فؤاد معصوم.. الحلم بدولة إخوان الصفاء

سمعت فؤاد معصوم رئيس مجلسنا الوطني، ابن كويسنجق – كويه- ومريد إخوان الصفاء وخلان الوفاء البصريين، يشكو من صدود البرلمانات العربية، وتعاطيها مع الشأن العراقي، طالباً منهم النصيحة والخبرة، فحسب قوله "نحن لا ندعي الكمال". أقول، لمَنْ تشكو، وممَن تطلب المشورة أيها الإنسان النجيب، والبرلماني العريق والباحث الناجح؟ والله لو شيدت برلماناً سويسراً لما رضت عنك الأعراب، هم مازالوا يمضغون بكوبونات النفط العراقي، ومازالوا ينتظرون ما تسفر عنه جهودهم في قتل الأطفال، وتدمير العراق حجرة حجرة، مثلما شاع القول عن المغفورة ذنوبه الملك حسين بن طلال، فلا يرضون منك ديمقراطية ولا برلماناً، يرضون بطه ياسين رمضان يسبهم، ويقسم لهم بشارب صدام حسين أن يحرر القدس لهم. ألم يقل شاعرهم محمود درويش للطيف انصيف جاسم الدليمي: أنت وزير الشعراء! ألم ير شاعرهم نزار قباني اللون الأخضر في عيني صدام، ألم يهز وسطه للحرب على إيران بالقول: "خرج الفرس اليوم عرس". لو راجعت يا فؤاد معصوم موسوعة "أم المعارك" لوجدت العجب العجاب، مدّاحون لا يغلبهم مَنْ قال للخليفة مبرراً خطاياه:
وإن أمير المؤمنين وفعله
لكالدَّهر لا عارٌ بما يفعل الدَّهر
ولا يغلبهم مَنْ تمنى أن يشرك نعل ممدوحه في الخدمة:
نعلٌ بعثتُ بها لتلبسها
تسعى بها قدمٌ إلى المجد
لوكنت أقدر أن أشَرِّكها
خدي جعلت شِراكها خدِّي
ألم يقل شاعر لبناني لأحمد حسن البكر وهو المتبرأ من العمل السياسي والمتفرغ لتربية الأبقار، بعد اشغال منصب رئيس وزراء دولة الحرس القومي:
إن تكن كوبا بكاسترو تفاخرنا
فأحمد العرب كاسترو وجيفارا
لا يعجبهم أدبك يا معصوم، وصبرك في الحوار، وتواضعك الجم بل يشتاقون إلى عزة إبراهيم الدوري وهو يسب وزير خارجية الكويت بعبارة يتعالى عن قولها أدنى الرعاع "لعلن الله أبو شواربك، تغلط على رمز الأمة"، عندها حاول أمير قطر، مالك قناة الجزيرة ومضيف اللولب الصهيوني بالمنطقة، تدارك الأمر فقال: "أخ عزة ما يصح هذا نحن على الهواء"! وكانت فضيحة الفضائح. وتعرفون مَنْ هو رمز الأمة؟ هو الذي رأيتموه يفلّي شعر رأسه ويفتح فمه مطيعاً آسره، وأقصى أمانيه الآنية هو الحصول على نستلة أمريكية. والأمة التي يرقص مثقفوها اعجاباً بهذا الرمز، نطلب من الله أن ينفذ تهديده فيها، حاء في أكثر من آية: "إن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم"، و"إن يشأ يُذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين". هؤلاء يريدون برلمانيون بمقاسات رمضان والدوري، لا يريدونك ولا يريدون نصير الجادرجي، ولا حميد مجيد موسى، ولا صون كوك جابوك، ولا صوناي طارق، ولا زويتا أحمد، ولا محمد بحر العلوم، ولا فريدون قادر، ومَنْ يعرف أًصول السياسة وأُصول الأدب من كل أديان وطوائف وتكوينات العراق.
وهل هناك برلمانات عربية حتى تطلب مشورتها يامعصوم، وتتحسر على خبرتها؟ فأنت تطلب دولة إخوان الصفاء، وهم يطلبون دولة الحجاج بن يوسف الثقفي، وشتان بين الدولتين والروحين، روح الحلم وروح الدم والتدمير. فهل تحصل على خبرة البرلمان الأردني، الذي عاش على مأساة العراقيين، وأمراؤه ينظرون إلى عرشهم المضاع في قصر النهاية؟ ألم يقل البرلمانيون الأردنيون ومحامو صدام لك ولزملائك في المجلس أنتم لستم عراقيين، فلا يجوز لكم محاكمة صدام حسين؟ ألم يباركوا الموت بحلبجة، وموت الأنفال، وتجفيف الأهوار، واتهمونا بالمقابر الجماعية وهي صنعة بعثية صرفة، وصدقوا إيمان صدام لأنه أطلق على اسم الأنفال على عملية الموت وهو اسم السورة التي نزلت بعد بدر، وكانت واحدة من حملته الإيمانية؟ قلبوا الدنيا ولم يقعدوها بصحفهم لأن كردستان العراق احتفلت بمئوية الجواهري بين وديانها وجبالها، بعد أن رفضت البرلمانات العربية تخليد ذكر الشاعر، الذي غلبهم شعراً وحضوراً، فقالوا أنها الصهيونية، والمشروع الأمريكي، وهم على وجوههم يخفق العلم الإسرائيلي من قبل ربع قرن! قالوا ذلك لأن الاحتفال كان خارج إرادة البعث بل وكان إدانة للبعث.
مَمنْ تطلب المشهورة يا فؤاد معصوم، وحولك شعوب مغلوبة، يخاف برلمانيوها المفترضون أن يكون لك برلمان يتحقق بعد ولادة عسيرة، لا سهولة مجالسهم وانتخاباتهم؟ وأي الصحف العربية ماعدا "الشرق الأوسط" و"إيلاف"، والصحف الكويتية، والأخيرة أول المكتوين بنار البعث الوحدوي، لم تضع خبر قتلة الأطفال كمقاومة وطنية، وتطالبنا ببرلمان شرعي منتخب، وهي لا تملك شيئاً من هذا. ولا يُقال في هذا الإعلام غير:
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم
ذئاباً على أجسادهنَّ ثياب
وهذا الأقل وقف مع محنتنا بمروءة، تحدثتُ يومها مع الصحافي والكاتب عبد الرحمن الراشد باسم إتحاد الكتاب والصحفيين العراقيين وديوان الكوفة، بعد مغادرته رئاسة تحرير "الشرق الأوسط" إلى إدارة قناة "العربية" الفضائية، معبراً له عن الشكر والامتنان لما أشعرتنا به جريدة "الشرق الأوسط" متمنين أن يلعب الدور نفسه في فضائية "العربية"، وكنا نوينا أن نقيم له مجلس احتفاء. وبعدها شعرنا بالفعل أن هناك تغييراً نحو الأفضل قياساً بالجزيرة في "العربية"، ونطمح إلى أكثر من ذلك.
يومها، عتب علينا الباحث الدكتور محيي الدين اللاذقاني بأننا أمسينا لا نفرق بين مَنْ يقف معنا وبين مَنْ يقف ضدنا! وكان عتبه على ما جاء في بياننا الذي صدر ضد الإعلام العربي عموماً وجريدة "القدس" المحبرة بدماء شعبنا وصاحبها عبد الباري عطوان، الذي يتصل بأركان إسامة بن لادن من المشرب المجاور لمقر جريدته بهامرسميث، معظماً له وحدة الجهاد الإسلامي بين السيف والكلمة، بعد زيارة مقره بأفغانستان! وتبجحه بلقاء البطل الثائر، وتجد عبد الباري يجامل الأوروبيين عندما يكون اللقاء في محطاتهم، ويتحول إلى ثورجي إسلاموي عندما يكون اللقاء مع "الجزيرة"، وهذا لا يجيده غير شخص منزلته منزلة الحرباء.
كان للصديق الباحث اللاذقاني الحق، فهو واحد من هذا القليل، وكيف لنا مساواة موقفه الطيب القديم معنا بخبث ودناءة مواطنه علي عقلة عرسان، مثلما كيف لنا مساواة نجابة خالد الحروب بلؤم وحقد أحمد منصور، وهما من طاقم قناة "الجزيرة"، وكيف لنا مساواة توازن وهدوء وحيد عبد المجيد بزعيق مصطفى البكري، وهما مصريان. لا يجوز هذا مطلقاً، وعلينا الاعتراف أن الكثرة ستسير وراء العوران الدجالين، مثلما كتب لصدام حسين فؤاد مطر وأمير اسكندر، لكن يبقى الفاضل هو القليل، وتكفي صدورنا هذه الأقلام راحة وطمأنة.
التقيت يوماً بالدكتور فؤاد معصوم في شتاء لندن، قبيل التحرير من هيمنة البعث، وكنت ملتحفاً من البرد، وهو حاسر الرأس لا يرتدي غير ما يرتديه في ربيع كويسنجق، فكل عاد إلى مناخه، فألقيت التحية عليه وشعرت أنه لم يعرفني، أوقفته وحسرت الغطاء عن رأسي مع أسماعه عبارة الحجاج المشهورة: "متى أضع العمامة تعرفوني". ضحك وقال ما كنت أتوقع أن حجاجاً يشاركني الطريق بلندن الديمقراطية! وأردف قائلاً: العودة إلى العراق أصبحت قاب قوسين أو أدنى، سنعود ونكمل حديثنا السابق حول إخوان الصفاء والمعتزلة ببغداد، الحديث الذي بدأناه قبل أيام بمكتب الإتحاد. فالمعروف عن فؤاد معصوم أطروحته "إخوان الصفا.. فلسفتهم وغايتهم"، التي صدرت في كتاب عن دار المدى (1998)، وتدور الأيام ويصبح معصوم مدرساً في جامعة البصرة حيث مرابع إخوان الصفاء والمعتزلة معاً. وما بين فؤاد معصوم وسعدون حمادي، رئيس مجلس صدام، هو ما بين الجمال والقبح، ما بين الحب والكراهية، مابين الحرية والاستبداد. فالمئتان والخمسون عضواً في المجلس البعثي لا يعرفون غير اقتراح تأبيد صدام حسين في الحكم، يوكل إلى عدد منهم إطلاق المقترح ثم ترفع الأيادي بالموافقة، وملامح سعدون حمادي المقطبة تضفي صبغة من الجد على الجلسات، فلو كان محمد سعيد الصحاف رئيساً للمجلس لتمت المهزلة شكلاً ومضموناً.
