رشيد الإدريسي من المغرب: في كل مرة تصدر رواية توظف الجنس بشكل مكتف، إلا ويطرح معها النقاش فيما بين النقاد بوصفهم المعني الأول بالأعمال الأدبية قراءة وتحليلا ونقدا. إلا أن هذا النقاش غالبا ما يتجاوز حدود إطار النقد الأدبي ليلج حدود مجالات أخرى، فيشارك في إبداء الرأي في الأمر كل من رجل الدين ورجل السياسة والإعلامي والمربي... وذلك لما لموضوع الجنس من علاقة بالأخلاق ولما له من آثار اجتماعية وسياسية. وقد أثير النقاش في الثقافة العربية الإسلامية في العصر الحديث في محطات مختلفة ابتداء من كتاب طوق الحمامة عن فن الحب لابن حزم، والذي كان مجهولا في الدول العربية، فلما تم تحقيقه وإخراجه، عده المصريون كما يقول زكي مبارك أعجوبة وتألفت لجنة من علماء الأزهر برئاسة الشيخ محمد عرفة، وكيل كلية الشريعة، لتبرئة ابن حزم مما نسب إليه، وذلك لما قد يجنيه الحديث عن الحب وحيله وأمراضه على ابن حزم الفقيه والعالم الجليل في أمور الدين والدنيا.
وحقيقة الكتاب لمن اطلع عليه، تظهر له ابن حزم قارئا ذكيا لمجتمعه ولسلوك ونفسيات أفراده بعيدا عن كل ما يمكن أن يزري به. لكنه رغم ذلك كان يعي أنه يطرق مسألة تضعه موضع الشبهة، لذلك ختم كتابه بعدة أقوال يدافع فيها عن نفسه بقوله quot;وأنا أعلم أنه سينكر علي بعض المتعصبين تأليفي لمثل هذا ...وما أُحل لأحد أن يظن فيَ غير ما قصدته... وبالجملة فإني لا أقول بالمراياة ولا أَنْسَكُ نُسْكا أعجميا، ومن أدى الفرائض المأمور بها، واجتنب المحارم المنهي عنها، ولم ينس الفضل فيما بينه وبين الناس فقد وقع عليه اسم الإحسان، ودعني مما سوى ذلك وحسبي اللهquot;.
وبغض النظر عن هذا النوع من الكتب التي يندرج ضمنها كتاب طوق الحمامة لابن حزم والتي تتميز بكونها تركز في حديثها عن العلاقة بين الذكر والأنثى على مستوى المشاعر وعلى مستوى العلاقة بين المحبين وأسرارهم وطرق تواصلهم وما يكتنف ذلك من وهجر ووفاء وغدر وموت أحيانا، فإن هناك كتبا أخرى عرفها التراث العربي تطرقت للجنس بشكل خال من التورية والتي يطلق عليها عادة تسمية كتب quot;الباهquot; ومن ضمنها quot;الروض العطر في نزهة الخاطرquot; وquot;رجوع الشيخ إلى صباه في القدرة على الباهquot; وquot;تحفة العروس ومتعة النفوسquot; وquot;نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتابquot;...
هذه العينة الأخيرة من الكتب، هي التي تقترح الكاتبة السورية سلوى النعيمي استلهامها وتوضيفها في عملها quot;برهان العسلquot; الذي صدر في غضون السنة الفارطة والذي عرف إقبالا كبيرا من طرف القراء سواء في طبعته العربية أو في الترجمة الفرنسية التي فاقت مبيعاتها كل التقديرات. وبالنظر لهذا العمل على هذا المستوى نقف على حقيقة كانت دائما مثار نقاش بين النقاد، وهي اعتماد الكثير من الكتاب على الجنس بوصفه أداة لاجتذاب القراء وليس بوصفه ضرورة تفترضها الحكاية بشكل جوهري وفي الحدود المقبولة التي تبقي على العمل في إطار الأدب بحصر المعنى، ولا تدخله في إطار الأدب الخليع.
وبغض النظر عن مدى قدرة الكاتبة على الحفاظ على هذا التوازن وعدم خلطها بين هذين الحقلين، وهي مسألة تبقى رهينة بزاوية النظر التي يتبناها الناقد؛ إذ أن القارئ المتشبع بالكتابات الجنسية التي تنطلق من نفس التيمة، ستطهر له الرواية على أنها مقصرة في الكثير من المواطن وغير قادرة على توظيف الوصف بما فيه الكفاية لتعبر عن شبقية البطلة وانغماسها المغرق في بركة الجنس. بينما القارئ الذي تحكمه نظرة أخلاقية سيحتج على الجرأة المبالغ فيها والمترسبة في العنوان ذاته أي quot;برهان العسلquot;، ولن تُعجز صاحب هذا الخطاب البراهين التي سيدافع بها عن رأيه، وأولها أن للجنس نتائج بالغة الخطورة والأهمية على سلامة العلاقات الاجتماعية، كما أن الناس في مجال الجنس يتحرجون من السماع، فما بالك من القول ومن طرف أنثى كما هو الشأن بالنسبة لهذه الرواية.
