صوت مجلس الشيوخ الأمريكي قبل أيام (26/9/2007)على قرار (وصف بأنه غير ملزم للإدارة الأمريكية) يؤيد فيه تقسيم العراق الى ثلاثة أقسام على الأساسين الطائفي والعرقي أي عرب (سنة وشيعة ) وأكراد.. (وقف وراء هذا القرار وصاغه السناتور الديمقراطي الصهيوني جوزيف بايدن من ديلاوير) وقد أثار هذا القرار وما زال ردود فعل متباينة بين مختلف الفئات السياسية والمكونات الطبيعية العراقية تراوحت بين الرفض العنيف له علانية عند البعض وتدرج الرفض الى حد السكوت عنه وتجاهله لدى البعض الأخر!! على قاعدة (السكوت من الرضا!) وصولا الى الترحيب به وتأييده علانية لدى البعض الثالث من العراقيين..وأثار القرار ردود فعل سلبية ومندهشة من قبل أغلب الدول العربية ومؤسسة الجامعة العربية وأمانتها العامة..


ليس الهدف من هذه الكتابة الآن الدخول في نقاش مع أي من التلاوين والتشكيلات السياسية العراقية العاملة والتي سوف لن تكون مواقفها إلا إنعكاسا لمصالحها الذاتية الآنية وحساباتها وتوقعاتها الإقليمية والدولية والتي أصبح البعض منها مرتهنا بكل ما في الكلمة من معنى لتلك القوى وصدى لما تبغيه مصالح تلك القوى الذاتية من العراق وتجاه اهله وحاضره ومستقبله..حيث أن مجال مثل ذلك النقاش هو الحوار بين التكوينات العراقية بما قد يفيد العراقيين لبلورة صيغ للعيش المشترك في وطن موحد اسمه العراق وعاصمة دولته العتيدة بغداد..إنما الهدف هو التعامل مع هذا القرار الأمريكي وتقويمه وبالتالي محاولة ترسم الخطى العراقية الوطنية لقبره وإنهائه كمفردة وإفراز مسموم من إفرازات العدوان على العراق وإحتلاله العام 2003.


المدهش أن المتابع للإدارة الأمريكية يرى بأن كل عملية العراق وما سبقها وتخللها من مآس رهيبة دفع ويدفع الشعب العراقي مئات الألوف من أبنائه ضحايا لها قد بنيت على الكذب المطلق والمستمر فلم يكن هناك في العراق أسلحة دمار شامل لدى النظام السابق ولم تستطع الإدارة الأمريكية من إثبات صدق توجهها بعد إحتلال العراق من أنها جاءت لتقيم الحرية والعدالة والديمقراطية للعراقيين، لقد شهدت السنوات الأربع والنصف الماضية من عمر الإحتلال البغيض أسوأ ما شهده العراقيون طيلة تاريخهم وتدمر العراق ومرافقه الحيوية ونهبت كل ثرواته من قبل العصابات المنظمة الدولية والإقليمية والعراقية كذلك، واليوم يأتي مجلس الشيوخ الأمريكي ليتبنى قرار تقسيم العراق وبوقاحة ما بعدها وقاحة ومن دون أن يسأل نفسه عن الخلفية القانونية أو الأخلاقية التي تخوله لإتخاذ مثل هذا القرار الطائش والذي لا يخدم فيه حتى مصالح أمريكا في العراق أو المنطقة العربية وإنما جاء إستجابة لأحلام ومخططات إسرائيلية شريرة تسعى لتفتيت الكيانات العربية القائمة وأولها الكيان العراقي..


ومثلما أستعملت كذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية وتبعتها كذبة قيام الديمقراطية وإرسائها في عراق الإحتلال الحالي يأتي مجلس الشيوخ الأمريكي بقراره الأخير حاملا راية (الفيدرالية )العراقية طريقا لتدمير ما تبقى من العراق وكيانه السياسي،وقد يتصور البعض بأن العراقيين ضد الفيدرالية كاساس لحكم العراق الجديد وهذا خطأ كبير فإن العراقيين الوطنيين الواعين مع قيام الفيدرالية في تطبيق متقدم يحافظ على وحدة البلد لا بما يراد من فهم رجعي وتطبيق متخلف يزرع الشكوك والأحقاد ويكون متنفسا لتصفية الحسابات والثارات بين الناس والتكوينات المجتمعية العراقية،وقد كتبت عن هذا الموضوع والرؤية رابطا ذلك بتطبيقاته التقدمية وجاء ذلك في (البيان العراقي ndash;مشروع رؤية مستقبلية للعراق في القرن الحادي والعشرين ) الذي أصدرته العام 1999 أيام الحكم السابق وصدام حسين ونشرته صحيفة (الزمان) التي كانت تصدر في لندن لوحدها آنذاك في عددبها المرقمين 276و277 والصادرين بتاريخ 16و17/3/1999 وفي الصفحة الأولى من ذلك البيان العراقي قلت بالحرف الواحد ما يلي..(( مع تأكيد (البيان العراقي) على حتمية وضرورة استمرار الدولة العراقية الحالية والعمل على تحديثها على كافة المستويات لتكون صورة مجسدة للطموح ولتواجه بجدارة وإقتدار تحديات القرن الحادي والعشرين التي غدت البشرية على أبواب دخوله بعد أشهر معدودة..فإن هذا هو الشئ العملي الممكن والوحيد لأمن وسلام واستقرار العراق والمنطقة بأسرها..


إن ( الجيوبوليتيك ) خلقت وشكلت أقوى دولة بالتاريخ في عصرنا الذي نعيش، ونعني بها الولايات المتحدة الأمريكية.. حيث تؤطر ( الأمريكانية ) هذا الشعب العالمي في أصوله وأعراقه ودياناته وثقافاته في نظام دستوري ديمقراطي ليبرالي..))
وكما نعرف فإن الولايات المتحدة هي دولة ليبرالية ديمقراطية فيدرالية، وفي الصفحة الثانية من ذلك البيان قارنت بين الشعب العراقي وحقائق نسيجه الإجتماعي التركيبي والمجتمع البريطاني وقلت نصا ((ب - الحقيقة العربية:- يشكل العراقيون العرب بحدود 80% من مجموع الشعب العراقي، من منظور البيان العراقي، فإن هذه الحقيقة تشكل قوة وجود وتاريخ لكيان الدولة العراقية الحالية ذاتها، من دون العراقيين العرب لا وجود لكيان حقيقي لدولة العراق.. وهذه المناظرة موجودة في بريطانيا كذلك حيث يشكل الإنكليز بحدود 81% من مجموع الشعب البريطاني، ولا يمكن القول بوجود بريطاني من دونهم..الى جانب هذه الحقيقة التي هي ( عرب العراق ) وفي إتجاه يقويها ويكملها هي كون الشعب العراقي فيه خاصية التعدد العرقي ممثلة بالعراقيين الكرد والتركمان والكلدو-آشوريين وبقية التكوينات الأخرى..


البيان العراقي يؤسس نظرته على المساواة التامة بين العراقيين في الواجبات والحقوق والمنافع ويؤكد بأن السبيل لتجسيد ذلك هو الحل الديمقراطي الوطني في بناء مؤسسات الدولة وبالإختيار والمشاركة الحرة من المواطنين العراقيين مما يخلق كفالة ضامنة لقيام مؤسسات متوازنة تمارس عملها بضوابط قانونية أساسها العدل ومبدأ تكافؤ الفرص بين الجميع..))
إن التفكير بالفيدرالية العراقية كحل وطني تقدمي حر وعادل لكل الشعب العراقي جاء منذ أيام صدام حسين ولم يكن في ذلك التصور والعمل من هدف إلا تقوية العراق ومؤسسات الدولة فيه وجعل الشعب العراقي يمارس حقه الطبيعي في حكم نفسه بنفسه ويبني مؤسساته الوطنية ويطورها نقيضا للديكتاتورية الفردية والحزب الواحد اللذين كانا المهيمنين على الحياة السياسية العراقية آنذاك. ولقد كان فهم الفيدرالية بهذا المضمون يماثل ما هو واقع على الأرض في الولايات المتحدة ذاتها التي ينظم أمورها النظام الفيدرالي الأمريكي والذي لم يبن على أي أساس عنصري أو أثني وطائفي وهذا ما دعاني أن أذكر الولايات المتحدة كنموذج تقدمي لنوعية الفيدرالية أما مفلسفو الفيدرالية في العراق فقد أنظلقوا من فكرووعي متخلف جدا مبعثه الحقد الهدام وليس العمل البناء الهادف، حيث أعتبر التيار العنصري الإنفصالي في القيادة الكردية بأن سقوط النظام العراقي السابق على أيدي الأمريكان وحلفائهم وإنهيار الدولة العراقية بتدمير مؤسساتها الشرعية، فيه الفرصة التاريخية للإستيلاء على ركام الدولة العراقية وتسخيره لصالح قيام (كيان ) كردي على أرض الشمال العراقي،كما ألتقت فئات طائفية عراقية مع هذا المخطط لتعلن عن هدفها إقامة فيدرالية مبنية على الطائفية في تسع محافظات عراقية وسطى وجنوبية حيث ينادى بها عبد العزيز الحكيم ومجلسه الإسلامي الأعلى والذي هو صناعة إيرانية رتبت وأنطلقت أيام الحرب العراقية الإيرانية(1980-1988) من طهران وتحديدا العام1982 وترأسه وقتها الإيراني محمود هاشمي شاهرودي الذي يشغل حاليا منصب المشرف على القضاء في إيران وكان المرحوم محمد باقر الحكيم أول ناطق رسمي بإسم المجلس المذكور قبل حلوله محل شاهرودي!!.


