عالمياً يعتبر الثامن من آذار عيد المرآة العالمي، أما في سورية فالحكومة السورية تعتبر هذا التاريخ رمز حكمها حيث اعتلى حزب البعث العربي الاشتراكي سدة الحكم في سورية بنفس التاريخ من عام 1963 اثر انقلاب عسكري، أما ذكرى هذا التاريخ عند المعارضة السورية وقسم من الشعب السوري فتمثل ذكرى فرض الأحكام العرفية وحالة الطوارئ والتي بموجبها وضع الآلاف في المعتقلات.
واعتقد أن هذا التاريخ سيدخل ساحة التواريخ والأرقام في لبنان بعد تظاهرة حزب الله الضخمة في ساحة رياض الصلح والتي لن ينتهي الحديث عنها لفترة طويلة.،فهذه التظاهرة قد تركت أثرا مفصلياً في تاريخ لبنان في هذه المرحلة بل تجاوزت بأبعادها الساحة اللبنانية لتمتد إلى الترتيبات الدولية، ولتكن سببا مباشراً في إعادة جدولتها وهيكلتها لتتناسب وحجم الكتل البشرية الهائلة التي خرجت تلبية لنداء حزب الله وسماحة أمينه العام السيد حسن نصر الله.
إن السلطة في لبنان وكل أحزاب الموالاة أصيبوا بالصدمة بعد إعلان مقتل الحريري وأصيبوا بالسكتة المفاجأة بعد تحرك المعارضة اللبنانية السريع، ولم تفق تلك القوى من سباتها وتسترجع قواها إلا بعد مضي أسبوعين على جريمة الاغتيال ولكن بعد أن دفعت ثمناً معقولاً بسقوط الحكومة في مشهد قل نظيره في دولة عربية أخرى.
لكن مبادرة حزب الله عن طريق أمينه العام السيد حسن نصر الله بعد مؤتمره الصحفي في السادس من الشهر الحالي وبعد التظاهرة الضخمة بساحة رياض الصلح، أعادت التوازن إلى لبنان الذي عرف أن السلم الأهلي فيه مرتبط بتوازن مكوناته. إن الناس التي خرجت بتلك التظاهرة إنما كانت تعبر عن رفضها للقرار 1559 وكانت بمثابة استفتاء على استمرار العلاقة الجيدة مع سورية والوقوف خلف المقاومة والتأكيد على رفض الاستقواء بالخارج..هذه العبارات التي يجد الكثير من المثقفين أو المعارضين في الدول العربية أنهم مجبرين على قولها وكتابتها، قالها الشعب اللبناني بملء إرادته وبكامل حريته،دون الدخول في حرب الأرقام، أما ما يقال عن مشاركة العمال السوريين في تلك التظاهرة فأعتقد أن هؤلاء العمال يعتبرون من ضمن النسيج الاجتماعي اللبناني واغلبهم مقيم بموجب إقامة مؤقتة رسمية ويعمل ضمن قوانين وزارة العمل اللبنانية، وما يجري في لبنان يهمهم خاصة إذا كان المكسر هو العلاقة مع سورية وهذا ما ينعكس عليهم مباشرة ولهذا فهم لا ينتظرون أي كلمة سر من احد للتعبير عن هواجسهم وانفعالاتهم، لذا يمكن اعتبار هذه التظاهرة المليونية لبنانية الهوى والهم مئة بالمئة،صحيح إن اندفاع جموع المتظاهرين وتحدثها بصوت أصم الآذان قد أذهل المراقبين، لكن في الوقت ذاته أذهل العديد من قوى الموالاة أنفسهم وأذهل السوريين، فتجمع أكثر من ربع سكان لبنان في تظاهرة واحدة مع وجود هذا الفسيفساء في النسيج اللبناني العرقي والطائفي والإيديولوجي يعتبر معجزة، لكن المعجزات التي تصنعها الشعوب تبقى قابلة للتفسير.
