخبراء بالرئيس الروسي يضمنون بأنه لن يفعل. فهو موعد أيضاً مع إمكانية تفشّي فيروس كورونا في روسيا. الموعد الآخر الخطير في روسيا، ما لم يتم التوصل الى احتواء الوباء وإيجاد دواء له، هو في 9 مايو – موعد الاحتفاء بيوم الانتصار على النازيّة بعيده الـ75 الذي يفترض أن يحضره 40 قائداً حكومياً ووفود عالمية بما فيها من الصين. وتقليدياً، تُشارك مليون نسمة في هذا الاحتفاء المهم جدّاً للهيبة الروسية العالمية.

فيروس كورونا يضرب الهيبة والاقتصاد والأسواق ويقتل الناس ويُلزمهم بيوتهم. وسائل احتوائه ليست فقط باللقاح الذي يجب أن تتعاون الدول على إيجاده بأسرع ما يمكن، بل انها أيضاً في كف الحكومات عن الخداع وإخفاء الأرقام، وفي توقّف القادة عن النرجسية التي تعمي عن مقوّمات القيادة في زمن الوباء.