أخذت السينما أول امتيازاتها في الثقافة ولدى الجمهور من اعتبارها تطويراً للمسرح باعتباره عرض بصري وتكثيفاً لفنونه(النص، الأداء، الديكور، الموسيقى، الإخراج...الخ)وجملته الأخيرة بوسائل تكنولوجية. هذا الامتياز المشفوع بالإمكانات التكنولوجية جعلها تتجاوز المسرح على صعيد الحضور العريض، وجعلها أيضاً تقوم باختراق وترويج حقيقي-لم يقم به المسرح- للتلقي البصري للإبداع والثقافة على الرغم من عمرها القصير جداً(حوالي الـ 100 عام) قياساً بالمسرح الذي يمتد عمره الزمني منذ اللحظات الأولى لأنتاج الحضارة البشرية للمعرفة وتقديمها عبر تمثلات فنية وإبداعية....

يأتي امتياز السينما الآخر من جملة الاغراءات التي رافقتها منذ البداية وحتى الآن وسوقتها كفن غير متكلف كالمسرح . الأمر الذي ساعدها على النفاذ بسهولة في كافة المستويات الاجتماعية والثقافية للجمهور اعتمادا على وسائط الميديا والتكنولوجيا المختصة بالتسويق مثل دور العرض السينمائية والتلفزيون وأشرطة الفيديو وأقراص الـ C.D والـ DVDوالتي كانت واحدة من أهم هذه الاغراءات. على عكس المسرح الذي يشترط نمط واحد من التلقي ووسيط واحد في الصلة مع الجمهور فرمل من عملية تلقيه وانتشاره وجعله محدوداً ضمن جمهور ذو مزاج خاص.

هذا الفن استطاع أن يحظى بموقع متقدم في الثقافة ذات الطبع الإبداعي ، خصوصا وانه أحد الفنون التي كسرت شرطا لازما ً ربط بين العملية الإبداعية وبين عدم الرواج بالمعنى الجماهيري والتجاري ، حيث استطاع عبر جملة مكوناته( الصورة، والنص، الممثلين، الموسيقى، الإضاءة، الأسلوب الإخراجي) أن يقدم مقولة ثقافية وإبداعية (يتباين تصنيف مستواها كأي فن) مع إحراز اهتمام ورواج بالمعنى الكمي والتجاري لدى عموم الجمهور المتلقي.

أيضاً استطاعت السينما تجاوز الإشكالية الأولى (أو التهمة) التي رافقتها والتي تلخصت بتصنيفها كفن هجين، أي غير نقي إبداعياً، باعتبارها اختصاراً وتكثيفاً لعدد من الفنون، لتكرس حضوراً مهماً يعتمد على تجاوز المتلقي لمكونات الأولية وإقراره أن الجملة البصرية السينمائية الأخيرة كما تُعرض هيا السينما خالصة كفن غير مُعاب وغير منسول.

وتطور منجز السينما بتحريرها للحقل البصري في الإبداع الإنساني من سيطرة فنون التشكيل( الرسم، النحت، الصورة الفوتوغرافية) التي كرست ثبات الصورة أو الصورة الثابتة التي يضمر فيها كلاً من الزمن والحركة كقيمة وحيدة، لصالح الصورة كمتحرك، أي كفضاء مفتوح للحركة كنشاط والزمن كمتن تتحرك الصورة في إطار علاقاته كقيمة إضافية بجوار الأولى. وهو الأمر الذي احدث ثورة في طبيعة التلقي الثقافي والجمالي للصورة. واستطاعت السينما عبر تطورها أن تراكم خبرات هائلة في مجال التقنية والأدوات الفنية التي تشتغل على الصورة وإعادة تحريرها. وخلقت مدارس متنوعة في إطارها العريض تباينت في طبيعة استخدام الكاميرا وزاوية الالتقاط والحركة ووظيفة الصورة وما هو المعتنى به جمالياً أو ثقافياً أو اجتماعياً. واستطاع هذا التطور الهائل في تقنياتها و أدواتها الفنية أن يؤثر بشكل عميق في فنون اكثر عراقة منها وبعيدة أيضاً عن حقل نشاطها (اقصد البصري) مثل الرواية التي استفادت كثيراً من تقنيات الكاميرا السينمائية وعمليات إنتاج المشاهد وإدارتها والتقطيع والوصل وأيضاً تقنية الفلاش باك.بالإضافة إلى الشعر الحديث الذي استفاد تماماً من تقنية الفلاش البصري القصير . وبعد أن كانت السينما تطوراً وتكثيفاً لعدد من الفنون الأخرى التي نشأت في ظلها ومن اجلها، مثل فن السيناريو وفن الإضاءة وفن الموسيقى التصويرية.

ولقد تداخلت تأثيرات السينما في الثقافة والإبداع والاقتصاد والمجتمع بشكل ملفت للنظر حتى إنها استطاعت أن تلعب دوراً مهماً يؤثر في إدارة المجتمع والأفراد لشؤونهم، عبر قيامها بوظائف ذات مغازي أخلاقية تشجع أو تتعارض أو تنتقد جملة من الأوضاع السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، وتحولت هكذا إلى أحد أشكال الضمير الذي يراقب نشاط المجتمع وتبدلات علاقاته بمجملها.

إن تطور السينما كفن يحظى بالرواج الجماهيري ويعتمد على الشق التكنولوجي من الصناعة وعلى الموارد الاقتصادية التي تمنحه هيئته المادية، أدى إلى خلق علاقات اقتصادية ومصالح جديدة . أي إنها كي تؤمن استمراريتها وسعت من هذه العلاقات وخلقت سوقاً جديداً للعمل الاقتصادي تتواجد به أشكال مختلفة من المصالح وطبقات متنوعة من الفنيين والموظفين والإداريين ورجال الأعمال ومحكوم بنشاطات إنتاجية محدده ومطالب استهلاكية معينه ووسائل تسويق جديدة ومبتكرة خصوصاً لهذه السلعة. إن هذه الشبكة من المصالح بالمعنى الاقتصادي والسياسي جعل من السينما كثقافة وصناعة هدف أساسي للاحتكارات الاقتصادية الكبرى ذات المصالح السياسية. كما أن هذا الأمر خلق أنواعاً مختلفة من السينما بعضها يقوم بتلبية هذا السوق ومحكومة بشروطه الاقتصادية وتوازنات مصالحه وبعضها الآخر يحاول التحرر من هيمنته وينقذ نسق علاقاته الثقافي والمادي المدمر للوظيفة الإبداعية والثقافية للسينما.

إن السينما باعتبارها نشاط إبداعي بصري استطاعت أن تفتح حقولاً واسعة غير مكتشفه وخصبه أمام الخيال الإنساني وخلقت وعممت أنماط جديدة من التعبير الثقافي والجمالي المتحرر من ثقافة التدوين والمشافهة النصية التي سيطرت على جملة منتوج الحضارة الإنسانية . واستطاعت أن تحرر ذلك الضمور البصري فيها وتحوله إلى نص ونشاط حيوي وجاد ومتحرك بسرعة يساهم في إنتاج ثقافي جديد يشارك في الجملة الحضارية الجديدة التي تصيغها الإنسانية ويمنحها أيضاً طابعاً مبهجاً وأنيقاً لم تألفه من قبل .


كاتب يمني مقيم في دمشق