إن قرار مجلس الشيوخ الأمريكي هذا ما هو إلا فتنة أريد بها زيادة الشرخ والإنقسام بين العراقيين وضربة موجهة لكل تباشير الوعي العراقي الذي بدأ يبحث ويناقش ويجتهد في صياغة البرنامج الوطني العراقي المبتعد عن الطائفية اللعينة والعنصرية المشبوهة الهدامة،وليس هناك ما يجعل العراقيين يأمنون الى خطاب الإدارة الأمريكية بعد سلسة الأكاذيب التي سوقتها بالشأن العراقي وعلى هذه الإدارة أن تعي بأنها ومن سوف يأتي بعدها ستخرج من العراق وعليها أن تقوم بما يجعل الولايات المتحدة في موقع الصديق للعراقيين ليس من أجل الحاضر على ما فيه من خلل في توازن القوى وإنما من أجل المستقبل البعيد للستراتيجية الأمريكية،لقد أصبحت الولايات المتحدة مكروهة شعبيا في العالم العربي نتيجة لإنحيازها الأعمى لإسرائيل خلال الستين سنة الماضية وليس من المعقول بأن تسعى الى زيادة كراهية العالم العربي والإسلامي لها من خلال تبني مثل هذه المواقف الطائشة التي لا تخدم مصالحها القريبة أو البعيدة المدى..


أن لدينا الشيء الكثير مما يقال عراقيا الآن وأوله ما يؤشر عليه القول العربي المأثور (رب ضارة نافعة) و(إشتدي أزمة تنفرجي)،لقد جاء قرار مجلس الشيوخ الأمريكي هذا وإن يوصف بأنه غير ملزم للإدارة الأمريكية الحالية بمثابة ناقوس الخطر لوجودنا العراقي وقد تمثل هذا الإحساس بهذه الموجة الواسعة من البيانات التي صدرت من مختلف التكوينات السياسية والإجتماعية والشخصيات الوطنية العراقية التي أكدت على التمسك بوحدة العراق ورفض التقسيم تحت أي اسم كان، كما أنها وضعت الخطا الفاصل بين الإحتلال وواقعه وتوابعه وبين الشعب العراقي المتمسك بوحدة ترابه الوطني ودولته العراقية الوطنية كما وأنها كشفت لكل العراقيين عربا وكردا وتركمانا والآخرين من الأقليات العراقية مدى العقد والحقد والرهانات العمياء الخاطئة التي تسير عليها الأقلية الإنعزالية المسيطرة على الشمال العراقي ضد إرادة الجماهير العراقية الكردية التواقة الى العيش المشترك مع بقية العراقيين تحت راية وطن واحد سيد ومستقل،لقد أثبتت الأيام الماضية بعد صدور القرار المذكور مدى إمكانية إلتقاء القوى العراقية الواسعة ممن تهمها مصلحة استمرار الوطن العراقي وبما يحفز القول للعمل على بدء الحوار العراقي الوطني لتنضيج ورقة عمل مشتركة تلتزم بها كافة الفصائل العراقية وتكون دليل عمل لقيام جبهة أو تحالف سياسي عريض لتحقيق الأهداف الوطنية وللوصول الى مرحلة الإستقلال العراقي الناجز وإنهاء الإحتلال بكافة أشكاله وألوانه وشخوصه.. وستبلور الأيام القادمة غير البعيدة بأن بعدا جديدا لفهم المقاومة العراقية ودورها قد ولد..فهي قد تخطت من خلال نضالها البطولي وتضحياتها الشريفة في مقاومة المحتل وركائزه الى إعطاء صيغ الوطن الجديد الذي يتشكل مع أبعاد المقاومة ذاتها فالمقاوم العراقي ومن خلال نضاله وتضحياته لا يمكن أن يكون إلا مدافعا ومقاتلا عن وحدة العراق وشعبه ورافضا لكل أشكال العنصرية والطائفية وأمراضهما التي تغذى من قبل الإحتلال الأجنبي البغيض...

اسماعيل القادري

ألينوي-الولايات المتحدة