بعض من أفزعتهم التظاهرة طفقوا يطلقون على المتظاهرين نعوت من مثل " الغوغاء " و" الدهماء " و" العميان" الخ..من هذا الكلام الذي لا يعنينا هنا في شيء وإنما الذي يجب أن نقف عنده هو تجاوز موقف الإعجاب الرومانتيكي بتلك التظاهرة والشروع بتحليل ما جرى والاستفادة من دروسه.
من المعروف أن سواد الشعب اللبناني وفي مقدمتهم العمال والمزارعين اخذوا يدخلون بقوة متعاظمة حلبة السياسة اللبنانية والنضال الاجتماعي المطلبي خاصة بعد انتهاء الحرب الأهلية وإبرام اتفاق الطائف وبعد ثورة " الطفيلي " أمين عام حزب الله السابق والتي اسماها بثورة الجياع حيث خاض اللبنانيون عشرات المعارك وتعرضوا لعشرات المحن، انتصروا في بعضها وهزموا في أكثر من موقعة،ولكن في جميع الحالات، حالات النصر والهزيمة على السواء كان وعي اللبنانيين بمصالحهم المباشرة وبمصالح وطنهم يزداد ويتعمق، وهذا طبيعي لشعب تعرض إلى عمليات خلق واختزان...خلق للمثل والأهداف ولصور الحياة التي يريدها هذا الشعب، واختزان للتجارب التي جمعها الشعب اللبناني من خلال نضالاته المتصلة أثناء بناء دولته الجديدة، ومن خلال المعارك العسكرية التي خاضها اللبنانيون ضد الاحتلال الإسرائيلي حتى لحظة التحرير لتتحول تلك المعارك من عسكرية إلى وطنية واجتماعية ضد التهديد الصهيوني، وكانوا بذلك يقومون على الدوام بعملية خلق واختزان.
لقد اظهر اللبنانيون أثناء مظاهراتهم ذكاء وانضباطاً ممتازين ومهما كانت قدرة أحزاب المعارضة أو حزب الله على تنظيم التظاهرات الحاشدة عظيمة إلا أن حجم واتساع هذه التظاهرات كان ليفشل تنظيم أية جهة لولا ذكاء المتظاهرين بأن أدركوا -أو أدرك اغلبهم- إن القضية المطروحة للتظاهر هي قضية استمرار الدولة وقضية المكاسب الوطنية والاجتماعية التي حققها الشعب اللبناني بالعرق والدم، وهل تصان مؤسسات الدولة وتتعزز أم تضيع وتتبدد.
إن نزول الناس إلى ساحة رياض الصلح بهذا الحجم يدل على شعور الناس بالخطر المحيط ويدل على حس كبير بالمسؤولية، وهكذا نجد أن ما يسمى بالجماهير والجموع لم تعد كلمات جوفاء كما صورها لنا البعض بل فرضت نفسها على الواقع وحققت بعضاً من أهدافها التي جعلتها تتظاهر وغيرت مجريات المخطط الذي يحاك للبنان والمنطقة عبر:
_ لقد افشلت تظاهرة 8آذار الهدف الأمريكي الإسرائيلي المتمثل في إبعاد حزب الله عن التعاطي السياسي اليومي في لبنان فأعداد المتظاهرين قلبت حسابات الولايات المتحدة وإسرائيل رأساً على عقب، كما وجهت رسالة مهمة إلى قوى المعارضة مفادها أن حزب الله لازال موجوداً بقوة في الساحة السياسية ولم يتأثر موقعه بعد تحرير الجنوب، فتبخرت فكرة عزل حزب الله عن مجريات الأحداث اللبنانية،وعلى العكس فرض حزب الله نفسه كطرف أساسي في أي اتفاق يخرج لبنان من مخاضه الحالي وهذا ما لحظناه من تصريحات أقطاب الموالاة والمعارضة على السواء ناهيكم عن تصريحات فرنسية أمريكية بهذا الخصوص.
_ لقد أفشلت تظاهرة 8 آذار خطة بتوقيع اتفاقية سلام بالشروط الإسرائيلية في الأفق المنظور، بل على العكس من ذلك كان الشعار الموجه إلى دعاة السلام الامريكو-إسرائيلي " سنقاوم – الموت لإسرائيل – الموت لأمريكا..." ويبقى النجاح الذي حققته تظاهرة حزب الله يتجلى في الإشارة إلى الجو الخانق والمشحون والرعب الذي ساد في لبنان قبل التظاهر، فاستناداً إلى كارثة اغتيال الرئيس الحريري انخرطت قوى داخلية وخارجية لبنانية لها ارتباطاتها المشبوهة، في نشاط محموم يهدف إلى إضعاف معنويات الشعب اللبناني، وركزت دعاياتها في اتجاه إفقاد اللبنانيين الثقة في حكومتهم ورئيسهم وجيشهم وفي جدوى العلاقة مع سورية، وعلينا أن نعترف بأن الدعايات المضللة والمطبوخة بمهارة في أفران السفارات الغربية قد وجدت أرضا خصبة في بعض أوساط اللبنانيين، وإذا كانت تلك التظاهرة لم تستطع قلع جذور هؤلاء المطبلين بالمشروع الأمريكي إلا أنها أدخلتهم الجحور وفوتت عليهم فرص الانقضاض والإفادة من جو اغتيال الحريري،أما رسالة التظاهرة إلى الذين أفزعتهم آلات الحرب الأمريكية فمفادها أن الأقمار الاصطناعية وأجهزة الحواسب لا تستطيع قتل الطموح في نفوس الشعوب نحو التحرر، والحياة بكرامة.
_لقد أفشلت تظاهرة 8آذار خططاً بعزل الشعب اللبناني عن باقي الشعوب العربية وخاصة الشعب العربي في سورية، فعلى العكس من ذلك تألق وجه القومية العربية في لبنان بذلك اليوم وأصبحنا نسمع بعدها كلاما مختلفا من المعارضة الوطنية في لبنان، كلاماً عن العلاقات الأخوية المطلوبة مع سورية وكلاماً عن هوية الشعب اللبناني العربي وكلاماً عن الحل في إطار عربي وعن تمسك الجميع بسقف الطائف...الخ ومن جهة أخرى ربطت تلك التظاهرة الشعوب العربية وخاصة في سورية مع الشعب اللبناني، فما إن نزلت الحشود إلى الشوارع المحيطة بساحة رياض الصلح حتى التف حولها ملايين العرب من الدول العربية كافة وسورية خاصة من وراء شاشات التلفزة وأصبحت حديث الشارع وحديث الجلسات العامة والخاصة وردت الروح للبعض بعد انحباس استمر لأكثر من أسبوعين والمواطن السوري يرى دولته تهان وجيشه يسب وعلمه يمزق وعماله يقتلون.
_لقد أعادت تظاهرة 8آذار الثقة إلى اغلب اللبنانيين بعد أن اعتقدوا لفترة طويلة أن من ينزل إلى ساحة الشهداء هم الشعب اللبناني أو هكذا صورته المعارضة اللبنانية وخاصة في ظل صمت مطبق من قوى الموالاة دون أن ننس دور الإعلام المحلي المتحيز صراحة للمعارضة وهذا طبيعي إن عرفنا أن اغلب الإعلام اللبناني المقروء والمسموع مملوك للرئيس الحريري، وإذا كانت تلك المؤسسات الإعلامية مضبوطة أيام حياة الحريري وحتى بعد تحوله إلى المعارضة إلا أنها انفلتت من عقالها بعد استشهاده فأخذنا نرى المعارضون وحدهم الذين يصرّحون ويتحركون ويتظاهرون..لقد كتب الوزير الحالي سامي منقارة وهو الطرابلسي والمقرب جداً من رئيس الوزراء عمر كرامي مقالة شرح فيها وجهة نظره الحيادية تجاه ما يحدث في لبنان، وباستثناء صحيفة اللواء رفضت كل الصحف نشر مقالته هذه!!وهذا ما اختلف بعد التظاهرة إذ أصبحنا نرى أعضاء المكتب السياسي لحزب الله أو حركة أمل وأعضاء من الحزب القومي السوري الاجتماعي و وزراء من الحكومة الحالية يدافعون عن وجهة نظرهم على الصحف وشاشات التلفزة.
_لقد أوقفت تظاهرة 8 آذار تسارع تطبيق القرار 1559، فبعد تطبيق الفقرة الخاصة بالوجود السوري جيشاً وأجهزة أمنية وجدنا اختلاف التعاطي مع باقي الفقرات من القرار 1559 والخاصة بسحب سلاح المقاومة ونشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، فاعتبرت الخارجية الفرنسية أن هذه المسائل هي شأن لبناني ولا يعنيها سحب سلاح حزب الله، وسمعنا حديثاً أمريكيا عن أن المقصود بتجريد السلاح هو لسلاح المليشيا وليس لحزب الله الذي يعتبر فصيلا لبنانيا له جمهوره ومؤيديه، وكان هناك غزل أمريكي تجاه حزب الله إن تحول إلى حزب سياسي وترك المقاومة مع العلم أن الولايات المتحدة كانت لا تقبل إلا بحل حزب الله وانتفاءه من ساحة لبنان السياسية.
إذا جاز لنا أن نلخص منجزات تظاهرة 8 آذار فنقول إن نزول هذه الحشود في ذلك اليوم قد غيرت حساب المكسب والخسارة و عززت رصيد الشعب اللبناني من الوحدة الداخلية ووضعت في متناول الحكومة اللبنانية وسائل جديدة تماماً تمكنها من التصدي لتجاوز الظرف الصعب الذي يمر به لبنان وتمكنها من البدء في بناء البلاد في مرحلة ما بعد الحريري، وإذا كان واجباً على حكومة كرامي المستقيلة الجديدة أن يثمنوا منجزات تلك التظاهرة فهذا لا يعني بأي حال الاستناد إلى حركة الجماهير والتحدث بأغلبية عددية،أوان يركنوا إلى السلبية إزاء تطور الأحداث في انتظار أن تحدث الجماهير معجزة أخرى من تلقاء ذاتها، بل على الرئيس كرامي أن يستثمر تلك التظاهرة كنصر خلاق في تشكيل حكومة اتحاد وطني تمثل الجميع أو في تبني مطالب المعارضة في البيان الوزاري لأي حكومة جديدة إن تعذر تشكيل حكومة الاتحاد الوطني.
إن تشكيل حكومة الوفاق لا يعني زوال الخطر عن لبنان، فالخطر الإسرائيلي لن يتوقف لحظة عن التآمر وتدبير الاعتداءات ضد لبنان، وهناك خطر القوى المرتبطة بالعربة الأمريكية، هذا الخطر الذي أثبتت الأحداث الأخيرة خطأ التهوين من أمره، فالواقع اثبت أن أي استقرار له قوى مضادة قادرة على الحركة السريعة في نشر البلبلة وإحداث التشويش الفكري.
وإذا كانت الجماهير قد أبدت يقظة عالية وقدرة على الفهم والحركة في 8آذار فإن على القيادة السياسية في لبنان أن تلتقط ذلك وتعمل على صورته،وإذا كانت تلك الجماهير قد تجاوزت في حركتها كل التنظيمات السياسية والنقابية القائمة فإن على الدولة اللبنانية أن تعيد بناء نفسها وتجدد مؤسساتها بحيث تتجاوب مع حركة الناس الواسعة.
وإذا كانت الجماهير قد دللت على قدرتها بالارتفاع إلى مستوى المسؤولية المطلوبة فإنه لابد للدولة أن تستوعب هذه الجماهير وتعطيها الدور الذي يليق بها في بناء لبنان.
اعتقد أن هذه السبل تقود إلى ولادة لبنان مشرق من وسط الركام الحالي ليشع علينا ويعطينا دروسا في الوحدة الوطنية والتعايش السلمي بين الطوائف المتعددة، وليكن مثل يحتذى – كما عودنا – على طريق النزوع تجاه الحريات العامة والخاصة.
الدكتور عمار قربي
ناشط سوري
التعليقات