يوم في حياة ممرضة
حين تصبح معايشة الموت عادة

ياسمين علي : لم تبك رنا يوما بصوت عال ، جابهت موتها بأنين خافت وشجاعة قلما تجدهما في طفلة تبلغ الثانية عشر من عمرها . مكوثها الدائم في المستشفى فرض عليها مجتمعا خاصا وأصدقاء يختلفون عمن عرفتهم من قبل . " لم أكن أريد أن تموت ، قمت بكل ما أستطيع القيام به ، لكن دون جدوى .. ماتت" وبعبارات متداخلة وغير مفهومة تتابع دارين التي تعمل في مجال التمريض منذ ثلاث سنوات "كانت ترافقني خلال جولتي على الطابق ، تناولني الأدوية وأنا اشرح لها جدوى كل منهم ، أرادت أن تصبح ممرضة حين تتعافى " .
لم يستطع السرطان الذي تغلغل في دم الصغيرةأن يقتل روحها المحاربة على الرغم من سقوط شعرها وإصفرار وجهها وآلامه المرافقة . ، الا ان الوجع لم ييمهل رنا الكثر من الوقت حتى ضرب بقوة في رأسها وبطنها . فكان المرض أسرع من محاولاتها لإخفائه فلم تستطع البكاء بصمت بعد الآن .." حينها علمت ان الالم المرض تغلب عليها ، فهي لم تبك بصوت يوما " .
الساعة الرابعة من ذلك اليوم كانت إنتكاستها الأخيرة ن ولم تنجح محاولات إنعاش قلبها بإعادته للنبض من جديد . " كنت هناك اساعد في عملية إنقاذها ، وكنت أبكي وارتجف ، فكانتالإبرة تدخل في يدي حين كنت احاول سحب الدواء ..والنتيجة توفيت رنا هناك أمامنا " .

ما نفع العلم
دراين واحدة من الممرضات " المجازات" القلة في لبنان ، تعيش حياة مقسمة بين عمل يستنفذ كل طالقاتها ومشاعرها ، ومنزل يفرض عليها واجبات عديدة . ولم تكن قصة رنا سوى واحدة من المآسي التي تراها وتتعامل معها يوميا . فتتشتبه الحالات ويكثر الموت ويبقى الحل الوحيد .. التأقلم .
وكما لكل شيء مرته ومرارته الاولى، تتذكرالممرضة العشرينية بداية تجاربها التي تصفها بالفشل الذريع . فقد كان تدفق الدم منرجل مبتورة لمريض سببا لغثيان حذرتها معلمتها على أساسه بضرورة عدم تكرار الحادثة وإلا فالتخلي عن الإختصاص يصبح ضرورة ، " حينها قررا الا اخبر اساتذتي ما يحصل معي.. اما اليوم لم اعد اشعر بشيء حين أرى الدماء .. تعودت على المشهد ".
وفي المطان الضيق على شاغليه نما مجتمع نسائي بمعظمه تتزايد فيه الضغوط ويكثر فيه "النق" ويتجلى فيه صراع العلم مع الموت باوضح صوره .
" مانفع العلم ، إبنتي ماتت ولم تتمكنوا من القيام بشيء"، لم يستطع والد منى البالغة العاشرةمن عمرها كبتغضبه حين عجز الأطباؤ عن إنقاذ طفلته . فلم تستطع حقنات "الابنفرين" إعادة قلبها للعمل سولى لبضع ساعات ، فتنحى الطب جانبا فاسحا المجال امام الموت .." حينها شعرت فعلا بقلة جدوى العلم .. ماتت ولم نتمكن من القيام بشيء" .
إلا أن هذا الشعور سرعان ما يتبدد عند إنقاذ حياة آخرين ، لكنه إحساس نسبي يتوقف على حالة المريض ، فحتى إطالة عمر أحدهم قد يكون عذابا له .

"تفزلك تزمط "
على الرغم من تفرد المكان بأناسه وتركيبته الخاصة ، لم يتمكن منالإفلات من قبضة الفوقية في التعامل . وفي هذا الإطار لاتقترح دارين سوى حلا واحدا وهو " التفزلك" . فما يسطن في عقل اللبنانيين من مرض طبقي يدفعهم لمعاملة المررضات كخادمات ، لا علاج له سوى الكلمات العلمية المنمقة والسريعة التي لا سبيل لهم لفهمها .
وجين يصبح الطابق بغرفه العديدة ومآسيه المتكررة عالما لمن يعمل فيه ، تتلاشى أمامه أي حياةأخرى خارج جدرانه فيصبح الموت جزءا مرافقا لعمل كل يوم.
وإن كانت دارين قبلا " تعلّم" الغرف ، فتتشائم منبعضها ، فحاليا جميعها تتشابه لانه في كل واحدةمنها مات شخص أحبته و إعتنت به .