تدفقت في شراييني موجات من الهلع حين ابصرت عينيه المسكونتين بالرعب ووجهه المغمور بنافورة من دم، وجسمه المغطى بمساحة واسعة من الشحوب، كان يتلمس طريقه بين اشجار البرتقال وقد انهكه الاعياء، يقتلع قدميه من لجة الرمل بصعوبة بالغة ففاجأته بالوقوف امامه وبادرته بالسؤال:
- هل عرفتني؟!
رش وجهي بنظراته الوجلى ثم اطرق وكأنه يلملم بقايا ذاكرته المتناثرة ولم يبد انه افلح في التقاط مايعينه على تذكري، فلم تنبس شفتاه بكلمة للاجابة عن سؤالي، وشع بريق من الاستغراب في افق عينيه الجاحظتين قبل ان يشيح وجهه بعيدا عني مواصلا سيره.
- انتظر!
صحت خلفه ووضعت يدي على كتفه، فاستدار نحوي، وقف كجدار آيل للسقوط، حدق في عيني المتأرجحتين بين الخوف والفضول، تحولت نظراته الى اصابع تقلب اوراق الحاحي على السؤال، لكنه ظل صامتا ينتظر كلامي، فأسرعت بالحديث ولكن بتلعثم:
- اسمع اعلم انك متعب جدا، وجسدك مثخن بالجراح، ومازالت بقايا الفزع في ملامح وجهك الملطخ بالدم، وكل هذا لايهمني في شيء، اذ انني اعرف ماالذي حصل لك.
وكأنني طعنته بسكين أو نكأت جروحه، اتسعت حدقتاه بالدهشة والذهول، ثم عصف بوجهي صارخا:
- اجبني، هيا، ماذا تعرف؟.ماالذي حصل لي؟؟
- لن اخبرك مالم تعرفني، مالم تتذكرني.
انتفض نحوي ممسكا ياقتي قميصي وهز جسدي وهو يصيح:
- اخبرني، هيا، اخبرني ماذا تعرف، هيا؟
- قلت لك لن اخبرك شيئا مالم تتعرف علي؟
امسكت يديه ورميتهما جانبا، فاستكان وهو ينظر صوبي بوجل وغرابة، وقال منهارا:
- انا لا اعرفك، ولا اتذكرك، اخبرني ارجوك.
- سأساعدك على التذكر، ولكن قبل ذلك دعنا نتناول عصيرا من البرتقال.
ابتسم بتهكم وهو يطوف ببصره في ارجاء المكان، كانت اشجار البرتقال تحيط بالمكان الذي نقف عليه، تتدلى من اغصانها ثمار البرتقال، مددت يدي الى شجرة قريبة، امسكت الغصن الممتليء بالثمار واحنيته قريبا من رأسه، امسكت ببرتقالة وقلت له:
- افتح فمك.
عصرت البرتقالة بيدي فانسكب السائل يسيل الى فمه، رشف قليلا ثم بصقه صائحا:
- انه مر!
- ولكنه مفيد لجراحك ولجسدك المتعب.
عصرت ثلاث اخريات تجرعهن على مضض، وأومأ لي بأنه اكتفى، لكنني انا في الحقيقة من اوحيت له بذلك، كما أوحيت له بأن يستريح على دكة قريبة من الشجرة العملاقة التي ألقت بظلالها الخضراء الينا. جلس متهالكا كعنقود يتدلى، رأى من بعيد، بعيد جدا، طفلتين تركضان يتطاير شعرهما وثيابهما الربيعية الزاهرة كفراشتين ملونتين في حقل من الورد، يقتربان منه، مد يديه لاحتضانهما وقد علت شفتاه ابتسامة باهتة، اقتربتا أكثر وهما تلثغان " بابا... بابا " واوشكا على ان يتعانقا فقطعت لقاءهما بكلامي الحازم:
- هذا سراب، لن تحتضن سوى شبحين من الذاكرة.
سقطت يداه الى اسفل، رمقتني عينه اليمنى بحقد بينما امتلأت اليسرى باليأس، فأطرق وجهه المدمى مكفهرا، رفعت ذقنه الطويلة الكثة، فأبعد يدي زاعقا بوجهي وكان ان تزامن مع زعيقه نعيق غراب طار من فوقنا.
- اغرب عني، ابتعد، لا اريد منك شيئا.
- ألا تريد ان تعرف الحقيقة؟!
- أية حقيقة؟ من انت؟ هل أنت الشيطان؟!
- ستعرف من أنا قبل أن نفترق، أي بعد أن تعرف الحقيقة.
- لا أريد أن أعرف الحقيقة، ما الذي سيتغير اذا عرفتها؟
- ستعرف نفسك جيدا.
ضحك هازئا بصوت عال، وجسمه ينتفض كعصفور مبلل، تطاير نحوي رذاذ سخطه بعد أن انتصب وارتطم رأسه بغصن متدل ممتلء بثمار البرتقال، فسقطت برتقالتان، استقرت واحدة عند قدميه أما الثانية فتدحرجت الى قدمي، حملتها ثم اقتربت صوبه والتقطت الثانية ومددت اليه كفي بها وقلت له بهدوء:
- انظر تبدوان لك هاتان برتقالتان ولكنهما في الحقيقة برتقالة واحدة، أنا وأنت، لك واحدة ولي واحدة، احداهما مرة والاخرى حلوة.
- هذه الشجرة كل ثمارها مرة.
- الحقيقة تقول: ان عليك ان تجرب وتتذوق كل برتقالها لتحكم بعد ذلك.
