بعد وفاة عرفات:
هل تشكيل قيادة وطنية موحدة، أمر ممكن؟؟!.
إنتقل المشهد الفلسطيني المتعلق بمرض الرئيس عرفات، وعلاجه في المستشفى العسكري الباريسي، من مرحلة (اللطم )، إلى مرحلة ( التردد ) في إصدار بيان حقيقي حول طبيعة مرضه المشخص تماما وبدقة لدى الأطباء الفرنسيين، ولكنهم لا يستطيعون إعلان ذلك، بناءا على رغبة عائلته ومرافقيه، كما أعلن الجنرال الفرنسي، الناطق بإسم المستشفى قبل أيام. ومن الواضح أن هذا التردد، وعدم الإعلان عن طبيعة مرضه، أو وفاته إكلينيكيا كما هو سائد في الأوساط الفرنسية الطبية، مرده إلى رغبة المحيطين به، في ترتيب أوراق معينة تتعلق بالقيادة الفلسطينية القادمة، على إعتبار أن أية ترتيبات تتخذ في حياة عرفات، ستواجهها مشاكل أقل من المشاكل التي تواجه هذه الترتيبات نفسها، لو أعلنت بعد وفاته. وضمن هذا السياق، نفاجىء كل يوم بأخبار جديدة، كان آخرها الحديث عن وصية لعرفات توصي بخلافة فاروق القدومي له...وأيا كانت طبيعة هذا الخبر، فإن مروجيه أيا كانوا، فأنهم يستهترون بالشعب الفلسطيني ونضاله، فهم يتخيلون أن الشعب الفلسطيني أقام مملكته المستقلة منذ سنوات، ضمن إتفاق عشائري ينص على أن الملك من آل القدوة، وولي العهد من ( آل القدومي )، وبالتالي مادام الملك قد مات، فالمسألة أساسا لاتحتاج إلى وصية منه، فولي العهد منصوص ومتفق عليه مسبقا، لذلك طار ولي العهد منذ أيام إلى باريس، ليكون بجانب مليكه في لحظاته الأخيرة!. مشكلة ولي العهد، الملك القادم ( جلالة فاروق القدومي)، أنه منذ عام 1993، وهو يعلن معارضته لإتفاقية أوسلو، ويرفض العودة إلى مناطق السلطة الفلسطينية، رغم موافقة السلطات الإسرائيلية على عودته، وكان موقفه هذا وما زال لغزا أو فزورة، فهو يرفض إتفاقية أوسلو، ومستمر في العمل تحت أوامر القيادة التي وقعتها...مشكلته الجديدة في حال تنصيبه الملك الجديد للشعب الفلسطيني هي : هل سيوافق على إتفاقية أوسلو، ويعود إلى مناطق السلطة الفلسطينية، أم سيمارس سلطاته الملكية، وقيادة الشعب الفلسطيني من المنفى ؟. وهذه حالة ليست جديدة ففي العديد من الحالات، عاش بعض الملوك في المنفى!!. وإذا وافق على إتفاقية أوسلو، وعاد لقيادة الشعب الفلسطيني من داخل مناطق السلطة الفلسطينية، فبماذا سيبرر لشعبه رفضه السابق منذ عام 1993؟. وفي هذه الحالة، سوف تطرأ مشكلة جديدة، وهي: من هو ولي العهد الجديد، ومن أية عائلة أو عشيرة ؟؟.
لذلك، وربما دون الأخذ بعين الإعتبار بالتداعيات التي ذكرتها سابقا، تعلو أصوات صادقة، ترى أن الحل الأمثل، هو تشكيل قيادة وطنية موحدة. هل هذه الدعوة قابلة للتحقيق، أو سهلة عندما يراد الأخذ بها في أرض الواقع الفلسطيني السائد في السنوات العشر الماضية؟. إذا كان المقصود من هذه الدعوة، مجرد تجمع قيادي واسع فضفاف، يراعي عواطف الناس لعدة شهور، كي تمر أمواج اللطم والحزن على غياب الرئيس عرفات، فالأمر سهل للغاية، ولا يستدعي سوى أن تسمي الأحزاب والمنظمات والحركات أسماء ممثليها لهذه القيادة، وفي هذه الحالة، سيواصل كل تنظيم أو حركة ممارساته الخاصة دون مراعاة لموقف الآخرين وردود فعلهم، تماما كما كان سائدا في حياة الرئيس عرفات، بكل ما له من هيبة وثقل، فالكل كان يتغنى بقيادة عرفات، وأنه السلطة الوطنية الشرعية، ومن خلف هذا النفاق السياسي، كان وما زال كل تنظيم وحركة، يمارس سياسته ورؤاه الخاصة، بما فيها حركة فتح ذاتها، فرئيسها عرفات وسلطته لهم برنامج معلن، وكتائب الأقصى المنبثقة عن فتح لها برنامج وممارسات مغايرة مختلفة، أغلبها كان عرفات والناطقون الكثر بإسمه، يمارسون هوايتهم المملة، وبدون معنى : نشجب، ندين،نستنكر!. وهكذا تشكيلة لن تعمّر طويلا، وعلى الأرض سوف تجلب مشاكل وفوضى أكثر مما شهدته المناطق الفلسطينية في حياة عرفات !.
هل هذا تشاؤما ؟. لا..إنه النتيجة لدراسة الواقع الفلسطيني الممارس في السنوات التي أعقبت إتفاقية أوسلو، وعودة عرفات وقيادته إلى غزة ورام الله...القيادة الوطنية الموحدة، لا يمكن قيامها أساسا ثم نجاحها، بدون الإتفاق على برنامج سياسي موحد، واضح المعالم في أدق تفاصيله، لايترك المجال لأي إجتهاد أو تفسير....فهل هذا ممكن في الساحة الفلسطينية الآن؟. إن دراسة الواقع السياسي الفلسطيني، تجيب : لا...وألف لا. لماذا؟. هناك برنامج السلطة الفلسطينية الرسمي المعترف بدولة إسرائيل ضمن حدود عام 1967، وبقيت مسائل منها : القدس و حق العودة معلقة للنقاش. وفي مقابل ذلك، لا تأثير في الساحة الفلسطينية إلا لحركة حماس، أما باقي التنظيمات من شعبية وديمقراطية وعدة جبهات يجهل الشعب الفلسطيني أسماءها، فهي مجرد مكاتب وبيانات وتركة مرحلة الفاكهاني. وإزاء ذلك، فالسؤال : ما هو البرنامج السياسي لحركة حماس ؟. لا يوجد حتى هذه اللحظة برنامجا سياسيا واضحا محددا ثابتا لحركة حماس. هل هي موافقة على إتفاقيات أوسلو ؟. هل هي مع برنامج السلطة الداعي إلى قيام دولة فلسطينية ضمن حدود حزيران 1967؟. أي هل هي قادرة على الإعتراف بدولة إسرائيل، كما إعترفت بها السلطة التي وقعت إتفاقية أوسلو، وكنتيجة لهذا التوقيع والإعتراف، عادت إلى غزة والضفة؟.أسئلة كثيرة، حول البرنامج أو الأجندة السياسية، لايوجد جواب واضح محدد لحماس حولها. فقد سبق للشيخ أحمد ياسين قبل إغتياله، أن عرض هدنة على إسرائيل، إذا : إنسحبت إلى المواقع التي كانت فيها حتى ديسمبر عام 2000، أي قبل إندلاع الإنتفاضة الأخيرة، وإذا أوقفت سياسة الإغتيالات، وأفرجت عن المعتقلين الفلسطينيين...وهذه أطروحات مؤقتة، لا تشكل برنامجا أو أجندة سياسية.
لذلك نقول: إن الدعوة لتشكيل قيادة وطنية موحدة، هي دعوة صادقة من أناس مخلصين، لكن إمكانية تحقيقها في الواقع السياسي الفلسطيني السائد مستحيلة، ففي السنوات الخمس الماضية، فشلت عشرات من جولات ما سمّي الحوار الفلسطيني – الفلسطيني، في غزة و رام الله والقاهرة، وفشلت عشرات من زيارات وزير الخارجية ومدير المخابرات المصري إلى غزة ورام الله في تقريب وجهات النظر بين حماس والسلطة...فما إستمر فشله والخلاف حوله طوال السنوات الماضية، هل سينجح بمجرد وفاة عرفات؟. والمسألة التي يخشى العديدون طرحها، وتنفيها حماس مرارا، هي الصراع الخفي – العلني على قيادة الشعب الفلسطيني بين حماس والسلطة، وهو واقع معاش ممارس، رغم كل أنواع النفي، والإشادة الكاذبة المنافقة بالوحدة الوطنية، فأيضا لا وحدة وطنية بدون الإتفاق على أجندة سياسية واحدة موحدة.....لذلك فإن التخوف من نتائج وفاة عرفات مشروعة ومبررة، ومقلقة في الوقت ذاته!.
د.أحمد أبو مطر، أوسلو
* كاتب وأكاديمي فلسطيني، مقيم في أوسلو [email protected]




التعليقات