يكمل في هذا العام المعمار جعفر علاوي 90 سنة من عمره (ولد في 1915)، وهي مناسبة مواتية للتذكير بمنجز هذا المعماري العراقي الرائد، وابداء التحية الى تسعينيته، متمنين له عمرا مديدا ً.
لم يعرف العراق الحديث، معمارا عراقيا مهنيا ومؤهلا اكاديميا الا بعد مرور ما ينيف عن خمس عشر سنة، منذ تأسيس الدولة الحديثة سنة (1921)، لكن البلد قد عرف نتاج المعماريين غير العراقيين العاملين فيه، وتلمس عن قرب تبعات النزعات التصميمية الجديدة التى اكتسحت البيئة المبنية، وغيرت كثيرا وسريعا ً من مشاهدها المألوفة، المشاهد البنائية، لتى ظلت على امتداد حقب زمنية طويلة بعيدة عن التجديد والاثارة.

عندما غادر " جعفر علاوي " بلده (بمعية صديقيه احدهما ابن محلته : محمد صالح مكيه، والاخر مدحت علي مظلوم)، الى انكلترة، مبعوثا للدراسة في مدرسة ليفربول المعمارية، عام 1933، التى سبقهما فيها اثنان من العراقين هما : أحمد مختار ابراهيم وحازم نامق ؛ كان معمار المستقبل قد تعّرف في بغداد، عن بعض النتاجات المعمارية التى بدأت واضحة ومميزّة في المشهد البنائي البغدادي، التى قام بتصميمها المعماريون البريطانيون العاملون في مديرية المباني العمومية، وكذلك لاحظها في اعمال البناة / الاسطوات، الذين كانوا " يستنسخون " عمارتهم من تصاميم فيلات سكنية مبنية في مدن حوض البحر الابيض المتوسط، ومنشورة ومطبوعة في بيانات مصورة " كاتالوغات " خاصة، كانت " محاكاتها" واقتباس تفاصيلها امرين رائجين على نطاق واسع في الممارسة البنائية ابان تلك الفترة !
ويبـدو ان " صدمة " التغيير والمخالفة، اللتين كانتا واضحتين، في اشكال واساليب تشييد تلك النتاجات المعمارية الجديدة، مقارنة بما كان شائعا ومألوفا في سياق البيئة المبنية المحيطة، قد اثرت تأثيرا ايجابيا على خيارات طالب البعثة المجتهد، في اصطفاءه العمارة كخيار لدراسته المستقبلية، رغم انه لم يكن على دراية تامة وتفصيلية عن خصوصية مهنته الجديدة وآفاق عملها. لقد بات التحديث او الاصح التغيير الجذري المشوب بالحداثة، ظاهرة ثقافية /اجتماعية، لا يمكن تجاهل تبعاتها على جيل كامل من العراقيين الذين فتنوا في تلك " الحداثة "، وطمحوا ان يكونوا " رجالاتها " ومبدعيها الحقيقيين ؛ وجعفر علاوي واحدا ً من اؤلئك " الحالمين "، الذي قُدر له ان يكون لاحقا ً، احد المعمارين الرواد في بلده التائق دوما للتجديد والتحديث.
ومع ان الخلفية الثقافية والتعليمية لجعفر علاوي لم تكن قادرة على تأهيله ومساعدته لنوعية الدراسة المعمارية المختارة : الغريبة وغير المعروفة، كما اشرنا، فان ذكاءه ومثابرته وحرصه على اتمام تعليمه بنجاح ؛ اسهمت كلها في تحقيق امانيه ؛ منهيا ً دراسته ضمن الفترة المحددة للبعثة. وحالما اتمّ تعليمه، قفل راجعا مباشرة (اكرر مباشرة ً) الى بلده عام 1939، متأبطا ً معه شهادة " بكالوريوس عمارة " من احدى اشهر المدارس المعمارية في العالم وقتذاك !.