وهذا السبب الأخير هو ما يضفي على الجنس في quot;برهان العسلquot; كل هذه الكثافة، فالكاتبة اعتمدت ضمير المتكلم المؤنت، كما أنها تتحدث لغة تحيل مباشرة على الذات بعيدا عن الكثير من تقنيات الرواية من قبيل بناء شخصيات متناقضة على مستوى الخطاب والحوار وتعدد الأصوات والوصف والحوار الداخلي...والتي تسمح للمؤلف بالتخفي والتمويه على القارئ حتى لا يربط بين ما يقال وبين حياة الكاتب. وهذا ما تجنبته أحلام مستغانمي في ثلاثيتها (ذاكرة الجسد وفوضى الحواس وعابر سرير) باعتمادها ضمير المتكلم المذكر. ويظهر أن سلوى النعيمي وإن خالفت مستغانمي في هذا الملمح، فقد نهلت منها الكثير، فآثار الروائية الجزائرية واضحة على مستويات عدة : الاقتباسات من الكتب، خرق البطل للأعراف اختيار أبطال مثقفين مما يسمح للمؤلف بقول الكثير مما يحلو له على ألسنتهم، لغة شعرية واضحة وإن كانت أكثر كثافة وانزياحا لدى مستغانمي،...
وتشابه النعيمي ومستغانمي على مستوى تقنيات الكتابة يوازيه تشابه على مستوى المسار الإبداعي، إذ كلتاهما رحلتا من الشعر إلى الرواية، وكلتاهما عرفتا نفس النجاح مع اختلاف في الأسباب؛ فاللغة الشعرية وتناول مرحلة سياسية حساسة من تاريخ الجزائر، ربما كانت هذه من ضمن أسباب النجاح الذي عرفته أعمال مستغانمي، بينما نجاح quot;برهان العسلquot; يعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة الموضوع المتناول والمتمثل في الجنس.
فالجنس هو مركز هذه الأخيرة، ففي هذه الرواية التي هي أقرب إلى الخواطر يصبح التركيز على اللذة الجنسية والتهالك على الأجساد العابرة هو مركز الحكي، حيث لا نجد عاطفة ولا حبا بمعناه النبيل، يقول فيرانندو پـيسوا quot;الحب هو الجوهر، الجنس ليس إلا عرضاquot;، بطلة الرواية تقلب الآية رأسا على عقب، ليصبح الحب الذي هو في الكثير من الحالات إحساس روحي، هو العرض بينما الجنس الذي هو محطة عابرة يتحول إلى جوهر تتحرك به ومن أجله الحياة.
انطلاقا من هذه الرؤية تفتتح الراوية البطلة الرواية بقولها quot;هناك من يستحضر الأرواح، أنا أستحضر الأجساد. لا أعرف روحي ولا أرواح الآخرين، أعرف جسدي وأجسادهم. هذا يكفيني. أستحضرهم وأعود إلى حكايتي معهم عابرين في جسد عابرquot;. وطبيعي أن يتولد عن هذه الرؤية تصور لا يؤمن بالوفاء ولا بالتوحيد على مستوى العلاقات الجنسية، فالقضية تقف عند البيولوجيا ولا تتجاوزها، لذلك فالعلاقات عندها عابرة متعددة، هي حققت ما كان بمثابة طموح لدى بطل ذاكرة الجسد عندما أعلن في الصفحات الأولى من الرواية قائلا : quot;كان لا بد ألا أكون رجلا لامرأة واحدةquot;.
لا شك أن الكاتبة تعي بأن الحديث عن الجنس بهذه اللغة، قد يعترض عليها من طرف الكثير، وأنها قد تنعت بكونها رؤية دخيلة علينا نحن العرب الذين من شيمنا العفة والمحافظة، لذلك فقد حاولت الرد على ذلك عن طريق استحضار كتب التراث التي تظهر السلف أكثر تحررا من الخلف الذين هم نحن. وهذه إحدى التوابث في هذه الرواية، بل إن الراوية تتحول أحيانا إلى رجل دين يمارس الإفتاء بالإحالة على الرسول وعلى أقوال بعض زوجاته. فالكاتبة كانت تكتب روايتها وفي ذهنها الرغبة في الرد على المعترضين عليها، وبما أن المعترض في هذا السياق لا يمكن إلا أن يلجأ للدين، فقد لجأت إليه الكاتبة قبله لتقطع عليه الطريق، معبرة بذلك عن أصالتها وامتلاكها لأسلاف من داخل التراث العربي الإسلامي.
