أسامة العيسة من القدس

لا يحتاج المراقب للشان الفلسطيني، إلى اكثر من مصطلحي (رام الله)، و(غزة)، المتداولين الان، كمكاني لصنع quot;القرار الفلسطينيquot;، الذي يشك كثيرون بأنه، في الحالتين، فلسطينيا خالصا، حتى يدرك مدى التشويه الذي حدث للجغرافيا السياسية الفلسطينية، فالأولى بلدة محتلة عسكريا، ومحاطة بالمستوطنات اليهودية من كل جانب، والثانية شريط ساحلي ضيق محاصر برا وجوا وبحرا.

وبعد ستين عاما، من قيام دولة إسرائيل، تظهر اخفاقات الحركة الوطنية الفلسطينية، في اختزال مصطلحي رام الله، وغزة، الأول الذي يعبر عن اتجاه في هذه الحركة يراهن على ما يسميه العملية السلمية، وله علاقات متشعبة، غير متكافئة، مع إسرائيل وقوى غربية على رأسها الولايات المتحدة الاميركية، ولا تقتصر هذه العلاقات على الجانب السياسي، ولكنها تشمل املاءات أمنية، تظهر هذا الاتجاه مكشوفا quot;وطنياquot; أمام شعبه، وتجعل القنصل الأميركي في القدس هو quot;رجل الظلquot; القوي وغير المخفي، المتحكم في حكومة محمود عباس (أبو مازن)، بينما علاقة رئيس الحكومة سلام فياض الخاصة والمميزة مع الإدارة الأميركية لا ينفيها الطرفان.

أما الاتجاه الثاني المتمثل في غزة، فله عدة تعبيرات، ليس صعود نجم حركة حماس الإسلامية إلا إحداها، ويعكس اخذ زمام المبادرة أخيرا من (الضفة الغربية)، حيث كان ممثلو فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في غزة، طوال سنوات quot;تابعينquot; لقادتهم في الضفة، ورغم ما قدمه الغزيون في الانتفاضة الأولى التي انطلقت عندهم، ومعها انطلقت حركة حماس، من غزة بالأساس، إلا أن ما حدث من تطورات لاحقة، بقيام السلطة الفلسطينية، لم يكرس فقط بلدة صغيرة مثل رام الله، هي في الظروف الطبيعية تابعة لمدينة القدس، كعاصمة سياسية للسلطة الوليدة محدودة الصلاحيات، ولكنها كرست أيضا، ما اعتبر سيطرة ما اصطلح على تسميتهم بـ quot;العائدينquot; من الخارج على مواطني الداخل، مستندين إلى تراث حافل من فساد مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، ومغيبين النخب في الضفة وغزة معا.

ووجدت سيطرة quot;العائدينquot; تعبيرا لها في انتخابات المجلس التشريعي الأولى عام 1996م، والتي لم يقدر لها أن تجرى مرة ثانية إلا بعد نحو عشر سنوات، تغيرت فيها أمور كثيرة، فكان فوز حركة حماس، ومرشحي حركة فتح الجدد، في أحد جوانبه، تمردا على نخب العائدين، واظهار كوادر من الداخل، وأيضا، وضع غزة في الواجهة القيادية من جديد، بعد تغييب استمر طويلا.

وما حدث بعد الانتخابات، من حصار، وانقسامات داخلية، حتى الحسم العسكري في غزة في شهر حزيران (يونيو) 2007، لم تغيبه ذاكرة المتابعين بعد، ولكن ما كان ملفتا، هو أن الصدمة التي قوبل فيها ما اسماه quot;فريق رام اللهquot; انقلابا، شملت أيضا الكثير من قادة ورموز حركة حماس، إن لم يكن جميعهم في الضفة الغربية، واصبح واضحا بان قرار تغيير الأوضاع جذريا في غزة الذي أقدمت عليه حركة حماس في غزة، لم يتم التشاور فيه مع قادتها في الضفة الغربية.

ولم يكن سهلا في الأيام الأولى التي أعقبت الحسم العسكري في غزة، أن يحصل الصحافيون على تصريحات مما تبقى من قادة ورموز حركة حماس في الضفة، بعد حملة الاعتقالات الإسرائيلية السابقة، التي طالت وزراء ونوابا، ولكن البعض وجد نفسه مجبرا على إعطاء موقف بحكم موقعه الوظيفي، مثل محمد البرغوثي وزير العمل آنذاك، الذي عبر عن عدم رضاه مما جرى في غزة.

وفي أحاديث ليست للنشر، ردد قادة وكوادر في حماس الضفة، على تساؤلات كانت تطرح حول العنف الذي صاحب الحسم العسكري في غزة جملا مثل quot;ما حدث يناسب الوضع في غزةquot; وquot;في غزة الأوضاع والعلاقات تختلف سواء ما تعلق بفتح أو حماسquot; وquot;العنف وتصفيات الحسابات في غزة لم يكن أمرا جديداquot;، quot;ليكن شكل العلاقات بين الفصائل في الضفة غير ما هو حالها في غزةquot;، وحتى quot;نحن نختلف عن غزةquot;.
وكثيرا ما فوجئ الصحافيون، من مواقف طرحها قادة محليين لحماس، في اجتماعات عقدت في هذه المحافظة الفلسطينية أو تلك وضمت فعاليات رسمية وشعبية وبدوا فيها quot;اكثر ملكية من الملكquot; من خلال خطابهم المؤيد بلا تحفظ لسلطة أبو مازن.

وفي نقاشات شارك فيها صحافيون يغطون الأحداث الفلسطينية، من بينهم من هم محسوبين على حماس كانت تقديرات هؤلاء بان قادة حماس في الضفة لجاوا إلى مبدا quot;التقيةquot; هروبا من ملاحقة سلطة رام الله لهم.

وفي خطوات، أريد لها أن تحمل معنى رمزيا، وفعليا، لاظهار التباين بين موقفي قيادات حماس في الضفة عن مركز صنع القرار في غزة، حج بعض رموز الحركة في الضفة مثل حسين أبو كويك، والدكتور ناصر الشاعر، إلى مقر أبى مازن، وأدوا صلاة الجمعة معه، وابلغوه رفضهم لتصريحات علنية ادلى بها قيادي حماس في جباليا توعد فيها بالصلاة في مقر أبو مازن في رام الله.

ولم يترك ابو كويك والشاعر مناسبا، الا وانتهزاها لاظهار التباين، مثل وضع اكليل من الزهور على قبر ياسر عرفات، في ذكرى وفاته، وسط تغطية صحافية، والقاء كلمات بالمناسبة.

ولكن أجهزة الأمن الفلسطينية، تعاملت بقسوة ملحوظة مع العديد من قيادات حماس في الضفة الغربية، وكان الشعار الذي رفعته هذه الأجهزة بأنه يحظر تكرار ما حدث في غزة، مرة أخرى في الضفة الغربية.

ولم يتورع بعض قادة الاجهزة الامنية الفلسطينية في المحافظات الفلسطينية من القول متوعدين افراد حماس quot;سنسحقهمquot;. وتعرضت قيادات سياسية حمساوية بالإضافة إلى آخرين من الكوادر الشابة التي اتهمت بعلاقتها التنظيمية مع القوة التنفيذية في غزة، إلى أصناف من التعذيب والاحتجاز غير القانوني.

وحولت حركة حماس بعض من هؤلاء رموزا مثل قيادي حماس في نابلس موسى الخراز، الذي تعرض للاعتقال اكثر من مرة على أيدي الأجهزة الأمنية في المدينة.

ولم يكن ليخطر ببال مركز صنع القرار في حماس، مدى التهميش الذي شعر ويشعر به قادة حماس في الضفة الغربية، ولذا فوجيء الجميع، بان quot;الرمزquot; الخراز نفسه، هو من عقد مؤتمرا صحافيا ليعلن دعم شرعية أبو مازن، ويطلب من مسلحي حماس تسليم أسلحتهم للأجهزة الأمنية.
وصور ما حدث على انه انشقاق في حركة حماس، التي كان موقفها مما حدث مرتبكا، فهي لم تستطع دفع قيادات من quot;حماس الضفةquot; للإدلاء بتصريحات للتبرؤ من إعلان الخراز، وفي الوقت ذاته ردت على ما حدث على طريقة الإعلام الرسمي العربي، من بيروت ومن غزة، حين حاول مثلا أسامة حمدان ممثل الحركة في لبنان، أو الناطقين باسمها في غزة، التقليل من دور الخراز القيادي، رغم انه كان حتى قبل فترة بسيطا رمزا لمعاناة واضطهاد حماس في الضفة.

ووافق كثير من المتابعين، ومن بينهم عناصر في حركة فتح، على تصريحات حمدان، بان ما اقدم عليه الخراز قد يكون بضغط من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ولكن الخراز واصل ما اسماه مبادرته أو مشروعه التي وصفها بالشخصية.

وبالنسبة للمراقبين، فان ما حدث مع الخراز، كان سيحصل عاجلا أم آجلا، نتيجة معادلة (التابع والمتبوع)، ودفع عناصر حماس في الضفة، ثمن قرارات حماس في غزة.

ومع ذلك من الصعب الحديث عن حالة انقسام بين الضفة، وغزة في حركة حماس، وان كانت الاشكالات التنظيمية تظهر حتى في مجال العمل العسكري، وهو ما أظهره التعامل المرتبك الأخير مع عملية ديمونا.

وشكل تعامل بعض الفصائل الفلسطينية مع العملية ما يشبه quot;الفضيحةquot; ليس فقط الإعلامية ولكن الأمنية، عندما تم إعلان أسماء منفذين ونشر أشرطة وداعية لهم، حتى فوجيء الجميع، ومن بينهم على الأرجح جناح حماس العسكري في غزة، بان المنفذين من الخليل، وينتميان إلى حماس.

وساد الاعتقاد بان خلية حماس هذه التي عملت من الخليل، نشطت بشكل فردي، وظهر ذلك في طريقة الإعداد والتنفيذ، وإذا كان يتوجب نسبتها إلى حركة حماس، فإنها تمثل استجابة متأخرة جدا لدعوات كثيرة علنية كان يطلقها قادة حماس في غزة، لأفراد الحركة في الضفة لتنفيذ عمليات تفجيرية داخل إسرائيل، ردا على عمليات الاغتيال الدموية التي تنفذها إسرائيل في غزة، ولا يوجد رد جدي من حماس، منذ ثلاث سنوات على الأقل، حتى أن التعهدات بالانتقام لدماء مؤسس الحركة احمد ياسين، والقيادي البارز عبد العزيز الرنتيسي، لم يقدر لها أن تنفذ أبدا، وهذا ما يشير في بعض وجوهه، إلى عدم معرفة واطلاع قادة حماس في غزة، على وضع الحركة في الضفة، حيث تمكنت أجهزة الأمن الإسرائيلية وخلال انتفاضة الأقصى، من ضرب الجهاز العسكري لحماس بقوة ودون رحمة، دون أن يكون هناك على مستوى مركز القرار في الحركة، دراسة جدية لما يحدث، غير إصدار البيانات الحماسية، وهو ما أدى في النهاية، حسب المراقبين، إلى الحالة الراهنة، بين (حماس غزة) و(حماس الضفة)، الأولى تتخذ القرارات، والثانية تدفع ثمنها وسط ظروف من الملاحقة الإسرائيلية والسلطوية الفلسطينية، لم تتعرض لحجمها أية حركة فلسطينية في العصر الحديث، والتي يبدو انها تتعرض الان لتوابع ما يصفه البعض اداء قياديا محكوما بجغرافيا سياسية مشوهة، تصور للبعض ان غزة، مثلا هي مركز العالم.