غداة وصوله الى العراق، عُين في اوائل عام 1940، بقسم المباني التابع لوزارة المعارف، الذي كان قد استحدث خصيصا ً بهدف تصميم ومتابعة وتنفيذ مباني المدارس بجميع انواعها، التى كان البلد يعاني(ولايزال؟)، من نقص شديد في عددها ومبانيها. هل كانت ثمة محض صدفة ان يشغل المعمار ذلك الموقع الوظيفي؟ ؛ ام ان حسه الديمقراطي والوطني العالي قاده في اتجاه توظيف مزايا مهنته الجديدة، لجهة تأمين مبانِ، هي المدارس، التى عُد ّ وجودها، وقتذاك، من اكثر مفردات نسيج بيئة المدن المبنية أهمية ً وتأثيرا ً ؛ كونها فضاءات معنية بنشر المعارف والعلوم في مجتمع يرزح تحت وطأة التأخر، ومانفك مثقفوه يصارعون " استراتيجيات " ذلك التأخر من تخلف وجهل ومرض؟ !.
وايا ً يكن الامر فان تعيينه في ذلك الموقع، هو الذي سيجعل منه لاحقا، احد ابرز المختصين في عمارة الابنية المدرسية في عموم البلاد. وظل جعغر علاوي يعمل في وزارة المعارف لحين استقالته الطوعية سنة 1954، ليتفرغ كليا ً لعمله الاستشاري المعماري ؛ وبهذا فانه يعد اول عراقي يمنح موافقة تأسيس " مكتب استشاري "، جاعلا من الممارسة المعمارية لاول مرة في تاريخ العراق الحديث، مهنة حرة، معترف بها من قبل الجميع، كما انه بهذا الاجراء، فتح الباب واسعا، امام المعماريين العراقيين الاخرين لتنظيم انفسهم وتأسيس مكاتب خاصة بهم، اسهمت في تجذير الممارسة المعمارية العراقية وتنظيم شؤونها.
في الستينات، انصب نشاط جعفر علاوي ً في حقل المقاولات، بالاضافة الى ممارسته للعمل المعماري، الذي اقتصر بشكل عام على اعداد تصاميم دور سكنية في انحاء مختلفة من بغداد. وابان تلك الفترة، ساهم مساهمة جادة ايضا، في تقصي اساليب جديدة لحل معضلات الانشاء والمواد الانشائية المحلية، التى لم يكن احدا ً من المعماريين يوليها اهتماما يذكر. وفي عام 1965 عين وزيرا للاشغال والاسكان، وبهذه الصفة فانه يعتبر اول معمار، يتقلد منصب وزير في تاريخ الدولة العراقية !. واستمر بنفس الحال من النشاط الهندسي والمعماري لحين عقد الثمانينات، عندها تفرغ لهواياته الكثيرة والمتنوعة، مشاركا الوسط المعماري وغير المعماري بانشطته الثقافية التى كان، ولا يزال، يحرص على المساهمة بها.
وتظل فترة الاربعينات والخمسينات من اكثر الفترات نشاطا ً وانتاجا ً في حياة جعفر علاوي المهنية، ففي ذينيك العقدين تبلورت رؤى المعمار بصورة واضحة، وامسى واحدا من اهم معماري العراق. بالنسبة لي، شخصيا ً، كاحد متابعي المنجز المعماري العراقي، اعتبر نتاجاته المعمارية في ذينيك العقدين هامة جدا ً، وهذه الاهمية تنطوي على قيمة مزدوجة، ذلك لان ظهور تلك النتاجات في المشهد المعماري العراقي كان إيذانا ً ببدء مرحلة ثانية من تاريخ العمارة العراقية الحديثة، وثانيا ً، لان نوعية ذلك النتاج المتعدد الوظائف، قد عبر بوضوح عن مفاهيم وتصورات جعفر علاوي فيما يخص العمارة ومنجزها.

ثمة صعوبة يجابهها المتتبع، في مهام مسح وتوثيق وتسجيل جميع التصاميم التى نفذها جعفر علاوي، نظرا لعدم وجود مصادر منشورة كافية تتعاطى مع تفصيلات الشأن المعماري العراقي، ذي الاهمية الفائقة في منجز المشهد المعماري العربي والاقليمي. وتزداد هذه المهمة تعقيدا، بالنسبة لي، في الوقت الحاضر، بسبب موقعي الحالي بعيدا عن بلدي وعن طلابي، الذين معهم حاولنا في الثمانينات وبداية التسعينات، ان نوثق سجل نتاجات المعمارين العراقين، وكشف واستقراء مقارباتهم التصميمية عبر حوارات مباشرة كانت تجرى معهم. واذكر قبل خروجي من وطني سنة 1996، باني اقنعت جعفر علاوي بتنظيم عرض لتصاميمه العديدة، لتكون فاتحة لعرض اعمال معماريين عراقيين آخريين. وحينها تحمس للفكرة، واتفقنا على اسلوب العرض، ونفذنا مع بعض المعمارين والمعماريات نماذج من لوحات المشاريع المصممة، التى وجدتها مقنعة ومناسبة. لكن سرعان ما فقد اهتمامه بالمشروع، ولم يك بمقدوري ان اتابع تحقيق ذلك المقترح، بسبب سفري المفاجئ، وليس لي علم، هل تم ايصال العمل الى نهاياته، ونظم العرض، ام لا؟.
بيد ان ما نحن الان بصدده، ليس تسجيلا وثائقيا ً لما انجزه المعمار التسعيني، كما ان هذه المقالة لا تسعى وراء تحليل اكاديمي شامل لذلك المنتج الحصيف، وانما، وكما اشير في صدر المقال، استثمار موضوعة المناسبة لاداء ايماءة احترام وتحية لواحد من رواد العمارة العراقية الحقيقيين، والذي يتبدى نتاجه المعماري كاحدى الصفحات الناصعة في سجل ذلك المنجز، الذي اكسب العراق ومنحه حضورا مميزا في الخطاب الثقافي العربي والاقليمي.

تكمن مأثرة جعفر علاوي التصميمية، في اعتقادي، في " اعماله المدرسية " ؛ لكن هذا الاعتقاد، لا ينبغي له ان يقلل من اهمية اعماله الاخرى المميّزة. وقد تكون خصوصية المدارس، كمبان ٍٍخدمية حاضنة لشرائح اجتماعية متنوعة، تشي بخصوصيتها الى مفهوم ديمقراطية العمارة، موجبا ًلترسيخ تلك المأثرة، وتكريس اهميتها، وقد ترجع هذه الاهمية، الى تنوع مواقع تشييدها في ارجاء مختلفة من مدن وقصبات البلاد،ولاسيما تواجد نماذجها خارج العاصمة، فحازت بذلك على تعاطف جمّ من قبل مستخدميها الكثيرين ؛ او ان باعث تلك الاهمية التى اشير اليها، يعود جانبا منه، الى ولعي الشخصي بهذه الابنية التى تعكس بشكل ما طبيعة مهنتي التعليمية. وقد تكون جميع تلك الاسباب مجتمعة هي التى تعمل على استحضار عمارة جعفر علاوي، في الاقل بالنسبة الي ّ، من خلال انجازه " المدرسي " المرموق.
ثمة ثلاثة تصاميم مميّزة، يمكن لها ان تختزل، وبالتالي تعكس نجاحات المعمار في مجال الابنية المدرسية. وهذه التصاميم تعود الى " المدرسة الجعفرية " في سيد سلطان علي (القاطرخانه) ببغداد (1946)، و " ثانوية الحي " بواسط (1947)، و" ثانوية الحريري " بالاعظمية ببغداد (1953).
اتسم التصميم الخاص بالمدرسة الجعفرية على نضوج تصميمي بينّ، عكس من دون شك " المعارف " المعمارية المكتسبة من الممارسة المهنية في الوزارة، واشتغاله الدائم على تصاميم واشراف نماذج عديدة لابنية مدارس شيدت في ارجاء مختلفة من البلاد، الامر الذي عمق ادراكه لـ " تايبولوجية " تلك المباني والمعرفة الدقيقة لخصوصياتها التصميمية.
جاء تصميم المدرسة الجعفرية بكتلة متكونه من ثلاثة طوابق من الصفوف، مطلة على حوش / فناء داخلي فسيح، يفصلها عنه طارمة / ممر مكشوف من جهة الحوش، يقطع امتدادها الافقي، ايقاع منتظم تخلقه مساند عمودية، على ارتفاع المبنى كله، مصبوغه باللون الابيض، بخلاف لون المدرسة الطاغي الاصفر الباهت، الذي تشكله سطوح الجدران الطابوقية / الآجرية المصمتة. وهذا الممر العريض نسبيا ً يستخدم، كمكان تجمع الطلبة اثناء الفرص بين الدروس، كما انه يحمي فضاءات الصفوف من اشعة الشمس المباشرة. عالج المصمم الواجهة الخارجية للمدرسة، باستخدام فتحات نوافذ شريطية، مستمرة على طول الواجهة، في طوابقها الثلاثة، منهيا اعلاها بشريط افقي خرساني بارز. وتؤمن تلك الفتحات الافقية، اضاءة كافية ومتجانسة الى احياز الصفوف، كما تمنح الواجهة قيمة تعبيرية جديدة ومميزة. وهذا التميّز هنا، لا مندوحة عنه، لجهة تأشير خصوصية وظيفة المدرسة، كمبنى يختلف " تايبولوجيا " عن " ضجيج " تعداد وظائف المباني المجاورة ؛ كم انه ضروري، ايضا ً، لتأكيد فعل اضافات المعمار الجديدة الى البيئة المبنية المحيطة.
