الينابيع ما زالت تفيض "كرداً" رغم محاولات التجفيف

من يقرأ مقالة السيد عادل كمال حول "كركوك من التعريب الى التكريد" يتكون لديه فكرة خاطئة ان هناك من يحاول العبث من جديد بديموغرافيا السكان في كركوك الغنية بالنفط. المقال يخاطب القارئ العربي.. وأغلب الاخوة العرب قد يكونون غير ملمين بما جرى و يجري في شمالي العراق ذي الأكثرية غير العربية منذ سقوط الملكية وحتى يومنا الحاضر.. فالإعلام العربي و الإعلام الغربي الموجه بالعربية لم يخض عميقا في تفاصيل و خلفيات الأحدات التى مرت بالمدن الشمالية من ويلات وابادات جماعية للسكان و طمس للثقافات و تغيير للطبيعة بدواعي الأمن القومي وغير ذلك من الشعارات التي كانت غطاء لحجب الحقيقة عن الكثيرين من من ضللتهم شعارات البعث في عصر العنفوان القومي العربي بدءا من الستينات والى يومنا الحاضر.
يحزنني ان السيد عادل كمال يخلط بين ما تقوم به الأحزاب في كركوك من تحركات وتكتيكات تصب في مصلحتها ولكسب المؤيدين لها، وبين الحق الطبيعي للسكان المطرودين من ارض آبائهم للعودة. انه يصف الكرد العائدين الى ديارهم بـ"النازحين".. والمعلوم ان معنى الكلمة لا ينطبق على هؤلاء الناس. يقول انه عاش في السليمانية قبل سقوط صدام بسنوات.. اذن يكون قد عايش معاناة الآلاف من المطرودين الكرد من ديار كركوك ولا اظنه لم يصادف في تلكم السنوات ايا من وجوه المأساة هذه.. وقد استغلت بعض الأحزاب الكردية اوضاعهم المعيشية الضنكة فجندت الكثيرين منهم في تشكيلات ميليشياتها.. والحكاية تطول ولا حاجة لذكر مواجعها
اخي الكاتب وسادتي القراء.. هؤلاء "النازحين" لم يأتوا من بلاد الجبال ليحتلوا ارض غيرهم. كان اجدادهم على هذه الأرض، بنوا بيوتهم قبل ان يأتي العثمانيون الأتراك والسادة الوافدون المنتفعون بالذهب الأسود من ارجاء العراق الأخرى ويتسيدوا مداخل ومخارج الخير والأرزاق في ارض باباكوركور والذي كان، قبل اكتشاف النفط فيه، مزارا لشخص من الأولياء الصالحين الكرد والإسم معناه بلغة اهلها ( الولي صاحب الفوهة النارية والبابا كلمة من بقايا الزردشتية يطلقه الكرد في الأغلب على من كانوا بدرجة الأولياء و الصالحين) وكانت النساء الكرديات تزرن المزار لأجل التبرك والدعاء عسى ان ياتين بمولود ذكر وهن يرددن:(بابه كوركور، هاتم به كور، بمده يه كور) اي (ايها الولي قد اتيتك مسرعا لتعطيني ولدا).
عودة للتأريخ.. كانت كركوك بلدة مهمشة تابعة لداقوق في ارض الجرمق الحارة (كرميان Germyan الحالية ذات نفس المعنى) على طريق بغداد لمن يريد أذربيجان وآران وكانت تسمى كرخينى ولا يعرف مصدرها ولكن كلمة (كرخ (kerxالكردية التي تعني الطريق المؤدي الى جهة ما تكاد تكون مطابقة للمعنى الجغرافي لاسم كرخيني. عند سقوط بغداد ودخول المغول الايلخانية والتركمان القرة قويونلو (وكان شعار راياتهم الخرفان السود) الى معترك الأحداث، حافظت كرخينى على اهميتها كمعبر لوجستي للجحافل الأوغوزية التركمانية القادمة من معاقل القرة قويونلو في تبريز و مراوغة الآذربيجانية نحو بغداد عبر الممرات الجبلية الكردية وكان لابد من الأعتماد على القبائل الحليفة التركمانية والمجاورة الكردية في حراسة هذه الممرات الهامة..
وبعد افول دولة الخرفان السود و البيض التركمانية و ظهور عساكر الشيعة القزلباش في الديار الكردية والعراقية المتاخمة كان الزحف الايرانى الصفوي عبر بوابة كرمانشاه و تبريز نحو بغداد و كردستان لا يقاوم. وبعد الهجوم على الدولة العثمانية عبر بغداد و الجزيرة الشمالية اكتسبت كركوك اهميتها اللوجستية من جديد فظهرت اولى بوادر الإستيطان العسكري للقبائل التركمانية الآذرية في اطراف الموصل و كركوك والبلدات الكرميانية الأخرى.. والتى انصهرت مع الزمن في بيئتها الجديدة كما حدث مع عشائر البيات حيث ان هناك البيات العرب في جنوب جبال حمرين (والتي تعتبر الحزام الجغرافي الطبيعي الذي كان يفصل الشمال ذو الأكثرية الكردية عن الجنوب العربي) كما ان هناك بيات يتكلمون الكردية الكرميانية.. بينما بقيت بعض فروع معزولة من البيات في بلدة الطوز و جنوبها تتكلم التركية الآذرية. حتى القبائل اللورية الكردية المتحالفة مع القوات الصفوية الإيرانية والتي تم توطينها في كرميان كركوك لأجل الحماية و جباية الضرائب فأنها تأقلمت مع البيئة الجديدة و نسيت لهجاتها اللورية الجنوبية و مذهبها الشيعي وهي اليوم اغلبها سنية تتكلم لهجة اهل كرميان العتيدة.. استمر الوضع في الحروب العثمانية - الأيرانية و سيطرة العثمانيين على بلاد شهروز (السليمانية و كركوك بعد عام 1636 اثر اتفاقية زهاو). وصارت كركوك مركزا لولاية شهرزور الكردية في الحقب العثمانية المتأخرة.. وكان حينها للكرد من قبائل الزنكنة دورا هاما في ادارة الشؤون المحلية في كركوك و أطرافها و كان لأمرائها حضوة لدى القصر الهمايونى العثماني حيث صاروا يملكون العديد من الأراضي الخصبة في كركوك و يجبون الضرائب بأسم الدولة.. وحينما بدأ العثمانيون بداية ثمانينات القرن التاسع عشر ببناء مؤسسات دولة حديثة على اساس اللغة والثقافة الواحدة لأحتواء مشكلة تعدد اللغات و الأعراق داخل الأمبراطورية المترامية الأطراف.. بدأت التركية تنتشر في كركوك كلغة رسمية مفروضة بصرامة من قبل الدولة، من لا يتقنها يحرم من حقوق التوظيف والتمليك... ومع السنوات العشرين التي تمت خلالها تطبيق سياسة التتريك العثمانية، صارت التركية لغة دارجة بين الأهلين وقد تم نقل المئات من الموظفين و الأداريين من المدن العثمانية الأخرى الى كركوك و سخرت لهم الدولة امكانات اقتصادية وأغراءات اخرى كثيرة في سبيل انجاح سياسة صهر القوميات غير التركية في بوتقة القومية العثمانية والتي كانت اللغة التركية لسان حالها. ومع مرور الزمن ظهرت عوائل كردية عريقة تتكلم بالعثمانية وتتباهى بأسمائها و القابها التركية الاستانبولية و الأناضولية...!! وهذا ديدن الطامحين و المنتفعين في كل زمان ومكان..
الماضي حاضر في كل زقاق من ازقة كركوك القديمة وما زالت ثقافة التباهي الفج والانتقاص من قدر الآخرين، والتي غرستها سياسة التتريك العثمانية، لها صداها في اذهان العديدين ممن يعيشون على أوهام العودة الى احضان الماضي. ويبدوا ان الفكرة الأساسية لكاتب المقال لم تبتعد من روحية هذه الثقافة البالية.
اذن لماذا العائدون الى ارض الأجداد هم نازحون جلبوا من مناطق اخرى لغرض فرض سياسة يسميها هو تكريد على وزن تعريب؟ لماذا الغاء حقيقة ان هؤلاء اناس ظلموا و ذاقوا لسنين عدة ويلات و مآس حري بكل انسان ان ينصفهم احتراما للأنساية، لا ان يصورهم بالصورة التي حاول بها كاتب المقال. لقد جاء يوم هؤلاء لاسترداد ما غصب عنهم غصباَ والخلط بين هفوات او تدخلات حزب كردي هنا او هناك وبين الحق بالعودة لا يلغي الحقيقة التاريخية مفادها ان هؤلاء كانوا مطرودين من ارض كركوك ولم ينزحوا عنها بإرادتهم.. وهم لم يكونوا في الأغلب اكرادا، فأهالي قرية بشير هم تركمان اقحاح و عادوا اليوم، كما يعود "اخوانهم" الأكراد، الى ديارهم العتيدة.
فالتكريد الذي دأبت جهات "محرضة" ترددها هنا وهناك ما هو الا عملية تطبيع لصورة شوهتها الشوفينية القومية.. وعودة طبيعية للمياه الى مجاريها الاصلية. فإذا كانت الجداول قد جففتها ايادي الحاقدين فإن الينابيع المجاورة هي دائماَ وابدا تفيض من جديد لتروي الأرض التي حاول مهندسو التعريب تجفيفها بدواعي الحفاظ على الأمن القومي العربي.. والعرب منهم براء..

* من اربيل / العراق