تضايق وتلفت كثيرا من حوله، بدا المكان يغص بالأشجار المكتظة التي تحجب الأفق والسماء التي ارسلت غيوما رمادية تنذر بالمطر الوشيك، ومن تحت كانت الرمال الصفراء وكأنها هاجرت من الصحراء لتستقر في هذا البستان لتوازن خضرته بصفرة فاقعة، فتلبدت مشاعره بالكآبة والانزعاج وكأنه عالق في رمال متحركة ستغرقه في أعماقها فتمنى لو يتحول الى طير يحلق بعيدا، بعيدا جدا، لكنني قصصت له أجنحة أمنيته باستئناف حديثي معه:
- اراهنك أن برتقالتي حلوة، لأن هذه الشجرة قد منحت كلينا بعدالة الثمرة التي يستحقها.
- ماذا تقصد؟ اتشتمني أم انك تسخر بي؟؟
- صبرا، ها أنت تنزعج لافتراض لم تتحقق منه بعد، أي لم تعرف حقيقته، فكيف تقول ماالذي سيتغير لو عرفت الحقيقة؟!
وكأن سيلا من الصمت جرفه الى الهدوء باستثناء عينيه اللتين بدتا كشراعين يبحران في استغراب ودهشة، ثم ألقيا مرساتهما في ميناء الحيرة والاستسلام فبدأ يتمتم ممسكا بذراعي:
- اذن خلصني أرجوك.
- اسمع أنا هنا لأقولها لك، ولكن السماء توشك على المطر والرياح على الهبوب، تعقبها عاصفة رملية، وأمامنا طريق طويل، أعلم أنك ضيعت الطريق الى البيت لكنني أعرف طريقا آخر سيوصلنا، وفي الطريق سأخبرك كل شيء، ولكن بعد أن تعرفني جيدا، وقد فشلت حتى الآن في تذكري..
ربت على كتفه مطمئنا اياه وسرنا، وقد سبقنا سرب من السنونوات بينما بدت الأشجار تنفرج رويدا لكننا بالكاد نقتلع اقدامنا حتى شعرنا كأننا عالقين في وحل، لاحت أمامنا مجموعة من الكلاب انتظمت في صفين على جانبي الطريق وما ان ابصرننا حتى تجمعن في خط مستقيم كالسهم، وشرعن بالنباح فارتعد فزعا وتسمر في مكانه، جذبته من يده اليمنى قائلا:
- لاتخف، يجب أن نجتازهن، ليس لدينا طريقا آخر.
- ولكن ماذا لو هاجمتنا؟
- الكلاب لاتهاجم الا من تشعر انه يخاف منها، ثم انك لاتخاف الموت أليس كذلك، أم انك نسيت؟
- الموت، ربما لا أتذكر، ولكن أليس هناك من طرق اخرى لتجنب ما سيحصل؟
- يا للغرابة! لكنك انت تؤمن بأن ليس هناك سوى طريق واحد للحل دائما، طريق مفضل!
- هل تهزأ من جديد، ثم اين لك أن تعرف عني مالا اعرفه عن نفسي؟
توقف نباح الكلاب ثم اختفت الكلاب نفسها، اندهش لغيابها المفاجيء، وأمطرني بوابل من نظرات الاستغراب والاستفهام، فبادرته بالجواب:
- هذه الكلاب كانت جزءا من الحكمة التي فقدتها من قبل، ويبدو انك استرجعتها الآن، ولكن بعد فوات ال.....
- الأوان، ماذا تقصد؟ هل انت الماضي؟ ماضيي أنا؟ اذن ماهو الحاضر؟وهل حاضري هو نصف حكمتي المفقودة، وماضيي كان حماقتي وجهلي، فاذا كان ماضيي هو الحياة فهل حاضري الآن الموت أم الحياة نفسها؟ ثم ماهذا المكان الغريب الذي انا فيه، وما الذي حصل لي في الماضي؟؟ اللعنة، دوار وصداع وألم تعصف بي.
أمسك برأسه وانهار على ركبتيه على الأرض وكأنه تقيأ سما زعافا، عندما رفع رأسه لم يجدني، اندهش بشكل مرعب واضطربت عيناه تبحثان عني في أرجاء المكان المحيط به، فلم يعثر حتى على شبح طيف لي أو بقايا دخان يدل على انني تبخرت من أمامه، كنت في الحقيقة قد تسربت الى ذاكرته بعد أن وجدت فرصة بعد الدوار الذي ألم برأسه، أن أنفذ الى أعماق نسيانه المضطرب، وسرعان ماأغلق عينيه ثم فتحهما فجأة أيضا، فرأى في الأفق انفجارا هائلا يمزج السواد بالاحمرار ويتكاثف كغيوم متفرقة تائهة في الفضاء، فركض فزعا حتى وجد نفسه داخل بيت خرب نطل منه نافذة، ومن أعلى السقف يتأرجح ضوء مصباح قديم يضيء الجدران الأربعة وهي تحتضن صورا عديدة لجثث أطفال تحولوا الى أشباح ضوئية، تسربت من النافذة المفتوحة، فاظلم المكان فشعر بقشعريرة ووحدة باردة، فهمست له:
- هل عرفت الآن ما الذي فعلت؟!
فبكى بصمت يعتصر قرارة نفسه، وبكيت معه، فتوحدنا، وقد اطبق الظلام علينا، فنسينا الوقت، نسيت أنا الوقت، ونسي هو الوقت، ثم أصبح الوقت والصوت له، وأخيرا تسللت الى المكان شظايا من الضوء الهارب عبر النافذة صوب الطريق، فقادت خطاي الى خارج المكان، تلفت يمنة ويسرة ثم غرست قامتي في بحر العتمة.