لذلك ففي معرض طرق الموضوع مباشرة تقول البطلة: quot;حتى كلمة النكاح في عنوان أحد كتب شيخنا السيوطي هذبت وترجمت من العربية إلى العربية [الإيضاح في علم النكاح]، صارت [الإيضاح في علم الجماع] وطز في السجع.quot; وهذه الإشارة الهدف منها هذه المرة هو إظهار مدى تخلفنا عن الأسلاف ومدى جرأة سلف في مقابل خلف ليست له القدرة على معادلة الخلف بله أن يتجاوزه. والسبب حسب الراوية التي يصعب إقامة حدود بينها وبين المؤلفة أحيانا هو النفاق ولا غير، وهو ما تؤكده بالرجوع إلى التراث مرة أخرى ممثلا في أحد أكبر الناثرين العرب وهو الجاحظ، تقول : quot;كل هذا النفاق يذكرني بما كتب الجاحظ : quot;وبعض من يُظهر النسك والتقشف، إذا ذُكر الأير والنيك تقزز وانقبض. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من المعرفة والكرم والنبل والوقار، إلا بقدر هذا التصنع.. وإنما وضعت هذه الألفاظ ليستعملها أهل اللغة، ولو كان الرأي ألا يُلفظ بها ما كان لأول كونها معنى، ولكان في التحريم والصون للغة العرب أن تُرفع هذه الأسماء والألفاظ منهاquot;.
وتمشيا رؤيتها الأبيقورية للذة تعتمد الكاتبة إحدى الألفاظ الموغلة في التراث والتي لا نستحظر إلا دلالتها المباشرة السطحية ممثلة في المادة التي ينتجها النحل، بينما هي تحيل على العلاقة الجنسية بالذات، فالعسل من مشتقاته لفظ العُسَيلة الذي هو كناية عن الجماع. وquot;برهان العسلquot; هو عنوان ملغز قد يفهم بوصفه دلالة على أن الحب يقاس بالعسل، وهي هنا كما تشير إلى ذلك البطلة ما هي إلا المادة التي تفرزها عند التقائها بالمفكر العشيق ورغبتها في مجامعته، فالحب هنا من خلال العنوان وحده يتم اختزاله ليصبح عملية إفراز لا أكثر، وهو نقض للحب بمعناه الأفلاطوني والحزمي (نسبة إلى ابن حزم)، الذي يؤكد على البرهان بالأشواق بالميل باللقاء بالمراسلة ببث لواعج الهوى... فكل هذا حسب الرؤية التي تحكم الرواية ما هو إلا إنشاء روحي وجسر يعبر للوصول إلى الهدف الجوهري المتمثل في الجنس الذي تصبح أكثر الاستعارات دلالة عليه هي العسل.
إن هذه الرواية هي دعوة لنزع القداسة عن الجسد، وهو ما يتم الإعلان عنه من خلال العنوان والاستهلال دونما حاجة إلى الغوص في ثنايا الرواية لإدراكه، فاللذة هي الهدف الأسمى من الوجود، وهذا ما سمح لنا بعَدِها عملا أبيقوريا بامتياز، وهو ما أدى بالكاتبة إلى استبعاد الحب وعدم تحكيمه في العلاقات بين شخوص الرواية ومصائرهم، وذلك يرجع إلى أن الحب نابع من الروح، والراوية منذ البدء أعلنت أن الروح لا تهمها في شيء.
لقد حكمت رؤية المؤلفة سلوى النعيمي كتب quot;الباهquot; والرؤية الحسية الصرفة، وكانت هي المركز في حكيها، وأغفلت بشكل مطلق كتب الحب وما أكثرها في التراث العربي، لذلك خلت الرواية من علاقات الرغبة كما تحدث عنها الفيلسوف الفرنسي روني جيرار في أكثر من كتاب، وهو ما انعكس على بناء الرواية فجاءت خالية من الحركة وكان الحوار فيها نادرا، كما جاءت القصة فيها على شكل خيط ممتد وليس على شكل متاهة تختلط فيها الشخوص وتتمازج وتتصارع وتتحالف، مشيدة ما يشبه الكرنفال الذي حلل بواسطتة باختين روايات دوستويفسكي، لذلك نقول بأن quot;برهان العسلquot; بوصفها عملا أدبيا كان في حاجة إلى شيء من quot;برهان الأشواقquot; ليرتقي إلى مستوى الرواية بالمعنى التقني للكلمة.