في ثانوية " الحي " بواسط، يستعرض جعفر علاوي مقدرته التصميمية، في تشكيل " فورم " جديد للمدرسة العراقية. ولئن حاول في عمارة هذه المدرسة، ان يعكس وظيفة المبنى، من خلال مفردات تكوينية، امسى استخدامها جزءا لا يتجزأ من تكوينات ابنية المدارس، فانه سعى لان يكون مدخل ثانوية الحي الرئيس عنصرا ً مهيمناً ذا حلول تصميمية استثنائية، تعكس اهميته الوظيفية كنقطة عبور يومي للتلاميذ ومعلميهم في دخولهم وخروجهم من المدرسة. ولتأشير استثنائية الحل التصميمي، فان المعمار لجأ، اولا، الى رفع كتلته، مقارنة بارتفاع المبنى ذي الطابقين، و قام في تفريغ كتلة المدخل، التى اجراءها وفقا لمنظومة تناسبية حاذقة، مقسما اياها الى قسمين : سطوح صلدة بدون فتحات، وفراغ عميق يوقفه جدار منحسرالى الداخل محفور به " بوابات " المدرسة الثلاث في مستوى الطابق الارضي، ونوافذ عليا ثلاث واقعة تماما على محور تلك الابواب. تعطي الاعمدة المزدوجة الطابوقية الرشيقة، والموقعة امام الفضاء الذي تم خلقة في طارمة المدخل، ايحاءا بتكاملية عناصر كتلة الاخير.
" نحت " المعمار واجهة المدخل باسلوب تفريغ كتلوي، يتسم على لا تماثلية فاضحة، مما اكسب عناصرها احساسا فائضا بالحيوية، الحيوية التى يزيدها تأثيراً تفعيل خاصية الظل والنور المعبرة والمترتبة عن ذلك التفريغ ؛ كل ذلك منح المدخل معالجة مثيرة، اختلفت كثيرا عن الاساليب المحايدة والهادئة، التى بدت فيها كتل المدرسة الاخرى. افضت حذاقة عمل المدرسة ومهارة التنفيذ فيها، التنفيذ الحافل بتفاصيل انشائية دقيقة وبارعة، الى جعل حدث تأسيس المدرسة والانتهاء من تشييدها حدثا ً معماريا بامتياز. بالنسبة الى المدينة النائية، الخالية من اي اثر معماري حديث، كان افتتاح المدرسة وبدء انتظام دوام الطلاب فيها، وظهورها بمظهر حديث ومفاجئ في المشهد البنائي المحلي مناسبة ثقافية واجتماعية هامة، احتفل بها جميع سكان" الحيّ "، والقى في مراسيم افتتحاحها، في ربيع عام 1947، الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري قصيدة، اعدها خصصا لهذه المناسبة، جاء فيها :

يابنتَ " رسطاليسَ " امك حـّرة - تلد البنينَ فرائـدا ً وخَرائـدا
سيقول عهدٌ مـُقبل عن حاضرٍ - نُشوى عليـه : لُعنت عهدا ً بائدا
ولسوف يبرأ ُ عاقب ٌعن اهله - ولسوف يتّهم البنون َ الـوالدا
قل للشبيبة حين يعصف ُ عاصف - الا يـظلوا كـالنسـيم رواكـدا
واذا اغـتلت ْ فينا مراجل ُ نقمةٍ - الا يـكونوا زمهـريرا ً باردا...

وادى نجاح عمارة مدرسة الحي في هيئتها المميّزة وتكوينها المعبر، الى ممارسة استنساخ تصاميمها وتعميمها على مناطق مختلفة من العراق، ولعل مدرسة " مندلي "، المشيدة في اوائل الخمسينات، مثالا واضحا لتعميم تلك الممارسة.

