الحمامة اللبنانية أو واحة الديموقراطية والحداثة وسط صحراء العروبة المجدبة تكوين فسيفسائي غير متجانس منذ بدايته، أي منذ استقلاله عن الانتداب الفرنسي.. هو كيان موزع على انتماءات دينية ومذهبية متعددة، ثم هناك الانتماءات العائلية، والتي تلعب دوراً رئيسياً في واقع التفتت اللبناني، ويتوزع اللبنانيون أيضاً على توجهات سياسية على أرضية بلبلة في تحديد الهوية، ما بين رؤى العروبة بتوجهاتها المعادية للغرب، ولما تسميه الكيان الصهيوني، إلى رؤى المتطلعين غرباً للحداثة والانتماء إلى العالم الحر، ما جعل لبنان طوال تاريخه فيما بعد الحرب العالمية الثانية ساحة للصراع الداخلي والخارجي.
فعلى أرض لبنان تتصارع التقليدية والحداثة، المسلمون والمسيحيون، النظم الثورية الراديكالية والممالك والإمارات المحافظة، التنويريون والمغامرون الباحثون عن دور وعن ثروة، كما تحول لفريسة ووطن بديل للفصائل الفلسطينية التي عجزت عن استعادة وطنها، واستسهلت السيطرة على لبنان المسالم المتفكك، بعد أن طردها عاهل الأردن من بلاده في أيلول الأسود أو الأبيض، وهو ذات المنطق الذي دفع بنظام البعث الأسدي في سوريا لأن يستعيض بلبنان عن الجولان التي فقدها منذ أربعة عقود، والأغلب أنه يفضل التخلي عنها إلى الأبد، في مقابل أن تظل الحمامة اللبنانية بين فكيه، ليجذب لبنان بوضعه هذا أيضاً لاعبين على الساحة الدولية مثل إيران، ليجعلوا منه رهينة ونقطة ضعف، يلوون عن طريقها ذراع أو رقبة المجتمع الدولي أو العالم الحر.
وبين اللاعبين من الخارج واللاعبين من الداخل من زعماء الطوائف والعائلات الطامحين إلى السلطة، كان الشعب اللبناني هو الحاضر الغائب، حاضر باعتباره الأداة في يد اللاعبين من كل الأنواع، يستقطبونه ليحاربوا به معاركهم الخاصة، وغائب من حيث مصالحه البسيطة، المتمثلة في مجرد حياة إنسانية للأطفال والشباب والشيوخ، بعيداً عن الشعارات والأيديولوجيات، التي تجعل منه مجرد وقود لنيران الصراعات التي يروم مشعلوها أن تظل متقدة إلى الأبد.
هو تكرار عبثي أن نتوجه باللوم إلى اللاعبين من خارج لبنان، مادمنا ندرك أن ما أغرى هؤلاء اللاعبين في لبنان هو افتقاد اللبنانيين أنفسهم إلى مقومات وإرادة أن يكونوا شعباً واحداً.. افتقادهم إلى الحد الأدنى من الرؤية المشتركة لأنفسهم وموقفهم من العالم ونظرتهم إلى الحياة، فافتقاد هذا الجانب الأساسي من مقومات مفهوم 'وطن' و'شعب' هو المحرك الأساسي لدورات الاضطرابات والاقتتال الداخلي التي لا تنتهي، وغيره من العوامل مجرد عناصر ثانوية، قد تزيد الأمور التهاباً أو اشتعالاً، لكنها أبداً ليست هي الأساس.
لكن أزمة لبنان الآن تختلف عن كل ما سبقها من أزمات اختلافاً جوهرياً، فالجديد في لبنان الآن هو أنه ينفرد على جميع دول العالم (باستثناء حالة قطاع غزة) بأن تكوينه الشعبي والسياسي الرسمي يضم منظمة إرهابية هي 'حزب الله'، فالمنظمات الإرهابية التي يغص بها عالمنا هي منظمات سرية، تطاردها -ولو رسمياً فقط- جميع الدول، وتتبرأ منها -ولو أيضاً رسمياً فقط- جميع الشعوب، لكننا في حالتنا هذه أمام منظمة إرهابية -بكل معنى الكلمة، أي أيديولوجية وممارسة- لها قاعدة شعبية عريضة، وتحتل مساحة محددة من لبنان، ولها إذاعتها وقناتها الفضائية، وجيشها الخاص الذي تشن به الحروب على الدول المجاورة بقرارها المنفرد، ولها ممثلون شرعيون في البرلمان وفي الوزارة، كل هذا رغماً عن قرارات الأمم المتحدة بتصفية هذا الوضع الشاذ.