جميل أن يكون أول رئيس لأول مجلس وطني مريداً لإخوان الصفاء، وقابلاً بحدة نقد هادي العلوي، وقد عبر عن قبوله هذا أن أورد النقد في خاتمة كتابه، وأن يكون دارس فلسفة ومدرسها، ومبشراً بدولة يتقدمها أهل العلم والمعرفة مثلما أقترح الإخوان ذلك. إنه الحلم البصري في حكومة طاهرة مطهرة جذب ابن كويسنجق وجعله مسكوناً به. حلم لا يريد حالموه إنزاله إلى الأرض رغبة بنقائه وإبعاده من عبث المحيطين، جاء في رسائلهم: "لا ينبغي أن يكون بناء هذه المدينة في الأرض، حيث تكون أخلاق سائر المدن الجائرة، ولا ينبغي أن يكون بناؤها على وجه الماء، لأنه يصيبها الأمواج والاضطراب ما يصيب أهل المدن التي على السواحل من البحار، ولا ينبغي أن يكون بناء هذه المدينة في الهواء مرتفعاً، لكي لا يصعد إليها دخان المدن الجائرة، فتكدر أهويتها، وينبغي أن تكون مشرفة على سائر المدن، ليكون أهلها يشاهدون حالات أهل سائر المدن في دائم الأوقات، وينبغي أن يكون أساس هذه المدينة على تقوى الله، كيلا ينهار بناؤها، وأن يشيد بناؤها على الصدق في الأقاويل، والتصديق في الضمائر، وتتم أركانها على الوفاء والأمانة، كيما تدوم، ويكون كمالها على الغرض في الغاية القصوى، التي هي الخلود في النعيم".
بلا ريب، أن مطلب الإخوان هي الجنة ذاتها، أو ما يقام على نموذجها، بعيدة عن الأخطار والمفاسد. والدولة التي ينتظرها العراقيون، وتحملوا لأجلها عربدة الدارعات الزاحفة والطائرة، محنتها محنة حلم إخوان الصفاء،كيف لها النزول من الحلم والتخطيط إلى الواقع والتطبيق والمحيطون العابثون يترصدونها؟ وكيف لها البعد عن أخلاق الجوار؟ وكيف لها أن تقوم على تقوى الله وسائر المدن أممت اسم الله وحولته إلى أحزاب ومنظمات. ماذا العمل يا فؤاد المعصوم بحلم العراقيين بدولة قرأوا عن نموذجها في كتابك، وسمع بها من لسانك تلامذتك البصريين همساً، فكان الكلام الصريح عن أي دولة غير دولة البعث محرماً في أواسط السعينيات. مع كل المقدمات الواعدة، فالدولة الحلم مازالت في علم الغيب، وأخطار المحيطين تصاعدت، وأنت بشكواك لبرلمانات شقيقة مفترضة أراك تغص في ورطة هذا الحلم، ولا تسمع مناجاتك غير نفسك. لقد تعقب البرلمانيون العرب عقب موسى بن عمران وصعدوا إلى جبل سينا، وعلمونا اليأس من نخوتهم عندما نسبوا إلى لسان الملحد البارد، على حد عبارة ابن عقيل الحنبلي، أبي العلاء المعري:
لقد أسمعت لو ناديت حياً
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نار نفخت بها اضاءت
ولكن أنت تنفخ في الرمادِ
أنتظر أن نكمل حوارنا ومواخاتنا بين المعتزلة وإخوان الصفاء، فلم يبق بالبصرة غير صداهما! فالمعتزلة أنزلوا العقل من عليائه، وحاولوا على أرض الواقع بدولة عدل، ليس فيها قضاء وقدر يلبسه الحاكم درعاً، فمزقت وأحرقت كتبهم بالأشعرية، وإخوان الصفا تمادوا بالحلم بدولة سماوية، محفوفة بالخير المطلق، فاستباح زادهم ابن خلدون ليكون فيه مؤسساً لعلم الاجتماع، وبارعاً في التفلسف بنشأة الكائنات والدول، وقد عزا ذلك إلى الإلهام الرباني، الذي أتاه في قلعة بني سلامة.

[email protected]