تبقى عمارة " ثانوية الحريري " في بغداد، من اجمل ما شهدته عمارة الابنية المدرسية في عموم البلاد. انها، بحق، " سيدة " المدارس العراقية ! ؛ ولا تضاهيها في تميّز لغتها المعمارية، وعقلانية الحل التصميمي وحداثته، سوى مدرستين شيدتا بعدها، وهما " مدرسة الامريكان " بالمنصور lt; ثانوية بغداد gt; (1956) المعمارية : الين جودت الايوبي، والمدرسة الاخرى هي " ثانوية الزعيم عبد الكريم قاسم " في الصويرة (1961)، المعمار : قحطان عوني.
تتبدى مفردات عمارة مدرسة الحريري، والتى سيق وان شاهدنا مثيلا لها في تكوينات مدرسية سابقة، تتبدى بمستوى عال ٍ من النضوج والكمال.، فعمارة المدرسة المميزّة، هي نتيجة ممارسة تصميمية طويلة، اجتهد المعمار كثيرا في وعي دروسها، وان يتعلم جيدا من نجاحاتها.. واخفاقاتها الشئ الكثير. ولئن بدا " فورم " المدرسة " فورما ً " عاديا ً ومألوفا، يعيد شكل هيئات التراكيب المولع بها المعمار، من امتدادات افقية لكتلة الصفوف، ومعارضتها بكتلة عمودية، هي كتلة السلم، التي يوقـعّ بجانبها عادة، مدخل المدرسة، زيادة على تاكيد موقعه، وسهولة الاستدلال عليه، فاننا نتلمس، في الحريري، استنطاق مثير مشوب بالجدة لتلك التركيبة المحببة الى قلب المعمار.
في ثانوية الحريري، لا نرى اثرا ً لاستخدامات الطابوق / الآجر بشكله الظاهر، وطرائق رصفه الحاذقة، والذي تعودنا ان نتلمس تأثيراته الجمالية في ابنية مدرسية عديدة ؛ وعوضا ً عن ذلك، يوظف المعمار " اللون "، ويجعل من حضوره التكويني، قيمة مكافئة لغياب تلك الممارسة البنائية الشائعة، التى تطورت وابدلت في الحريري الى اسلوب " لبخ " الجدران.
يبقى اسلوب النوافذ الشريطية الممتدة افقيا ً، اساس المعالجة الواجهية، لكنها، هنا، في الحريري، انطوت على تأكيدات اضافية، ببروز خرساني يحدد اطار الفتحات، ويؤكد موقعها ضمن " بياض " سطح الجدار الناصع. وبغية التأكيد على نظارة الهيئة العامة للمدرسة، فان المعمار يضيف شاشتين ملونتين باللون البني الضارب الى الاحمر، فوق امتداد كل شريط من اطاري فتحات النوافذ، مكسبا ً واجهته، بخلاف واجهات المباني المجاورة، مناخا ً لونيا ً زاهيا ً.. ومطلوبا ً. وتتصادى هذه المعالجة مع تشكيلات واجهة "مبنى الهلال الاحمر" في العلوية (1949)، lt;المعمارية : الين الايوبي gt;، والتى منها، بدأ الاهتمام بعنصر" اللون " كقيمة تكوينية هامة في منجز العمارة العراقية الحديثة .

تمثل " عمارة مرجان " في الباب الشرقي (1953-54)، احدى المحطات الاساسية في منجز جعفر علاوي المهني. ويعد ظهور المبنى استمراراً لممارسة معمارية جديدة، بدأت تشق لها طريقا ً في حقل التصميم والانشاء، واعنى بها المباني العالية، المتعددة الطوابق ؛ والتى سبق لمدينة بغداد ان شهدت اول نماذج تلك الممارسة، عندما تم ّ انجاز " عمارة الدامرجي " (1946- 1948) lt; المهندس : نيازي فتو gt;، بطوابقها الستة، والتى اعتبرت في حينها عالية جدا ً، ونسج حول ارتفاعها " الاسطوري "، موجة من الحكايات الخرافية التى لا تصدق !.
