ثمة تاريخ ثقافي يعمل على تدوين عملية الإبداع الشعري العراقي في كل مرحلة من مراحل تطورها ونموها المتفرد خاصة عند مرحلة السبعينيات التي شهدت أدلجة الفكر السياسي العراقي حيال المشهد الشعري على وجه الخصوص والثقافي على وجه العموم آنذاك. يقيناً إن التاريخ الارشيفي والتدويني يلهث ابداً وراء المبدعين من الشعراء العراقيين الحاملين تحديداً فكرة ومعرفة المندغمين في الرؤى والأخيلة الشعرية المكتنزة بها روح الشاعر، وبمعنى آخر فان المحدث للمشهد المبدع هو الشاعر المعرفي، الانسكلوبيدي، الاستنتاجي، والمطارد للصورة الشعرية الجديدة وفق المتن المعرفي والفلسفي الذي يرتكز عليه، أي أن العلاقة مابين الشاعر والاضطراب الذي كان يحيط به وعلى الرغم من تنافرهما المطلق يبدو الجدل القائم بينهما هو جدل معرفي حيث لم يكن الشاعر هناك قوة فوتونية شعرية تنفذ خلال عدمية الأشياء وحسب بل قوة تدوينية جديدة حسبت في زمنها سيل المكان المفكك والمتحد اللحظة ذاتها من المنبع حتى المصب والعكس صحيح. إذا المحدث للمشهد الجديد كان الشاعر الذي أشرت إليه لكن التاريخ كما قلت سوف يشتغل على هذا النوع من الشعراء، النوع الذي لم يستطع الزمكان اللحاق به وفق مفاهيم العصر الجامدة المنتمية إلى ادلجة الأشياء ذلك لان الشاعر أساسا يؤمن بالفطرة بأن الايدلوجية محض نظرية قابلة للدحض في أية لحظة قادمة مبعثها التغيير والإثبات المضاد. لم يكن ذلك في الواقع المرئي سوى مزحة بسيطة قياساً إلى الممالك التي بهيكلها الشاعر وسرعان ما يعود ليهدمها أو العوالم المجهولة التي يحولها في اقل من ثانية إلى عوالم معلومة والعكس، نعم إنها حكاية حلوة يحكيها الشاعر متى ما أراد أبناءه المفترضين في خياله الخصب ولا احد يستطيع أن يوقفه عن ذلك. لا أريد أن أتداخل في قلق أعماق الشاعر وصيرورته الخفية بقدر ما أريد أن الفت الانتباه إلى أن التاريخ وابنه الأرشيف سيعملان في السر والعلانية على تنظيم وأرشفة نبوءات ومناطق وجنون الشاعر وتلك حقيقة مرة لا يطيقها إلا القلائل من الشعراء بشكل خاص. أجل هنا وهناك تدوين ومتابعة لكل حرف وسلوك اندلقا فوق سطح السبعينيات في العراق عدا المواقف والاتجاهات التي غُيبتْ أو غابت في اعتقاد البعض لكنها في الحقيقة موجودة وأود إن التذكير بان كل ما حدث منذ مطلع السبعينيات وحتى بداية حرب الخليج بمراحلها وانتهائها فيما يخص حياة الشعراء الشباب محفوظة في لوح من طين ومرمر. إن موقف الشاعر الواثق من شعر يته كان محاطاً بهالة حمراء تعني انتماءه المتمرد كيفما اتفق أو فلأقل هو بمثابة رفض للواقع الاجتماعي والسياسي ومع ذلك فان الكشف عن مصادر الإبداع إيحاءً لا علاقة له بالالتزام السياسي أو الأيديولوجي وهذا طبعا لم يقلل من شان الشاعر إبداعيا حسب المراحل الزمنية والفكرية التي قطعها في ذلك المعترك الذي أصبح حالة شاذة بالنسبة للمعتركات السياسية والثقافية في معظم البلدان العربية. حقا إن التجربة الثقافية والسياسية في العراق لم تكن لتغدو خاضعة لقوانين الجدل التاريخي والموضوعي طوال أكثر من عشرين عاما خلت بسبب السوريالية التي عشعشت في كل بعد من أبعاد الحياة والتجربة التي أشرت إليها إذ أن الفلسفة الماركسية نفسها وضعت على رف من رفوف النسيان قبل انهيار الفلسفة السياسية في الاتحاد السوفيتي السابق وكم من الشعراء الماركسيين تخلوا عن ماركسيتهم أو التيار السياسي والفلسفي الذي كان يؤمنون به مجرد الكشف عن منطقة جديدة في الشعر وطبقا لهذا المعيار فمن الصعب السيطرة على الشاعر أيدولوجياً أو فلسفياً، انه إلكترون لا يعرف الاستقرار، نعم انه الشاعر المبدع. في الوقت الذي نال فيه عدد من الشعراء العراقيين الشباب ملكية شعرية لكل منهم عند منتصف السبعينيات لم يكن بوسع عدد آخر الفوز بمثل هكذا ملكية وذلك لأسباب تتعلق بالوعي المعرفي والموسوعي وكذلك عمق الفكر السياسي الذي كان يشكل موقعاً موازياً للحركة الثقافية العراقية إن لم يكن آخذاً مساحة أكبر بسبب الظروف الفنتازية وقتذاك. مهما يكن من أمر فان حركة الشعر في العراق جاءت في تلك الفترة لتحدث تحولا دراماتيكياً في الثقافة العراقية لأنها مبنية على المعرفة والكم الهائل من الإيحاءات والحوارات المترامية الأطراف شرقا أوغربا وأقصد تجارب الشعر العالمي. تحت هذا المتن أصبحت عملية فرز الشعراء المبدعين ليست بالسهلة إذ أن حركة النقد العراقي عملت على متابعة التجربة والمنجز الشعري لكل شاعر بحوزته مشروع شعري أو من القصائد التي تشكل مجموعة شعرية أو أكثر. أستطيع الآن أخذ أنموذجاً حياً لما استطرد ته من عرض خاص بالشعر السبعيني الذي وقف خلف طيلسانه عدد من الشعراء المحدثين الذين شكلوا ظاهرة مبدعة، قوة شعرية استحوذت على عقول المثقفين العرب وألفتت أراوحهم إلى ما يحدث في العراق من تطور شعري غريب لا بل وصل الأمر إلى أن يتشكل نهر ثالث سموه نهر الشعر، إن الأنموذج الشعري الذي أنا بصدد الحديث عنه كان ومازال يتقافز بين مناطق قلقة ومجهولة تتأتى من تدفق فكر الأنموذج نفسه حيث فكر الشاعر ودوران روحه وقدرته على خلق فضاءات خاصة به، وربما تبتعد أحيانا عن أخيلة كوكبنا الأرضي جعلته من إبداعه مستمرا في رسم خرائط شعرية تتضاد مع كل ما هو يمت بصلة القابع في الجمود النصي واقصد اجتراره وما إليه النص الجامد إلا عدم العثور على أدوات شعرية حديثة وربما تمثل هذه الآلية فكرا دُثر بالغبار والسبات الذي لا مفر منه، الانموذج الغائر القوي أي القوة الدافعة للشعرية البنائية الغائبة قد غاب عن مواكبة إنشاء النظريات والبناءات الشعرية التي تدفقت من الأنموذج المبدع وبذلك ظل يراوح في مساحته الضيقة شعريا من غير أن يحظى بأدوات شعرية جديدة ولغة متطورة وصورة شعرية تتكوكب وتتبلور وفق رؤية ما … لقد ضاع أو هُمشَ أو ظل يجازف حتى هذه اللحظة ليكوّنَ له صرحاً شعرياً لكن القافلة عبرت الحدود كما يقال وهنا طبعا لا أستطيع أن اسمي هذا الأنموذج لأسباب معينة. هذه الحقيقة قد حددتها العملية النقدية الإيحائية لحركة الشعر العراقي آنذاك وحتى هذه اللحظة عبر كم هائل من الدراسات والقراءات والمقالات النقدية التي نشرت في الصحف والمجلات العراقية والعربية، وكذلك الذي جاء نقدياً على هيئة كتب سبرت أغوار حركة الشعر العراقي. كما قلت فان عملية فرز الأنموذج الأول المبدع عن الأنموذج الغائب خلق حساسية مفرطة داخل الحوارات النقدية والاماسي والندوات الثقافية وكذلك المقالات التي تنشر في الصحف العراقية بين الفينة والأخرى. من المؤكد أن المنافسة الإبداعية في عالم الشعر تبدو مشروعة إذا خضعت للشروط العلمية والمعرفية المتفق عليها في مجال النقد الأدبي الحديث أو مجال الارتقاء نحو قمم توظيف اللغة لصالح الشعر واللعب فوق أكتافها لكن السجالات التي جاءت في جريدة الزمان سابقاً لم تتمحور في لعبة المنافسة واقصد السجالات المرحلية التي تخص الشعر السبعيني على وجه الخصوص. ما أريد قوله أن الأنموذج الغائب حاول وسيحاول اعتراض الأنموذج المبدع، الأنموذج المؤثر، دوما محطات فضائية شعرية خارج مدارات الكون بينما هو أي الأنموذج الغائب يبقى مراوحا شعرياً ومعرفياً داخل جغرافيا محددة على كوكب الأرض وتلك هي المعضلة لكن ما في اليد حيلة.