المعضلة التي تجعل الصراع اللبناني- اللبناني هذه المرة يختلف جذرياً عن كل ما عداه من صراعات، هو أن البحث عن حل في المرات السابقة كان بحثاً عن الأسلوب الأمثل للتوافق بين الفرقاء، الذين يقفون جميعاً على قدم المساواة، من حيث حقهم في التواجد والعيش المشترك، بغض النظر عن قوتهم البشرية أو الاقتصادية النسبية، وهو الحق الشرعي المكفول للجميع، بما يسهل معه الوصول إلى قناعة وتوافق من الجميع، رغم العداوات والثارات التي تخلفها التناحرات دائماً، بمعنى أنه كان هناك دائماً طريقاً مشتركاً، يتنازل فيه الفرقاء -ولو على مضض- عما يعوق تلاقيهم مع الآخرين، لكننا هذه المرة أمام معضلة مستحيلة، من حيث أن المطلوب لبنانياً وعالمياً هو استئصال أحد الفرقاء استئصالاً تاماً، لا نتحدث بالطبع عن الطائفة الشيعية، ولكن عن الكيان الإرهابي الذي يسيطر عليها عسكرياً وسياسياً، ولا يفيد هنا ما يمارسه الطرف الآخر، أي جماعة 14 آذار من تقية، بأحاديث تفتقد إلى الجدية والمصداقية، عن تمسكهم وتقديرهم لما يسمونه سلاح المقاومة، أو عن تأجيل حسم مسألة سلاح حزب الله إلى الحوار اللبناني الداخلي، فالجميع وعلى رأسهم 'حزب الله' يعرف أن المطلوب هو استئصال ذلك الكيان الإرهابي، وتخليص الشيعة اللبنانيين من براثنه، وهذا ما لن يفيد فيه حوار، كذلك الحوار الذي قام حزب الله من على مائدته ليشن حربه الخاصة على إسرائيل، ويجلب به الدمار على لبنان، ويعلن بعدها عن نصره الإلهي، وكأنما يعلن عن انفصاله التام عن الكيان اللبناني، مادام يرى له نصراً خاصاً به، فيما لبنان في ذات الوقت قد تم تدميره واحتلال أراضيه.
يعرف الجميع أن سؤال تسمية رئيس جمهورية لبنان يشف عن السؤال الحقيقي خلفه، وهو سؤال طبيعة لبنان المستقبل:
هل يصير دولة إرهابية رسمية، مثل إيران التي أُدرج حرسها الثوري ضمن المنظمات الإرهابية؟
أو تصير دولة راعية للإرهاب من خلف ستار مثل سوريا الأسد؟
أو يصير لبنان كما يحلم به بعض أبنائه واحة للديموقراطية والسلام والرخاء والانفتاح على العالم؟
إذا كان من العبث البحث عن حل توافقي حقيقي ودائم، مادام الطرف الأساسي في المشكلة يعرف أنه مُقدم الآن أو بعد خطوة على تصفيته واستئصاله، وأن أقصى ما يمكن له الحصول عليه من حل توافقي هو تأجيل نهايته لبعض الوقت، فهل نعتمد في أملنا في التوصل إلى ذلك الحل على تواضع آمال حزب الله'، بقبول تأجيل نهايته لبعض الوقت؟ هذا الاحتمال ممكن ولاشك، خاصة إذا ما تزايدت الضغوط الدولية على إيران وسوريا رعاة 'حزب الله'، بحيث يجد الإرهابيون ورعاتهم في التأجيل مكسباً لا بأس به، يتيح لهم الأمل في اقتناص الوجود لحين فرصة أخرى تكون أكثر مناسبة لهم.
لا تبدو الظروف اللبنانية والدولية الآن مهيأة للحسم، ولوضع لبنان على الطريق الصحيح الجدير به وبتاريخه الحضاري، الذي وضعنا عليه جميعاً أمل أن يكون نموذجاً يحتذى به في المنطقة، وإذا كنا ممن لا يتمنى للبنان أن يكون دولة الإرهاب على ساحل المتوسط، فلن يبقى أمامنا إلا أن نتعشم الوصول إلى الحل التوافقي، الذي يتيح لنا شرف استضافة 'حزب الله' بيننا لبعض الوقت.
على ذات النهج يتمسك 'حزب الله' بتأييد تولي الجنرال ميشيل عون سدة الرياسة، ليس بالطبع على أمل أنه الرئيس الكفيل بتجنيبه لمصيره المحتوم، لكن باعتباره الرئيس الذي سيستغرق بعض الوقت بعد توليه، حتى يعود إلى معسكره الطبيعي، وهو معسكر دعاة الاستقلال والديموقراطية، والذي لم يفارقه إلا جرياً خلف طموحاته الشخصية، وأن هذه الفسحة النسبية من الوقت التي يمنحها ميشيل عون لحزب الله، سيفقدها الأخير في حالة تولي الرئاسة شخصية من تحالف 14 آذار، والذي لابد سيتوجه مباشرة لتحقيق ما ينبغي عليه تحقيقه للبنان ومستقبلها، وبهذا يكون الصراع عملياً ليس على مستقبل لبنان بصورة مطلقة، وإنما على مجرد الهامش الذي سيترك فيه 'حزب الله' متواجداً على سطح كوكبنا!!
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية