حجب الحقيقة خلف نقاب أسود
التسوٌّل في السعودية.. بين الإحتراف والحاجة


سعيد الحسنية: لإشارات السير عندهم معانٍ أخرى، فالأحمر يعني انطلق، والأخضر قف على الرصيف، والأصفر أفسح الطريق وإلا داستك دواليب السيارات وعانقك عزرائيل .. لغة لايفهمها سوى المتسولين المنتشرين على تقاطع الطرقات. إن وجودهم من كافة الجنسيات والأعمار ومن كلا الجنسين في تلك الأماكن أمر طبيعي بشكل عام ، لكن المستغرب أن نجدهم في شوارع دولة، كالسعودية يرتفع فيها مستوى دخل الفرد وتستقطب أكبر نسبة عمالة وافدة في العالم . كثيرون يصابون بحمى الذهول عندما يسمعون عن وجود معوزين في بلد نفطي يعيش أهله في بحبوحة إقتصادية ، وتحكمه شريعة الإيمان والتقوى وتكثر فيه جمعيات البر والإحسان . لكنهم سرعان ما يستعيدون وعيهم عندما يدركون أن ذلك ما هو إلا ثمرة من نتاج العولمة التي تغلغلت في تلك المجتمعات، واخترقت ذراعها كل الجدران، وبرعت ريشتها في تلوين الأرصفة وتزيينها بلوحات بشرية لأيدي ممدودة وأفواه مفتوحة .

تسوُّل أم تسوُّق ؟

تفاقمت في المدن السعودية خلال السنوات الأخيرة ظاهرة التسول التي سجلت إنتشارًا واسعصا، بعد أن كانت محصورة في مكة حيث يعتمد ممارسوها على الأجواء الدينية خلال أيام العمرة والحج ، وبالتالي إستدرار عطف المؤمنين . وتكاد اليوم، على الرغم من دأب السلطات المختصة على مكافحتها ، لا تخلو معظم الإشارات المرورية من أطفال ونساء وشيوخ ، يمارسون التسول ويمدون أيديهم ويسلطون ألسنتهم بالدعاء شارحين ظروفهم وأسباب عوزهم .لكن الأمر لا يقتصر عليهم فقط فهناك "كتيبة " اخرى من المتسترين بقناع التجارة وستار بيع المناديل أو قناني المياه الباردة ، وأحيانا المسابح و"السواك "..إنهم الباعة المتجوّلين الذين ينافسون المتسولين "على الرزق". وليكتمل المشهد إنضم اليهم مؤخرًا فرقة دعم من النساء المتشحات بالسواد والمتسترات بالعباءات الشرعية .

للتسوُّل في السعودية نكهته

للتسول في السعودية نكهته الخاصة وللمتسولين فيها مدرستهم وأسلوبهم الخاص ، فما أن تتوقف بسيارتك عند الإشارة حتى تسمع عدة طرقات خفيفة على زجاج سيارتك وما أن تلتفت حتى تجد أمامك طفلًا لا يتجاوز السبع سنوات يرتدي ثيابًا غير ممزقة وحذاء "مكتملًا " ، يرمقك بنظراته الحائرة ويربكك بصمته المريب وكأن عادة السؤال قد أتعبته . ينتظر جوابك لبرهة ثم يستنتج أنك ستعاجله بعبارة " الله يرزقك " وكأنها مرسومة في عينيك فيشيح بنظره بعيدصا ويتابع مسيرته متجهًا إلى سيارة أخرى بلا ملل أو غضب ، وكأنه قام بواجبه ولا تهمه النتيجة . أما إذا فتحت الزجاج وحاولت محادثته فردة فعله الأولى هي "الابتعاد " عنك تاركصا أسئلتك بلا اجوبة .هذه هي الصورة المشتركة لكل المتسولين الصغار، ولا يخفى على أحد دقة تنظيمهم وسرعة انتشارهم وانسحابهم . إذ يبدون كفرقة مدربة تعمل تحت قيادة موحدة ، ما يجعل "حقيقة عوزهم" عرضة للتكهن والشكوك ويفتح الباب واسعًا أمام "احتمال" كونهم عصابة تسول منظمة .
إقتصر التسول في مدن المملكة بدايةً على الأطفال والرجال قبل أن تلتحق بهم فرقة النساء اللواتي نزلن إلى سوق التسول تحت ستار بيع المناديل . فأصبح مشهد النساء المحجبات وهن يتراكضن بين السيارات عند الإشارات الضوئية أمرًا عاديًا ، نساءً من مختلف الأعمار يطرقن نوافذ السيارات ويعرضن بضاعتهن ويراهنّ على أنوثتهن ويتأهبن دائمًا للسؤال والاستجداء في حال اعتذار أحدهم عن الشراء . فيتحولن عندها من بائعات إلى مجرد متسولات يعتمدن على حجابهن والنزعة الإيمانية عند الناس لكسب بضعة ريالات.

عدة التسوُّل

إضافة إلى البيع بالقوة أو بالعاطفة ، تتعدد صور التسول والسبل التي يلجأ إليها المتسولون بغية استجداء الناس واستدرارعطفهم ، فمنهم من يحمل جهازصا طبيًا ، وآخرون يعرضون مستندات مغلفة مدموغة بعدة أختام لإثبات حاجتهم ، وبعضهم يمد يده سائلًا حسنة لوجه الله مطلقًا الدعوات ،ناهيك عن أصحاب العاهات الجسدية ، سواء الحقيقية منها أو المصطنعة .وتبقى صورة الطفل الصغير الذي يقود العجوز الأعمى ،الأكثر إعتمادًا ، إضافة إلى النساء اللواتي يحملن أطفالًا رضّع على صدورهن ويتمتمن بكلمات غير مسموعة ولكنها مفهومة . أما أبرز أماكن تجمعهم ، إضافة إلى الإشارات المرورية التي تعتبر نقطتهم الرئيسية ، فتتوزع بين المساجد والمطاعم الفخمة المخصصة للعائلات ، إلى جانب الفنادق ومداخل المراكز التجارية وفي الأسواق المكتظة بالناس .

متسوِّلون.. أم متسولات ؟

يبدو أن دخول المرأة إلى عالم التسول وممارسته ببراعة ، أفاد الشبان الممارسين لهذه الظاهرة الذين لاحظوا مدى الكرم الذي تحظى به والكم االكبير من الريالات التي يغدقها المحسنون على المتسولات ، فقط لكونهن نساء . وجاء الزي الشرعي النسائي المحتشم ، العباءة وغطاء الوجه وجوارب اليدين ، بمثابة العلاج الفعال الذي يطمس ذكوريتهم ويساعدهم على إخفاء حقيقتهم وانتحال شخصية فتاة . فوجدوا بتقمصهم جسد حواء ، مفتاحًا سحريًا لاختراق قلوب المحسنين واقتحام جيوبهم ، أو سحرًا فعالًا لإغواء أصحاب القلوب الشبقة من الشبان ولتنويم عقولهم وكسب بضعة ريالات إضافية . وقد انتشرت في الآونة الأخيرة هذه الطريقة بين متسولي المملكة إذ وجدوا فيها فرصة ذهبية لزيادة مدخولهم . ولذلك دأبت النشرات التوعوية الصادرة عن الجهات المختصة على تحذير الناس من الوقوع في شباك المنتحلين .

45% منهم سعوديون

لم تعد ظاهرة التسول في الرياض، حالة خاصة يقوم البعض بامتهانها، على العكس فانها شهدت انتشارًا واسعا وتزايدًا ملحوظًا خصوصًامع دخول المرأة ميدانها و انتشار عمليات البيع عند الإشارات. هذا ما تؤكده الأرقام الصادرة عن الجهات المختصة، إذ كشفت مصادر مكتب مكافحة التسول عن معالجة أكثر من ألف وخمسمائة حالة تسول في العام الماضي، تصل نسبة السعوديين منهم 45% ويحتل الوافدون الأجانب النسبة الباقية ،ويشكل الأطفال السعوديون 12% منهم. وقد تفاقمت هذه الظاهرة كنتيجة طبيعية للتغييرات الإجتماعية والإقتصادية التي يشهدها العالم وضمنه المملكة. وتسعى السلطات المختصة لمعالجة الأمر عبر تفعيل دور مكتب مكافحة التسول الذي يشن ، بين الحين والآخر، حملات واسعة عليهم. ولكن تضارب الصلاحيات مع الأجهزة الأخرى تحول دون ذلك ، إذ تنحصر مهامه فقط على مكافحة التسول في حين يوجد جهاز آخر لمكافحة الباعة المتجولين. ومن المثير للإستغراب هو وجود متسول يمارس مهنته مطمئن البال أمام أعين سيارة شرطة متوقفة.

حاجة.. أم إمتهان؟

مما لا شك فيه أن الكثير من المتسولين «هنا» يتخذون التسول مهنة لهم.. هذه المهنة التي قد تكون " فردية" او وقد تكون تابعة لجهة ما تنظمهم وتقوم بتوزيعهم عند الإشارات والمساجد والمصارف خاصة خلال أيام صرف الرواتب.

الا ان هذا لا ينفي صفة العوز عن الكثيرين الذين دفعهتم الحاجة إلى السؤال وإذلال النفس. و من الأسباب التي تدفعهم الى التسول الفقر والعوز أو موت معيل العائلة، أو تراكم الديون وغالباً ما تكون البطالة الدافع الأبرز للتسول. وفي بعض الأحيان قد يجد البعض فيها وسيلة لكسب دخل كبير من دون جهد وتفكير، وقد يصل الأمر ببعضهم إلى حالة الإدمان والمرض الذي يستعصى علاجه.
وأخيرًا لا يمكننا معرفة بالتحديد حجم ظاهرة التسول في السعودية مع انعدام الدراسات العلمية الشاملة لها وغياب أي استقصاء حول أحوال المتسولين. ولا بد من الاعتراف بتجاوز هذه الظاهرة الاجتماعية الحد الذي لم يعد بالإمكان نكرانها أو الاختباء خلف ادعاء فارغ أن أولئك المتسولين ليسوا بمواطنين بل وافدون أو أنهم عصابات، وان كانت تلك الادعاءات حقيقة الى حد ما ، ولكن بينهم الكثير من السعوديين.. وفي ظل غياب تلك الدراسات ، تبقى الحقيقة محتجبة خلف نقاب أسود تتسكع وتتسول تحت لهيب شمس الصحراء بالقرب من أبواب التخمين والتكهن والاستغراب. وسيبقى سؤال معلق برسم المسؤولين لماذا يتكاثر المتسولون في بلاد تزخر بالثروات ويمكن أن يستوعب سوق العمل فيها مئات الآلاف منهم!