شكسبير شاعر البصيرة

يكثر الكلام عن (ثقافة شكسبير) هنا وهناك، والجدلأكثر عن مصادر هذه الثقافة وينابيعها الأولى، وربما يطول هذا الحديث ويتشعب بعيدا، وتتضارب حوله الأراء والتصورات والمواقف، كل متأثر بمنهج تحليله للنصوص ومقدار استيعابه للتاريخ، وبما يختزن من موروث ثقافي وفكري وايديولوجي وروحي، ولكن في تصوري كل هذا لا يكفل الإستغناء عن إمضاء شاخص يدّق على القارئ المتعجل،فيما يغازل رغبة الإكتشاف لدى القارئ المتبصِّر...
تُرى ما هو؟!
شكسبير (موهبة البصيرة) لا موهبة الثقافة، موهبة الجبِلَّة لا موهبة الإضافة، موهبة الفطرة لا موهبة الكسب،الأولى حدسيَّة بارعة، تجدح بعطاء بارق مشع، يشرق في الذات، ذات صاحبها، ذات محظوظها، لتؤسس له (أنا) جديدة، تختص به على نحو عميق وواسع، فيما الثانية نوع من تراكمية العلم والمعرفة، تجعلنا أقرب إلى التصوير منه إلى الخلق، وأقرب إلى التقرير منه إلى الإبداع، وقد تجعلنا خلاّقين ولكن ليس كالبصيرة، فالبصيرة عمق ونفاذ وتغلغل وإيغال.
قراءة شكسبير بتأن وتؤدة وهدوء، قراءته بروح ملكوتية، مسبقة بإرادة الكشف والتحليل، متسلحة بوعي حاد تكشف عن نص أسسته البصيرة لا المعرفة، ومن يقرأ شكسبير بدقة وصبر يتأسس لا يتعلم، يتجوهر، يمارس روحه لا جسده، ربما يتعامل فيما بعد مع الأشياء والعالم بلغة جديدة، ولكنه فيما بعد يكتشف، ثم يخلق، ثم يتحول إلى بصيرة هو الآخر!
بصيرة شكسبير كليانية، جوهرانية، أول ميدان من ميادينها هي (النفس الإنسانية)، ينطلق منها ليعود إليها، يتحدث عنها بها، كما نتحدث عن العقل بالعقل، وعن اللغة باللغة، فليس غير اللغة تعرف أسرار ذاتها، وليس كالعقل يعرف جهل ذاته، وليس كالنفس تغور ذاتها.
بصيرة شكسبير ليست تجريبية بطبيعة الحال، بل هي نافذة، تباشر صلتها بالنفس دون تكلف، دون معادلات جبرية، ولا آدوات تحليل، بل تشريح النفس بقوى النفس، النفس بلغة شكسبير هي التي تتولى تشريح ذاتها...
ثم...
بصيرة أخرى، تلك هي بصيرة (اللغة)، فلغته بصيرة وليست باصرة، التحليل هو سيد الموقف في لغة شكسبير، وليس كل لغة قادرة على إعلان حقيقة النفس المتجلية لذاتها إلاّ لغة البصيرة، قد تتجلى لنا حقيقة صارخة، ولكن يكل اللسان عن توصيفها بما تستحقه من عرض وبيان، لان اللغة ليست بمستوى التجلي، تجلي موضوعها، هل لغتنا قادرة أن تكون بديلة عن لغة ( النفري) لتترجم لنا بدقة ما يتجلى للنفري؟
مستحيل...
الشوك لا يعطي عنبا!
لغة ترتوي من بصيرة الكشف، وبصيرة كشف تتغذى من لغة البصيرة، وبين البصريتين تشخص بصيرة المعمار!
كل مشهد أشبه بالبديهيات التي نصنعها نحن، كي نشيد عليها معرفة خاصة بنا، مدخل لما يأتي، لما يأتي منه، من شكسبير نفسه، ولكنها بداية لما يمكن أن نريد منها وليس ما يريد شكسبير بالضرورة! فهي حلقة في سلسلة من منطق الزمن المحكم، ولكنها بذرة لشجرة نحن نجتهد في خصائصها التي نرغب ونحب! كل مشهد حجر في بناء، ولكنه في الوقت ذاته حجر زاوية لمشروع جديد، تنطلق منه مخيلتنا، لنؤسس عملا أخر، شكسبيري الجذور لكنه غريب عنه في النهاية!
يطوي لنا الوجود بالناس، والناس بالانسان، والانسان بالدم، والدم بالاثم، والأثم بما وراءه، ترى ما الذي يكمن وراء الأثم بعد؟
يطوي لنا التاريخ كله بلحظة واحدة، تبرق وتخمد، تشتعل وتخمل، تصعد وتهوي، تستعر وتستكن، تنشط وتهجع...
يذكرنا بـ (هركليت) وهو يصف لنا أزلية العالم، نار تشتغل وتنطفئ، ولكن لتكر الكرة من جديد، وهكذا دون ملل أو كلل.
هل من لحظة بكل هذا العمق اللاهوتي الضخم؟
هل هي أشبه بتلك النقطة المعجزة التي تمخّضت عن كل هذا الوجود الرحيب؟
تلك هي النفس!
النفس الإنسانية...
ولعلي لا أبالغ أن شكسبير ربما يمتلك نظرية فلسفية في تشريح الوجود ليس بمقولات العلة والمعلول، والشدة والضعف، والقوة والفعل، بل بمقولة الدم، والدم وحده، يركن وراءه الأثم، فما بعد الأثم من حقيقة كي نوغل في فهم شكسبير؟ وبذلك يفوق شكسبير فلاسفة الوجودية الذين قلبوا ظهر المجن لمقولات تلك الفلسفة المدرسية لينصبُّوا على توشيح الوجود بظلال الحزن ونشوة الفرح، وبؤس الإستلاب وأمل الحرية، فيما كان شكسبير أشد منهم تخصيصا، وأبرع منهم إختصارا، فالماء والهواء والتراب والنار... دم... والبؤس والأمل والحزن والفرح والسمو والهبوط... دم... وخلف الدم إثم...
فماذا بعد الأثم؟
تلك هي النفس!
ويا لقدرة البصيرة ولغتها ومعمارها الفني على تخطي المعدود الذي لا ينتهي، لتختصره في معدود منتهي، الانسان في المنطق الأرسطي نوع، يصدق على من مضى، وعلى من حضر، وعلى من يأتي، ولكن هل هي نفس واحدة على الدوام؟
تلك هي من علائم عبقرية البصيرة لدى شكسبير، ومن علائم لغته البصيرة بموضوعها، وعلامة بصيرة المعمار حينما يتحول كل حجر من أحجاره إلى حجر زاوية مستديمة، تنتظر من يحرز على موقع داخلها...
وبصيرة البصائر لدى شكسبير أن يكون (موضوعه) النفس وليس الأرض، الدم وليس الماء، الأثم وليس الملك! وأنْ يلج الذات وليس الوجود الخارجي ثورة على فلسفة الوجود التي إبتليت بما يحيطنا من الخارج لا بما يحيطنا من الداخل...
فهل كان يخطط لذلك؟ أم هي سليقته النافذة مستلة من بصيرته العميقة الواسعة المتمكنة المحكمة المتجاذبة مع ذاتها إلى حد التماهي المطلق؟
فيلسوف الداخل، الداخل النفسي، ليس كشفا وعلاجا، بل تجلية، تجلية وحسب، ولكنها التجلية التي تسلحنا بآلية إقتحام التاريخ...
ويتوهم من يرى إنه تاريخ التاج فقط...
ذلك قصور القراءة!
العلاقة بين السلطة والقوة معادلة عالجها نص شكسبير، بل بصيرة شكسبير بعمق ودراية وكأنه مارس اللعبة بنفسه؟ هل كان هناك صراع بين نفس شكسبير ونصه هو بالذات؟
لا ننسى...
لم يسرف لنا شكسبير كتابةَ عن مواصفات المنديل ولا مواصفات السيف ولا مواصفات السم، ولكن أسرف من دون أن نمل سرفه وصفا وتحليلا عن الدم.
أن يتمخض الخيال عن حقيقةٍ أمر واقع، وأن يتحول الخيال الى حقيقة شائع في التاريخ، بل ذلك اصل الابداع كما يقولون، أن تولد الحقيقة خيالا شي ممكن، ولكن الأمر الرائع أن يتصاعد الخيال ويشتد ليفرز لنا حقيقة تتصاعد وتشتد...
وذاك من بصيرته في التصوير....

يتبع