تتجاوز، في رأي، اهمية " عمارة مرجان " حدود الحل المعماري الصرف، ليضحى مرامي التصميم، شاملا ً الجانب التخطيطي الحضري ايضا ً. فالمبنى بمقياسه الواضح والمعبر ّ، واسلوب انحناء واجهته الخفيف، التى تطل على موقعين مختلفين (شارع وساحة)، " تضبط " بصرامة هيئات وتكوينات المباني المحيطة والمجاورة له، المنفذة منها، والتى قد تنفذ مستقبلا ً. ورغم التغيير الكبير والجذري الذي طرأ على نوعية الفضاء المجاور، بدءا من اختفاء مزروعات " حديقة غازي "، الى رحابة " ساحة الملكة عالية " الدوارة، ومن بعدهما الى ساحة التحرير، بشكليها " المستوي " و " المحفور " ؛ ظل ّ مبنى " عمارة مرجان " محتفظا ً باهميته الحضرية، كونه احد الثوابت التخطيطة الذي يمنح حضوره نكهة خاصة لعموم التخطيط العمراني للمنطقة المتواجد فيها.
وفي رأي، ايضا، ان الاهمية الحضرية الفائقة " لعمارة مرجان "، ما كان لها مثل هذا التأثير، لولا نوعية الحلول المعمارية للمبنى ذاته ؛ اي مثلما اثر حضور المبنى على التخطيط، اثر الاخير على صياغة نوعية العمارة ؛ بمعنى آخر، ان معمار المبنى وعى جيدا طبيعة مسؤوليته التخطيطية والمعمارية معا ً. وهذا الامر قاده الى تنطيق الواجهة بمفردات تصميمية، انطوت على حضور عال ٍ من الوضوح البصري، واتسمت على بساطة بالادراك وسهولة في التذكرّ. فصياغة الواجهة تخضع الى تقسيمات غاية في البساطة، اساسها منظومة " التوزيع الشطرنجي " للفراغ والسطح الصلد. وهذه المنظومة متأسسة من ان مقدارمقاسات فتحات النوافذ المحفورة عميقا في الجدار، هي نفسها ابعاد السطوح الصلدة المحيطة بتلك الفتحات من جميع الجهات : من اليمين ومن الشمال، من الاعلى ومن الاسفل !. ونرى تشكيلات هذه المعالجة واضحة في القسم الاوسط من المبنى، القسم الاكبر مساحة، والاهم وظيفيا ً، والمرئي بشكل جيد ؛ اما القسمان الاخران : مبتدأ المبنى ونهايته من ثلاثية تقسيمات الواجهة، فقد جاءت المعالجة مختلفة، طبقا ً للتنوع الوظيفي .
يحسن التذكير، بان جعفر علاوي صمم كثيرا من المباني المهمة، التى تعتبر الان جزءا اساسيا ومهما من الذاكرة المعمارية العراقية . فقد صمم قبل " مرجان " عمارة " سامي سعد الدين " في ساحة الرصافي (1949)، كما اشترك مع " عبد الله احسان كامل " في تصميم وانشاء " المصرف الزراعي بالسنك في شارع الرشيد ببغداد (1949- 51). وتعد حلوله التصميمية الخاصة بالبيت السكني، اضافة قيمة لجهة تشكيل فورم حداثي للدارة العراقية، من حيث التوزيع الفراغي لمكونات المسكن، والتوظيف الواعي لخصائص المواد الانشائية الجديدة، وفهم تبعات استخدام تلك المواد . ويمكن ايراد، في هذا الصدد، تصاميمه لدور سكن الخبراء الاجانب في مصفى الدورة (1952)، وسلسلة الدور السكنية في العلوية (1955)، بالاضافة الى تصاميمه بيوت سكنية منفردة في مناطق مختلفة من العاصمة العراقية، امتازت هيئاتها العامة بادخال مفردات تصميمة جديدة وغير مسبوقة في الممارسة البنائية المحلية، مما اكسبها حضورا مميزا في المشهد البنائي المحلي .
مرة، كتبت في سياق الحديث،عن عمارة جعفر علاوي بما يلي lt;... ظلت القرارت التكوينية لديه تنطلق، اساسا، من مهمة " تبسيط " المعضلة التصميمية، والالتزام " بمنطقية " التوزيع الفراغي، والاهتامام " بكفاءة " الاستعمال والتشغيل،، و" المقدرة " على استخراج اشكال واجهات وهيئات التراكيب الكتلوية من مدخلات عناصر " البساطة " و " المنفعة " و " الراحة " و " الامان " و"الفتنة" و"الديمومة" للمنجز المعماري... gt; ومابرحت، آمن بمصداقية ما كتبت عنه... ... متمنين لمعمارنا التسعيني موفور الصحة، والعمر المديد.

د. خالد السلطاني: مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون