1. التفكيك وفاعلية الاختلاف

تحيل الدلالة الاصطلاحية لـ«التفكيك-Deconstruction»على فضاء دلالي واسع، يقترن بتفكيك الخطابات الفلسفية، والنُظم الفكرية، وإعادة النظر إليها بحسب عناصرها المكوِّنة والاستغراق فيها وصولاً إلى الإلمام بالبؤر الأساسية المطمورة فيها، وهو ما يفترض الحاجة إلى إجراء حفريات في تلك النظم، كما تجلّت خطابياً، وكما تشكّلت تاريخياً ومعرفياً، ويترتب على هذا، أن الدلالة الاصطلاحية لـ«التفكيك»تختلف عن دلالته اللغوية التي تحيل على التخريب والتهديم والتقويض، وينهض التفكيك على منهجية التعارض بين المكونات التي تشكل كيان الخطاب، وتركها تعمّق اختلافاتها، وتكشف تناقضاتها الداخلية، ويحذّر دريدا من تبسيط موضوع البحث، ويرى أن عدو المنهجيات الحديثة، ومنها التفكيك هو: التبسيط والاختزال، وهذا على أية حال، ما يوحي بغموض الحفريات التي يجريها دريدا، ويعبّر عن الأمر، مؤكداً، إنه من أجل تلمّس فعل المخيّلة الخلاقة، بأكثر ما يمكن، ينبغي العناية بما هو غير مرئي من الحرية الشعرية، ويفترض هذا الأمر؛ الانفصال وصولاً للاتصال الخفي بالأثر في عتمته الحالكة.
إن تجربة مثل هذه، تهدف إلى تنظيم الفعالية الأدبية، على مستوى الكتابة والقراءة، مشكّلة على نحو خاص، لا تستطيع فيها مفردات الانفصال والنفي - وهي ما يفترض أنها دالة على الانقطاع، وعدم التواصل ضمن العالم - أن توضّحها بصورة كافية، ما تستطيعه هو الإشارة إليها حسب، بوساطة الاستعارة التي ينتظم حولها نظام التفكير، لأن الأمر ما هو إلا مغادرة العالم، تجاه مكان لا يشكل موضعاً ولا عالماً آخر، ولا يوتوبياً، إنه، في حقيقة الأمر، تخليق كون، يضاف إلى هذا الكون(1). يكشف هذا، أن التفكيك، لا يحاول الاقتراب إلى الخطاب، إلا بوصفه نظاماً غير منجز، إلا في مستوى كونه ملفوظاً، هو بعبارة أخرى، تمظهر خطّي قوامه سيل من الدوال. وهو ينتج باستمرار، ولا يتوقف أبداً، حتى لو اختفى كاتبه، وهذا ما يفسّر عناية التفكيك بالكتابة دون الكلام، لانطوائها على صيرورة البقاء بغياب المنتج الأول، وهو ما يتعذّر بالنسبة للكلام. لقد أفضى ذلك، إلى اشتغال التفكيك على ثنائية الحضور والغياب، استناداً إلى فهم جدلي للعلاقة بين هذين المستويين في الخطاب، إن الحضور رهينة مرئية وما الغياب إلا ظلالها الكثيفة الغائرة في محيط مضطرب واسع لا قاع له ولا شواطئ، وهذا المحيط، هو المدلول المنفتح أبداً بفعل القراءة. على وفق هذه الرؤية، يؤسس التفكيك موقفه تجاه الخطاب، هادفاً إلى تحرير عمل المخيلة من ناحية، وافتضاض آفاق جديدة للعملية الإبداعية من ناحية أخرى. إنها سلطة من نوع خاص، كونها تولي القراءة النقدية كثيراً من اهتمامها(2). وهي بذلك تقف على الجانب الآخر المواجه للمنهجيات التاريخية والاجتماعية والنفسية والبنيوية الوصفية التي جعلت النموذج اللغوي موجهاً لعملها في الوصف والتحليل.
وجَّه دريدا، نقداً جوهرياً إلى المقولات الفكرية التقليدية، وسعى جاهداً لقهر التقسيم التقليدي بين الخطاب الفلسفي والخطاب الجمالي، وتستند رؤيته في هذا الأمر إلى كشفه: إن الحضارة الغربية نهضت حول العقل والمنطق، وكانا معياراً حاسماً لتقويم أهمية كل شيء وأصالته، ويجترح دريدا إحدى مقولاته الأساسية للتعبير عن ذلك. وهي «التمركِّز حول العقل - Logocentrism»، وتتحدد استراتيجية هذه المقولة في البرنامج التفكيكي الهادف إلى نقد سلطة العقل والمنطق في الفلسفة الغربية، إلى فحص الميتافيزيقيا التي تبطل جميع المعاني التي لا تتطابق والنماذج العقلية المتصورة، وعلى الضد مما تذهب إليه الميتافيزيقا الغربية في تجلياتها الفكرية والمعرفية، يدعو دريدا إلى دور حر للغة، بوصفها متوالية لانهائية من اختلافات المعنى، ولا يمكنه تقرير أرجحية أمر، إلا استناداً إلى قرائن تعوّمها القراءة الحفرية. إذ لا معنى يظل حبيس دوالّه، ويُفسر على أنه ذو مغزى محدد بصورة نهائية. المعاني تنتجها القراءة، قادته توصلاته هذه، إلى توجيه نقد قاسٍ إلى نظام الفكر الغربي، كما تشكّل معرفياً، ابتداءاً من سقراط وأفلاطون وأرسطو، ومروراً بديكارت وكانت، ووصولاً إلى معلميه المباشرين، هيدغر وهوسرل، رغم أنه يقرر، بأنهما، كانا مؤثرين في مشروعه النقدي، ويؤكد أن علاقته بهيدغر خاصة، لا تتمثل في الجانب المنهجي، إنما في المفهوم المشترك للوجود، وبالذات مقولة هيدغر في أنطولوجيا الحضور ونقد الأفلاطونية، وقضية العلاقة بين اللغة والوجود(3).
تعد مقولة«الاختلاف-Differance»إحدى المرتكزات الأساسية لمنهجية التفكيك، والوقوف عليها، إنما يكشف عن جزء مهم من استراتيجية التفكيك في مقارباته المنهجية والتأويلية. حدد دريدا مفهومه لـ«الاختلاف» في كتابه «الكلام والظاهرة». وقبل الاقتراب إلى فعالية هذه المقولة في منهجية التفكيك، يلزم تقصّي دلالاتها، وكشف جذورها المهجنة من عدد من المفردات، فذلك، إنما يكشف عن جزء من عناية التفكيك بما هو غير يقيني، والدعوة الملحّة للدخول في شباك الاحتمالات الكثيرة. يمكن تأشير الدلالة المعجمية لـ«الاختلاف» كما وردت في كتابات دريدا، بأنها نسيج دلالي متعدد، هضم فيه دلالات مجموعة من المفردات فثمة todiffer ويدل على المغايرة والاختلاف وعدم التشابه في الشكل، وto defer وهي مفردة لاتينية توحي بالتشتت والتفرق وTo defer ويدل على التأجيل والتأخير والإرجاء والتعويق. واضح أن المغايرة والانتشار والتمدد والتفرق خواص لأشياء مكانية ترتبط بالفضاء والحيز. بينما يكون الإرجاء والتأجيل والتأخير مرتبطاً بالزمان. مقولة «الاختلاف» هي نسيج متشابك من جميع الدلالات التي ذكرت، وإذا كان «الاختلاف» متعدداً في مستوياته الدلالية، تتنازعه خصائص مكانية وزمانية وصوتية، فإنه في التفكيك بوصفه مصطلحاً إجرائياً، إنما يحيل على الاختلاف المرجأ أبداً، هو الاختلاف الذي يحرر المتلقي من استحضار المرجع المحدد، ويترك له حرية استحضار أو تعويم مرجع خاص به، وذلك لوجود اختلاف بين الدال والمدلول، والمدلول والمرجع. وإذا كانت العلامة، التي هي صوت في الكلام، تشير فقط إلى فكرة الشيء، بينما يبقى حضور المرجع مستحيلاً، بسبب من غيابه في اللحظة الآنية. فكيف بإحضار موضوع المرجع؟ ومن هنا يبدأ إرجاء المرجع في النظام اللغوي وتأجيله مع استمرار الكلام، كما هو الأمر في الدلالات التي تحتشد تحت مصطلح «الاختلاف». فهل دلالته هي عدم التشابه أم التفرّق والتبدد، أم التأخير والأرجاء والتواني، وكيف يمكن التيقن أن differance هي difference بغير الكتابة. والحرف a في الكلمة الأولى لا يلفظ في الفرنسية. من هنا تنشأ مشكلة الحضور والغياب، حضور الدال. وتعدد مدلولاته، وغياب بعضها.
نخلص إلى أن «الاختلاف»، يحيل على تعارض دلالات مكونات الكلام ليس بناء على خصائصها الذاتية، إنما بناء على الاختلافات فيما بينها. إن المكوّن الكلامي يُعرّف، بأنه يختلف عن غيره، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، هنالك المتوالية المؤجلة من سلسلة العلاقات اللانهائية. وكل هذا يفسر لم يرفض دريدا نفسه أن يحدد الدلالة الاصطلاحية الدقيقة، للاختلاف، فهو يؤكد انه ليس كلمة ولا مفهوماً، إنّه: الإزاحة التي تصبح بواسطتها اللغة أو الشفرة، أو أي نظام مرجعي عام، ينطوي على ميزة تاريخية؛ عبارة عن بنية من الاختلافات ويحاول "لتش"أن ينغمر في موحيات «الاختلاف» فيؤكد، انه عندما نستخدم العلامات، فإن حضور المرجع والمدلول، يرتبط بالحضور الذاتي للدال، الذي يحضر لنا حال الوهم والمخادعة والضلال على نحو مفاجئ، ليس ثمة حضور مادي للعلامة، ما يوجد هو لعبة الاختلاف حسب. فالاختلاف ينتهك العلامة، ويجتاحها محولاً عملياتها إلى أثر. وليس حضوراً ذاتياً لها(4).
وإذا كانت اللغة سلسلة لا متناهية من المفردات التي ليس لها أصول بمعزل عن سياق اللغة، فإن الكلمات تتميز باختلاف كل منها عن الأخرى. وهذا يُفضي إلى نتيجة، غاية في الأهمية، في استراتيجية عمل التفكيك، الذي يستميت من أجل المغيب، وطرائق تعويمه. إذ طبقاً لذلك، يكون كل معنى مؤجلاً بشكل لانهائي، وكل كلمة تقود إلى غيرها في النظام الدلالي اللغوي. دون التمكن من الوقوف النهائي على معنى محدد واضح الآن. إن ما دفع دريدا إلى ذلك، هو الحد من فكرة الحضور، فالمتلقي يبحث عن مدلول محدد، لأنه واقع تحت سطوة فكرة الحضور، بل خاضع لها، ولهذا، فإن ما يهدف إلى تحقيقه دريدا، هو أن يكون الخطاب، والخطاب الأدبي خاصة، تياراً غير متناهٍ من الدوال، وبوساطة الكلمات فقط، يمكن الإشارة إلى كلمة ما دون أخرى. وهذا يفضي إلى توالد مستمرٍ للمعاني، لا بسبب من تقرير دلالاتها، بل من اختلافاتها المتواصلة مع المعاني الأخرى، ولما كانت هذه المعاني لا تعرف الثبات والاستقرار، فإنها تبقى مؤجّلة ضمن نظام الاختلاف، وتظل محكومة، بحركة حرة أفقية وعمودية، دونما توقع نهاية محددة لها. دلالة «الاختلاف»، تنتظم حول قطبين دلاليين أساسيين، هما: «الاختلاف» و«التأجيل»، فضلاً عن أقطاب ثانوية تجاورهما، لكن هذين القطبين لا يؤسسان لفكرة التوازي في منهج التفكيك، كونه يهدف إلى تقويض الثنائيات التي أرستها الميتافيزيقيا. ولهذا، فإن دريدا يصرّ على ضم جميع المحاور الدلالية التي تتنازع مقولة «الاختلاف»، جاعلاً منها مركز استقطاب دلالي يرشحُ بدلالات قارة وحافة في آن واحد.
يؤسس دريدا، بوساطة «الاختلاف» رؤيته لمعضلة الحضور والغياب، ويدير نقاشاً ذا مستويات متعددة في اللغة والفلسفة، فالمعاني كما يرى تتحقق من اختلافها المتواصل في عملية الكتابة والقراءة من غيرها، وتبدأ مستويات الحضور والغياب بالجدل ضمن أفق الاختلاف، بحيث يصبح الاختلاف هدفاً بذاته، فالأمر يتطلب حضور العلاقة المرئية التي توفرها الكتابة التي تمدّ العلامات بقوة تكرارية ضمن الزمان، وكل هذا يشحن الدوال ببدائل لانهائية من المدلولات. مما يثبت أن هدف الكلام وغايته، بوصفه حضوراً ذاتياً ينتج بوساطة أثر الزمان في الكتابة. وهو يقوم من ناحية ثانية بتقويض الحضور الذاتي، وهذا يكشف، أن ثمة بناءً وهدماً متواصلين، من أجل بلوغ تخوم المعنى. يذهب دريدا إلى أن الاختلاف هو عمل الكلام الداخلي، فالكلام المنطوق يتشكل من الاختلاف المستمر بين الكلمة المنطوقة التي تتجزأ عادة إلى دال صوتي ومدلول، وبين سلسلة المفردات التي ينتظمها الحديث. وذلك إلى ما لا نهاية، تبعاً لما كان قرره سوسير من أن النظام الذاتي الكلام، ينهض على الاختلاف بين العلامات، أكثر مما ينهض على حشد وحدات المعنى. فالعلامة لا تدل على شيء بذاتها، إنما باختلافها عن العلامات الأخرى. وهذه الإمكانية لا تتحقق إلا بوساطة الكلام، بوصفه حضوراً ذاتياً مباشراً يلعب دوراً رئيساً في الحقل الدلالي.
هذه الوظيفة للاختلاف في برنامج التفكيك، هي التي قادت دريدا إلى تقديم تصوره لـ«الكتابة البدئية - Archi-writing وهي نمط من الكتابة سابق للكتابة نفسها. أي ذات ميزة قبلية، تكون أنموذجاً متصوراً للكتابة نفسها، فهي قائمة على المعرفة بالحاجة إليها، قبل حصول المواضعة حولها. الكتابة البدئية، لا يمكن تعريفها موضوعياً، لأنها غير قابلة للاستقراء والوصف، لكنها حسب دريدا كل شيء، إنها الوسيلة التي لا تدع لنفسها، أن تنتج غير شكل الحضور. وغالباً ما تكون أنظمتها موضوعية بالنسبة لموضوعها، وبالنسبة لكل أشكال المعرفة الأخرى(5).ويمكن أن يصطلح عليها بـ«اللسانيات غير المتمركزة عقلياً-anon Logocentric Linguistics».وهكذا يتكشف أن التشدد في التركيز على أهمية الاختلاف، قاد إلى تعميم استراتيجية هذه المقولة الفعالة بوصفها وسيلة حفر في بنية الخطابات الفلسفية والأدبية. وحققت منجزها الأكبر في محاولتها تقويض المرتكز الفكرية للثنائيات المعروفة، مثل: الروح والجسد، الخير والشر، الشكل والمعنى، الاستعاري والواقعي، الإيجابي والسلبي… إلخ. وذلك لقلب التصور الذهني الذي أرسته الميتافيزيقيا الغربية. واستبدال ذلك بمقولات تحتمل التعدد الدلالي مثل" Pharmakon" الذي يعني السم والدواء معاً و"marge" الذي يحيل على الهامش والعلامة والمسيرة صوتياً، وغير ذلك، مما يحتمل ولا يقرر أمراً محدداً. ولما كان الاختلاف خصيصة لغوية، فهو حسب دريدا نفسه لا يعود لا إلى التاريخ ولا إلى البنية(6).
لا يمكن عدّ دريدا فيلسوفاً، بالمعنى المتعارف عليه، كما لا يعد ناقداً، ما تنطبق عليه حقاً، هي كلمة «قارئ» ولكنه قارئ مسلَّح برؤية جديدة، وتتميز كتاباته بخصوصيتها بين جيله مثل ريكور وكرستيفا وسولير وهارتمن ودي مان وغيرهم، ويستحيل موضوعياً تصنيف نصوصه على وفق الأسس التي تعتمد عليها نظرية الأجناس الأدبية. فهي في الوقت الذي تستظل في فيء الفلسفة، لا تبرح تلقي أسئلة عميقة عن اللغة والإبداع والمعنى والهوية، وتتناص مع خطابات قديمة، تمتد من أفلاطون إلى هوسر وهيدغر، وتبدو من هذه الناحية، أنها معنية بالتاريخ المعرفي للفكر الفلسفي(7). عنايته بالفكر الفلسفي، وأبرز كشوفاته المعرفية، جعلت هذا الفكر، أحد أبرز مصادر ثقافته، فضلاً عن الكشوفات اللسانية والبنيوية، وهو ما جعله يخطو باتجاهات ما بعد البنيوية خطوة متقدمة، ولكنها لن تكون الأخيرة، بسبب من جدل المنهجيات. ويمكن التأكيد أن دريدا قد وظّف منهجياً كثيراً من الجهود المنهجية للمعنيين بالمنهجيات اللسانية، وأضاف إليها، جهده وحفرياته وتصوره للهرم الفلسفي الغربي. الذي ربما لم يُعن به إلا قلة قليلة من جيله، مثل ريكور وهابرماز، تلك العناية المباشرة التي ميزته عن غيره. وجعلته ينهض بمهمة تدشين مشروعه في تفكيك بنية الفكر الغربي، مستعيناً بالوسائل المنهجية القادرة على كشف تناقضات تلك البنية، وتركها تكشف عن تناقضاتها بنفسها، معتمداً على شبكة مقولاته الأساسية، ومنها «الاختلاف» الذي يمارس من خلاله نقداً لمطابقات الفكر الغربي ونزعته التمركزية.


2. نقد التمركز حول العقل
يتجه نقد دريدا للمركزية الغربية ناحية الأسس والركائز العقلية التي أفضت إليها، ولما كانت تلك الأسس تتمحور حول فكرتين أساسيتين هما: التمركز حول العقل وفكرة الحضور، فإن برنامج دريدا النقدي يتمحور حول هاتين الفكرتين الفاعلتين في خارطة الميتافيزيقيا الغربية، فهو يطمح إلى تفكيك كل المراكز الدلالية، وبؤر المعاني التي تشكلت حولهما، فالممارسة الفكرية حول «اللوغوس» أنتجت تمركزاً عقلياً صلباً جداً أقصى كل ممارسة فكرية لا تمتثل لشروطه، لأنه ربط بينه ومعنى الحقيقة، وأنتج نظاماً مغلقاً من التفكير. أما فكرة الحضور فإنها تستأثر باهتمام دريدا النقدي لأنها تواكب اللوغوس، وتمثل مبدأً راسخاً مفاده أن الموجود يتجلى بوصفه حضوراً، أي أن الوجود(= الكائن) يتمظهر حضوره في الأشياء. وفي هذا الصدد يؤكد هيدغر على إن التاريخ الغربي منذ بدايته، وعلى امتداده، ظل يبرهن على أن كينونة الكائن تتجلى بوصفها حضوراً. وهذا التجلي للكينونة على أنها حضور هو بذاته تاريخ الغرب. ذلك أن مسار تاريخ الغرب ترادف في معناه ودلالته مع فكرة الحضور، باعتبار أن ما يأتي لذاته يتجلى وينتشر بالقرب من ذاته(8).
وكثيراً ما استوقفت هيدغر هذه الظاهرة فدرس جوانبها اعتماداً على نصوص الفلسفة، وخلص من ذلك إلى أن الفلسفة الغربية تدفع إلى الأمام باستمرار فكرة أن الوجود هو الأكثر حضوراً من تلقاء نفسه، فأرسطو كان يؤكد على أن «الوجود هو ما يكون بذاته أظهر الأشياء» أي أكثر الأشياء حضوراً، على أن هذا الأمر يولد فعلاً آخر ينبغي ملاحظته لأنه يتصل هذه المرة بإدراك الإنسان، فما اعتبر بذاته أظهر الأشياء، هو الأقل ظهوراً، فالأشد ظهوراً هو الموجود الذي ندركه في كل لحظة، أي الوجود بذاته الذي يكون جلياً ظاهراً، والذي في الوقت ذاته يكون بالنسبة لنا غير ذلك. فإذا كان الأمر هكذا أي ثمة ظهور باهر للموجود من جهة واحتجاب بالغ له من جهة ثانية، فإن مردّ ذلك التناقض يكمن في قصور وعي الإنسان بوصفه وسيلة إدراك، فإبهام الوجود وانحجابه ليسا صفة كامنة فيه، إنما في عجزنا عن إدراك ذلك الحضور، وما يثير الاهتمام هو هذه المفارقة، كيف يكون أشد الأشياء حضوراً هو في الوقت نفسه أكثر الأشياء غموضاً واستغلاقاً؟ هذا التفاوت بين حقيقة الموجود وكيفية إدراكه لازم الفكر الفلسفي الغربي، وينتهي هيدغر إلى تقرير فكرته حول هذه الإشكالية: إن انتشار الوجود يشكل بذاته تاريخ الإنسان الغربي من حيث جوهره، باعتبار أن هذا الإنسان يظل في لحاظ التاريخ مأخوذاً بيده ومثبتاً في موضعه بوصفه قاطناً في إشراقة الوجود، ومساهماً في هذه الإشراقة، والوجود من حيث هو انحجاب لا ينفك عن الظهور، يدل بذاته على الماهية الإنسانية، غير أنه، على الرغم من ذلك لا يتأنسن، بل إن ماهية الإنسان تستوطن بفعل هذه الدلالة - الرابطة في نواحي الوجود وأصقاعه(9).
أثبت دريدا أن التراث الفلسفي الغربي ظل مشبعاً بفكرتي «التمركز حول العقل» و«ميتافيزيقا الحضور» وأن مذاهب الفلسفة ونظرياتها المختلفة ما هي إلا صيغ من نظام واحد هو نظام التمركز حول هذين المحورين، ومع أن دريدا يؤكد صعوبة التخلص من هذا التمركز، ألا يمكن معرفة الظروف التي فرضت هذه الظاهرة. ومع أنه لا يمكن تخيل «نهاية» للميتافيزيقا أو وضع حدٍ لها. فمن الممكن نقدها من الداخل بالتعرف إلى النظام الهرمي الذي أقامته، وربما في مرحلة لاحقة يصار إلى قلب هذه الظاهرة رأساً على عقب، فغاية النقد هنا هزّ قواعد الميتافيزيقيا التي أُنتجت ضمن أفق محدد، وربضت خلف الفكر كله، توجهه وتحدد منظوره(10). إن النظام المتماسك الذي نتج عن ممارسات التمركز المذكورة، من الصلابة بحيث يصعب تدميره مباشرة، أنه يحتاج إلى خلخلة لنظام جذوره، وتفكيك ذلك النظام الذي قد يؤدي إلى تفجيره من الداخل(11). وعلى هذا، واستناداً إلى هدف تقويض نظم الميتافيزيقيا الغربية بتعرية ركائزها، وكشف تناقضاتها، وُصِف دريدا بأنه مناهض مرير لنظم الفكر المتعالية التي يقصد منها أن تعطي لاتباعها مواقف هيمنة يطلون منها على من هم دونهم، ويحكمون عليهم طبقاً لها(12).
اتخذ نقد دريدا للميتافيزيقيا الغربية من مصطلح «التمركز حول العقل Logocentrism» وسيلة وموضوعاً له. وتتمثل كفاءة هذا المفهوم المزدوجة، أولاً في سياق فلسفة دريدا النقدية، وثانياً في التراث الفلسفي الغربي في أنه يدمج معاً مقولة «اللوغوس» بممارسة «التمركز»، وعليه فالحقل الدلالي لهذا المفهوم متشعب، ويتحدر من أصلين: مقولة فلسفية تجريدية أخذت معنى المفهوم ووظيفته، وممارسة عملية غايتها الانغلاق على نوع من التصور، وكل هذه المكونات التي دخلت في بناء Logocentrism تفيد في أن يمنح هذا المفهوم وظائف نظرية وعملية، فمن الجهة الأولى يقتضي الأمر الاقتراب إلى المفهوم وأصوله وتشكلاته في الفلسفة الغربية، ومن الجهة الثانية يقتضي الأمر كشف طبيعة التمركز بوصفه ممارسة فلسفية. وهذا الغنى الذي ينطوي عليه المفهوم يخدم غرض دريدا في نقده الهادف إلى هدم فكرة اليقين المطلق في الميتافيزيقيا، والانتقال إلى إعلان حالة تمرد على إثبات أُطرها وسكون مضمونها. لقد شخص دريدا أصول هذه الظاهرة المتمكِّنة من التفكير، فالفلسفة منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو دفعت العقل، إلى واجهة الاهتمام، وأعطته سلطة فعالة في مسار الفكر، بحيث آل في نهاية المطاف إلى مفهوم مجرد ذي قوة لا متناهية، وفي ظل هذه النزعة العقلية، أصبح القياس العقلي - المنطقي نموذجاً معيارياً تقاس في ضوئه كل النماذج الفكرية، ففرض بسبب ذلك هيمنته القصوى في مجال الفكر الفلسفي، وكان هذا كافياً بالنسبة لدريدا لأن ينصرف إلى تفكيك هذا التمركز، وذلك من خلال نقد الأصل الثابت والمتفرد بالقوة لمفهوم العقل. سعياً وراء ظهور نمط من التفكير الذي يتجاوز نسق التمركز المذكور.
لاحظ دريدا أن الميتافيزيقيا الغربية تمنح الكلام أفضلية على الكتابة، فهي تعطي امتيازاً خاصاً للكلمة المنطوقة، لأنها تجسد حضور المتكلم وقت صدور القول، وتلزم متلقياً، فليس ثمة فاصل زماني أو مكاني بينهما، فالمتكلم يستمع في الوقت الذي يتكلم فيه، وهو ما يفعله المتلقي في الوقت ذاته. إن سمة المباشرة في فعل الكلام تعطي قوة خاصة في أن المتكلم يعرف ما يعني، ويعني ما يقول، ويقول ما يعني، ويعرف ما يقول، وهو قادر، فضلاً عن ذلك على معرفة فيما إذا كان الفهم تحقق فعلاً أم لم يتحقق. فصورة الحضور الذاتي المباشر للحقيقة التي يفرض الكلام وجودها في الممارسة الفكرية، تتصل مباشرة بالحقيقة التداولية للألفاظ ودلالاتها لحظة النطق في ممارسة حية ومباشرة وآنية. وهذه الخاصة ظلت إحدى الشواغل المحورية في الميتافيزيقيا الغربية، ومن ورائها الثقافة الغربية، وعلى النقيض من ذلك، فإن الكتابة لم تستأثر بالاهتمام، لأنها بوسائلها وآلياتها، لا يمكن أن تتداول الحقيقة الحية المباشرة، ولهذا عُدّت نشاطاً من الدرجة الثانية، فالكاتب يضع أفكاره على الورق، فاصلاً إياها عن نفسه المتضمنة للحقيقة، وجاعلاً منها شيئاً جامداً يمكن أن يقرأ من شخص آخر بعيد، لا تربطه به صلة زمانية أو مكانية، ولا يربطها سياق مشترك، وهذا قد يفتح الباب لمزيد من سوء الفهم، بسبب الاحتمالات المترتبة على مسارات التلقي الخاصة بالقراءة، وفي ضوء هذا المنظور، وتبعاً لفروضه، أعلت الميتافيزيقيا الغربية من شأن الكلام على حساب الكتابة، ومن هنا ظهرت المفاضلة بينها، والاختلاف المتأصل في الكفر الغربي بشأنها(13).
وقد دُعم هذا الاتجاه دينياً، فحضور «اللوغوس» في «العهد الجديد» على أنه «كلمة» منح المفهوم قدراً كثيفاً من الحضور «في البدء كانت الكلمة»، فلكون «الكلمة» أصل الأشياء جميعاً، فإنها توقع وتذيل على حضور العالم، فكل شيء هو معلول هذه العلة، مع أن «الكتاب المقدس» مكتوب، فإن كلمة الله منطوقة في الأساس. وتبدو الكلمة المنطوقة، الصادرة من الجسد الحي أقرب إلى الفكر المولد من الكلمة المكتوبة. ويرى دريدا أن تفضيل الكلام على الكتابة، وهو ما يصطلحُ عليه يسميه: التمركز حول الصوت phonocentrism، إنما هو سمة كلاسيكية من سمات التـمركز حـول العقل(14). وعلى هذا، فإن الإعلاء من شأن الكلام على حساب الكتابة كان أكثر العوامل التي دفعت فكرة التمركز حول العقل إلى البروز والاستبداد والهيمنة في تاريخ الفكر الغربي. ويتقصى دريدا هذه الظاهرة، فيرجعها إلى أفلاطون الذي يرى أن الحقيقة ما هي إلا حوار الروح الصامت مع نفسها، وهذا التصور يدعم، كما هو واضح، أمر حضور الكلام النفسي، فالحقيقة هنا هي المباشرة الصريحة للنفس، وأكثر تجليات هذه الفكرة حضوراً هو: الحوار بين متحدثين يجمعهما زمان ومكان، وعن هذا الأصل الذي يمثله الحوار الداخلي، نشأت فكرة الحوار الصائت بين متحاورين خاضعين للشروط الزمانية المكانية(= وجدت هذه الفكرة أفضل تجل فعلي لها في المحاورات الأفلاطونية). فأفلاطون حاول في محاوراته محاكاة هذا الضرب من نظام الإرسال والتلقي، مفترضاً ثنائية(المرسل والمتلقي) التي تنظم الفعل الاتصالي، وهي في الغالب سقراط بوصفه مرسلاً، ومجموعة من المتلقين/المحاورين الذين يتغيرون حسب المقام والحاجة التي يريدها أفلاطون. وتمسك أفلاطون بأسلوب المباشرة الحوارية، واعتقاده بأنه الأسلوب الأمثل في التعبير عن الحقيقة أدّى إلى معالجة موضوع الكتابة بشبهة كبيرة.
يسعى دريدا إلى استبدال ذلك التصور، مؤكداً أن الكتابة تكشف عن تغريب المعنى، ذلك أن نقش المعنى بواسطة العلامة يهبه استقلالاً وحرية عن صاحبه الأصلي، وهذا يمنحه إمكانات كبيرة في التفسير والتأويل. هذا التغريب أو الإبعاد في المعنى يتوضح حينما تستمر العلامة المكتوبة في توليد أبعادها الدلالية المتجددة في غياب مؤلفها الأصلي. إن ما يطالب به دريدا، ليس فقط حل هذا الإشكال المستعصي فيما يخص قضية الكلام والكتابة في الخطاب الفلسفي الغربي، إنما يطالب أيضاً بضرورة قلب ذلك النظام، لتفريغ شحنة التمركز حول العقل في الفلسفة، فهذا القلب، وإعطاء أولوية للكتابة على الكلام سيفتح الأفق أمام الخطاب الفلسفي المتموّج بدلالاته بعيداً عن الاصطدام ببؤر التمركز، فإذا ما نجح مشروع تفكيك التمركز، القائم على تمركز الصوت، وثم الكلام، فإن ذلك معناه انهيار نظم الميتافيزيقيا التقليدية وكل تمركزاتها، وظهور خطاب فلسفي لا تمركز فيه، ولا تفاضل، ولا مصادرة، موجَّه إلى الجميع في كل زمان وفي كل مكان. إن الخلخلة التي يحاول دريدا أن يبثها في قلب الخطاب الفلسفي الغربي، تمس قواعده الأساسية، وآلياته المحورية التي يقوم عليها، وذلك بقدر ما يقوم أي خطاب عقلاني - مثالي على نوع من المركزية حول الصوت من جهة، وعلى نموذج عقلي - لغوي ضمني أو قبلي يوجهه، ويرسم له أطره وحدوده التي لا يستطيع تجاوزها من جهة أخرى.
ولا شك في أنه يربط بين التمركز الصوتي والتمركز العقلي في الفكر الغربي، لأن ذلك الفكر، وأبرز ما فيه الخطاب الفلسفي لم ينشأ ولم يتبلور عند اليونانيين القدماء إلا بقيام اللغة الصوتية التي تعتمد على النظام الأبجدي في الكتابة، ولأن الفكر الميتافيزيقي المجرد لم يستطع أن يتألف إلا بالقدر الذي أتاحته له اللغة الصوتية من تجاوز للصور المادية المباشرة التي كانت تتم بواسطتها أنماط الكتابات السابقة على النظام الأبجدي. وعلى هذا فإن نقد الأسس الصوتية للخطاب الفلسفي الغربي، وإبراز وظائفه الأيديولوجية الكامنة، عملية لا تتم عند دريدا من غير إضفاء أهمية على المكونات الكتابية للفكر، وهو الأمر الذي يدفعه إلى محاولة تأسيس نوع من الكتابية(= الغـراماتولوجيا) الجـذرية(15).
وظّف دريدا معرفته بنظم الفلسفة الغربية، مستعيناً بمفهوم «التمركز حول العقل»(16) للتقدم في نقده الشامل لتلك النظم، ولجأ أولاً إلى تجزئة موضوعاته. بدأ من الألفاظ والفرضيات الأساسية، ثم انتقل إلى تعرية الأنساق، وكشف الحجج التناقضية التي تنطوي عليها الألفاظ والفرضيات، ثم في مرحلة أخرى توغل إلى صلب موضوعه، إلا وهو تفكيك النظم الكبرى للفكر الفلسفي منطلقاً من أفلاطون وأرسطو، ماراً بديكارت وروسو وفرويد، ثم منتهياً بالفلاسفة المعاصرين مثل هوسرل وهيدغر. ولقد قاده استقراؤه إلى هدم الزعم القائل بوجود معنى موحد له هوية متطابقة مع ذاتها، فعمله الذي هدف منذ البداية إلى كشف التعارض في الأنساق الفلسفية أظهر له وجود تضادٍ جوهري في صميم النظم التي تدَّعي التطابق الذاتي والهوية الموحدة، ودفعه هذا الكشف إلى إجراء منهجي، هو ما صار يعرف بـ«التفكيك» وهو التموضع داخل الظاهرة الفكرية المدروسة، ثم توجيه ضربات متعاقبة لها من الداخل، ويمكن التعبير عن هذه الممارسة المنهجية بالصيغة الإجرائية الآتية: أولاً: ضرورة معرفة النظم الداخلية للميتافيزيقيا، والاندماج في مقولاتها، ومعرفة الأبعاد والغايات والمقاصد التي تستخدم فيها، وثانياً: الانفصال الرمزي عنها ومواجهتها بأسئلة مشتقة من سياقها الفكري، بما يظهر عجز تلك الميتافيزيقيا عن تقديم أجوبة حقيقية عن الأسئلة المثارة، الأمر الذي يفضح قصورها، ويكشف تناقضاتها الداخلية. إن ما يصطلح عليه دريدا بـ«التفكيك» بوصفه منهجاً تتكشف فعاليته، إذا مورس كما ينبغي أن يمارس، في قوة تماهيه مع موضوعه، بما يمنحه إمكانية أن يكون منفصلاً ومتصلاً في آن واحد. إمكانية الانفصال تضع الموضوع في دائرة السؤال النقدي، ومعالجته نقدياً عبر المسافة المطلوبة في كل ممارسة نقدية حقيقية بين الباحث وموضوع البحث، وإمكانية الاتصال تجعل ذلك المنهج يقارب موضوعه وقد تشبع بالشبكة الداخلية للمفاهيم والمقولات الخاصة بذلك الموضوع، بما يعوّم كل التعارضات الخادعة التي تنتظم في الإطار العام الذي يتكون فيه الموضوع. كانت الميتافيزيقيا تصرُّ على اعتبار الوجود حضوراً متعالياً، وبمواجهة قلعة الميتافيزيقيا الحصينة ومقولاتها الراسخة استعان دريدا بمقولات القراءة والاختلاف والأثر، واستخدمها من أجل تبديد التمركز الدلالي حول العقل، وفيما كان الموروث الفلسفي ينتج الحقائق على أنها مستودع للحضور، ذهب دريدا، إلى أن التفسير ليس غايته تثبيت أوضاع قارة، إنما فتح الأفق أمام مزيد من الاحتمالات، وهذا يعني توسيع فضاءات التفسير والوصول به إلى مناطق لم تستكشف بعد(17).
بحث دريدا في الحقول المعرفية التي رتبت أوضاعها في ضوء سلطة التمركز، وجعلها موضوعات للبحث، وفي الوقت الذي كشف فيه عن بؤر التمركز في تلك الحقول، عمل على نقد مظاهر التمركز فيها، وهنا اقتضاه الأمر مزيداً من الحفر في البنيات الداخلية لتلك الحقول من أجل حصر مظاهر التمركز أولاً، والعمل على هزّ البؤر المتمركزة ثانياً. ومن أبرز الحقول التي كانت ميداناً لتطبيقاته فكرة الوجود والمعرفة والجنس والتاريخ وغير ذلك. وقد عالجها مشخصاً في تضاعيفها كل ما يتصل بالتمركز الذي يمنح فكرة ما أولية وأسبقية على غيرها، وهذا بدوره يؤدي إلى إقصاء جزء كبير من الفكرة التي ينبغي أن تتصف بالشمول. وأهم ما شخَّصه دريدا في هذا المضمار:
1. الأولية الإبستمولوجية Epistemological primacy
ويقصد بها دريدا عدّ العقل والإدراك الحسي مركزاً للحضور، وهذا وهم أشاعته فكرة التمركز. ذلك أن العقل والحس ليسا معطيين قارين قديمين إنما هما يتشكلان من خلال ارتباطهما بالحقيقة، فليس ثمة وعي قبلي، إنما هو نتاج يتولد من مقاربة الفكر للموضوع.
2. الأولية التاريخية Chronological primacy.
وفي هذه الأولية يعثر دريدا على أساس التمركز حول الصوت، فالتمركز هنا يعبر عن نفسه بواسطة النظم الميتافيزيقية استناداً إلى أن الزمن مطّرد في تقدمه من الماضي إلى المستقبل، وحينما نقّب دريدا في هذا الحقل الشامل المتصل بالزمن وجد أن التمركز يتجلى في ظواهر كثيرة يمكن هنا حصر ثلاث حالات هي: التمركز الذي أشاعته الميتافيزيقيا على اعتبار أن الروح ذات بعد مثالي، وأن تجسيداتها تتم من خلال زمنية الجسد وليس من بعدها المجرد وإن الأشكال المتعالية التي تفرزها الظواهر ثابتة وأبدية، وأخيراً أن كل مقولات المطلق بوصفه خالقاً ذات حضور دائم.
3. الأولية الجنسية Sexual primacy
وهنا يشخِّص دريدا موضوعاً غاية في الأهمية، وذلك بكشفه ما يمكن الاصطلاح عليه بـ«التمركز حول القضيب phallogocentric»، فقد رصد هيمنة الشخصية الذكورية وإقصاء الشخصية الأنثوية، وكان المعيار في الإقصاء أو التكريس من خلال منح «القضيب» قوة رمزية تمنح صاحبه الأفضلية، وعلى هذا دفعت الميتافيزيقيا الرجل/الذكر إلى واجهة الاهتمام بسبب امتلاكه هذا العضو، فيما أقصيت المرأة وجرى تغييب لدورها لافتقادها إلى ذلك العضو تحديداً. وهذه التمايزات المبنية على فكرة التفاوت والمفاضلة، أدت إلى إقصاء قطاع بشري كبير، طمست إمكانية ظهور العقل والثقافة فيه، وهذا فتح الأفق على دراسة النوع الاجتماعي Gender.
4. الأولية الوجودية Antological primacy
الفكرة التي تشكل لبّ هذه الأولية هي من أكثر الموضوعات التي أثارت اهتمام دريدا، وفي هذا الحقل تحديداً تميز نقده وتفكيكه. فالميتافيزيقيا الغربية ربطت بين الوجود والحضور، فالوجود ينطوي على إمكانية حضور متحققة في كل الظواهر والأشياء، ومع أنه يتعسر إدراك ذلك الحضور إلا أن وجوده وتجلياته جعل العالم مرهوناً بذلك الحضور. ولما كان فلاسفة الاغريق، وبخاصة أفلاطون الذي منح شرعية لمثل هذه الفكرة، حينما وصف الحقيقة بأنها حوار مع النفس، وأرسطو الذي اعتبرها تفكيراً ذاتياً، فإن الميتافيزيقيا اللاحقة لم تدقق في هذه المصادرة، فأصبحت هوية الوجود هي الحضور، ومن المعروف أن هذه القضية كانت من أبرز ما انصرف دريدا إلى نقده(18).
احتل «العقل» في الميتافيزيقيا الغربية مكانة سامية، ولم يقف عند الحد المباشر لهذا المفهوم باعتباره آلة التفكير، إنما جاوزه إلى المدى الذي تحذّر منه المعرفة، وتحديداً إلى الارتفاع به إلى مفهوم تجريدي ينطوي على خبرة قبلية، وأنه القوة المنظمة للعالم، سواء كانت مفارقة له أو منبثّة فيه، وهكذا تنوعت المنظورات إليه، فقد نظر إليه بوصفه مبدأ، ثم بوصفه نظاماً متغلغلاً في الظواهر الكونية، ثم بوصفه خالقاً، وفي كل ذلك نظر إليه على أنه مفهوم يحكم العالم، وينبغي صوغ العالم على غرار معطياته الخالصة. وبهذا جعلت الممارسة الفكرية العقل هو المركز، وما العالم إلا تجليات من تجلياته اللانهائية، ودعمت الميتافيزيقيا الدينية هذا المفهوم، بإعطاء العقل بعده الإلهي، فدمجتْ فكرة «اللوغوس» و«الله». أو أنها طوَّرت ذاك إلى هذا. وتمركز التفكير كله حول قضية العقل، بحيث انحسر الاهتمام بالبعد الواقعي والفعلي للأشياء، وظل الفكر الغربي منذ بداياته الإغريقية يدفع إلى واجهة الاهتمام بهذا الموضوع، الأمر الذي أفضى إلى تمركز حول مفهوم العقل، جعل كثيراً من الفروض والإجراءات والنتائج المتصلة به على أنها حقائق ثابتة. وهذا الميدان المشبع بفكرة التمركز كان مثار اهتمام نقدي بدأه نتشه ومضى به هوسرل وهيدغر إلى مرحلة أخرى، ثم بلغ الاهتمام ذروته على يد دريدا الذي اشتق مفهوم «التمركز حول العقل» ليمارس به وفيه نقده القائم على قاعدة تفكيك النظم الداخلية للظواهر الفكرية الأمر الذي يفضي إلى انهيارها.


3. الغراماتولوجيا ونقد التمركز حول الصوت
اقتضت ممارسة دريدا النقدية أن يتوسع في نقده ليشمل ظاهرة التمركز في أكثر من ميدان، وإن كانت جميعها ترتبت في ضوء سلطة الميتافيزيقيا، وإذا كان التمركز حول العقل كان نتيجة للتمركز حول الصوت. فإنّ هذا إنما هو جانب من جوانب التمركز، فجانبه الآخر المتصل بموضوع التمركز هو الإعلاء من شأن الكلام على حساب الكتابة. وفي هذين الموضوعين المتداخلين نجد أنّ «الصوت» أو «الكلام» هو المرجّح وحوله يتمركز الفكر أو بسببه ينشأ. وإذا كان دريدا ركّب مصطلح Logocentrism لمعالجة موضوع التمركز حول العقل فإنه يستخدم مصطلح Grammatology ليستكشف به أبعاد التمركز حول الكلام. وهذا المصطلح الذي يمكن ترجمته بـ«علم الكتابة» ذو أصول إغريقية، وهو مهجَّن من اللفظ الذي يحيل على الحرف الذي هو نقش كتابي، والممارسة الكتابية بوصفها علماً، ومع أنّ هدف دريدا هو كشف جملة الممارسات الإقصائية التي تعرضت لها الكتابة في الفكر الغربي والإعلاء من شأن الكلام. فإنّ الوجه الآخر لذلك الهدف هو التفكير جدياً بضرورة قلب ذلك التصور الذي منح أفضلية للكلام على حساب الكتابة، ومنح الأخيرة دوراً فاعلاً في خارطة التعبير الفكري، منطلقاً من وجهة نظر ترى أنّ جميع خصائص الكتابة، مثل غياب المتكلّم وغياب وعيه، تغني المعنى، ويتقدم بفكرته المناقضة للموروث الميتافيزيقي وهي بدل تصوّر الكتابة على أنها مشتق طفيلي من الكلام، فإنّ الأمر الأكثر صواباً هو اعتبار الكلام مشتق من الكتابة، هنا يفترض دريدا وجود نموذج بدئي للكتابة تفرضه الضرورة. فالكتابة تقليد قديم يعبر عنه بصور حسية مرئية وصورية، ولا يمكن أن تخلو الطبيعة من ممارسة كتابة من نوع ما.
ظهر اهتمام دريدا بهذا الموضوع في خضمّ العناية الحديثة بموضوع الكتابة وأصولها ووظائفها. وكان تودروف ذهب إلى أنّ لمصطلح الكتابة معنيين. فالمعنى المباشر، والضيّق يقصد منه «النظام المنقوش للغة المدوَّنة». أما الدلالة العامة فهي تحيل على «كل نظام مكاني ودلالي مرئي»(19). وهنا يتضح أنّ الدلالة العامة لا تقرن الكتابة أبداً بموضوع نقش اللغة أو تدوينها. إنها توسع الأفق الدلالي للمصطلح، فيشمل نظم التعبير المرئية باعتبار أنّ الكلام متصل بحاسة السمع، فيما الكتابة متصلة بحاسة البصر. فإذا أخذ هذا المعنى، فإن كل «أثر» مادي غير لفظي يندرج ضمن مفهوم الكتابة، ولا يخفى أنّ مفهوم «الأثر» له أهمية كبيرة في فكر دريدا. ولم يتردد في فهم موضوع الكتابة طبقاً لدلالته العامة، فدمج بسبب ذلك كثيراً من المعطيات المرئية والصورية الملازمة للإنسان في الطبيعة فجعل منها كتابة أولية تسبق الكلام لأنها تنتج نظاماً تعبيرياً لا يقوم في أسسه على الصوت. وينبغي التفريق بين الكلام واللغة والكتابة، وأن لا تصادر اللغة من أيٍّ من الكلام أو الكتابة، بوصفها نظاماً تعبيرياً دالاً بغضّ النظر عما إذا كانت تستعين بالكلام أو الكتابة. كان جوناثان كلر عرّف الكتابة بأنها الوسيلة التي تقدّم اللغة بوصفها سلسلة من العلامات المرئية التي تعمل في غياب المتكلّم(20). فهي على نقيض الكلام تتجسد عبر نظام مادي - مرئي من العلامات، فالكتابة لا تفترض حضوراً مباشراً للمتكلم، لأنّ العلامات المرئية المشكّلة على الورق أو غيره تختلف عن الأصوات المتناثرة في الهواء في أثناء التكلّم، فالأخيرة تختفي بانتهاء الحديث، ولا تمتلك خاصية البقاء إن لم تسجّل، وكل خصائص الديمومة والبقاء لصيقة الكتابة.
عبّر الفلاسفة عن كرههم للكتابة بسبب خشيتهم من قوتها في تدمير الحقيقة الفلسفية التي يرون أنها حقيقة نفسية خالصة وشفافة، ولا يعبر عنها إلاّ بالحديث الذاتي أو الحديث المباشر مع الآخرين، ولما كانت الكتابة لا تذعن لهذا التصور. فهي تجسد الحقيقة بصورة مرئية، فقد ظهر وكأنها تختزلها إلى مرتبة أقل سموّاً مما هي عليه في النفس، ذهب تصوّر الفلسفة إلى أنّ تدوين «الحقيقة» بالكتابة هو تدنيس لها. وكان سقراط يرفض رفضاً باتاً - كما يروى عنه - أن تدوّن فلسفته، لأن الحقيقة فيها لا يمكن أن يحتويها جلد أو حجر بدل النفس الزكية الطاهرة، وجاراه أفلاطون في اعتبارها بمثابة دواء له من الضرر على الذاكرة أكثر مما له من الفائدة لأنه يقود إلى النسيان، وهو موضوع عالجناه بكثير من التفصيل في الكتاب الأول، ومن المفيد الوقوف على العلاقة الملتبسة بين الكلام والكتابة لدى نخبة من المفكرين الغربييّن، قبل المضي في نقد دريدا، لأنه على أساس تفكيك نظم التمركز حول الكلام لديهم تقدم هو بمشروعه المضاد، ولما كان دريدا نفسه قد اختار أفلاطون وروسو ودي سوسير بوصفهم نماذج تجلّت لديهم تلك الإشكالية، فمن اللازم الوقوف عليهم هم. لأنهم مدار البحث والنقد معاً.
يرى أفلاطون في محاورة «فايدروس»(21) أنّ الكتابة تمارس خطراً على الذاكرة، فهي آفة لا يطمئن إليها، شأنها في ذلك شأن كل الآفات التي ينبغي الحذر منها، فإذا كان ثمة خطر يداهم الذاكرة فمصدره الكتابة، وعلى النقيض من ذلك، إذا كان ثمة سبب ينشط الذاكرة ويقوّيها ويجعلها أكثر اتّقاداً في الاحتفاظ بالحقيقة فهو الكلام، ويُرجع ذلك التناقض بين وظيفة كل من الكتابة والكلام إلى كون الأولى غريبة عن النفس، فهي شيء طارئ وخارجي ومجرد اصطلاح تقني، فيما الكلام صادر عن النفس ذاتها باعتبارها مستوطنته الأصلية، فقدرته على التعبير عن الحقيقة، مبنية على قربه من مصدر الحقيقة. وبذلك فهو يحمل طابع الحيوية الذي تتصف به النفس، أما الكتابة فهي وسيلة جامدة وميتة، ولاتصافهما بصفتي الحياة والموت، فإنّ الكلام له القدرة على التواصل مع الآخرين، والتعبير عما في النفس من حقائق لأن الحياة حاضرة فيه ومنبثة في تضاعيفه، فيما الكتابة آلة ميتة ومنقطعة عن النفس. الكلام وحده القادر على تداول الحقيقة والتفاعل معها، أما الكتابة فعاجزة عن كل هذا لأسباب كامنة فيها، أنها شيء لا حياة فيه. وبهذا فهي عاجزة عن الإفصاح عمّا تدّعي حمله، وتنطوي عليه، في حين أنّ الكلام هو وسيلة الإفصاح عمّا يريد الإفصاح عنه، إلى ذلك، فإنّ الكتابة تثبّت وضعاً جامداً للمعنى لأنها تقوم بذلك بمعزل عن النسق الحيوي الذي يفترضه الكلام المعبّر عن الحقيقة والذي يلزم حضور المتكلمين: المتحدّث والمتلقي، فضلاً عن ذلك فالكتابة بسبب قصورها أشبه بكائن أعمى، غير قادرة على التعرُّف إلى من توجه الحقيقة التي ينبغي أساساً أن تصدر عن نفس طاهرة، وتتجه إلى نفس مثيلة. أنّ الكتابة لا تراعي المقام ولا تؤكد على المقاصد، وتفتقر إلى البراهين الآنية والمتجددة التي يقتضيها سياق تداول الحقائق، إنها بالإجمال شيء ميت وجامد «غير إنساني» وهي تقارب ما تهدف إليه بطريقة خاطئة، لأنها تريد أن تظهر بطريقة متعسفة وقاصرة ما يوجد داخل العقل والنفس إلى الخارج دون الأخذ بالاعتبار أن ما تريد إخراجه لا يمكن يكون إلاّ في داخل العقل والنفس.
النتيجة التي يرتبها أفلاطون على عجز الكتابة الدائم، هو أنها تتطفل على ميدان هو من اختصاص الكلام. وبذلك فمهما ادعت من قوة، فهي في المطاف الأخير محاكاة ميتة للفعل الكلامي الذي يتضمن حيوية خاصة. حيوية النفس المنطوية على الحقيقة السامية. والخلاصة التي يخلص إليها أفلاطون بصدد المقارنة/المفاضلة بين الكلام والكتابة هي: أنه إذا أمكن أن تقوم مقارنة بين الاثنين، فإنّ نتيجتها لا تختلف عن كل النتائج التي تقوم حينما تقارن بين شيء حي وشيء ميت. وفي ضوء هذه الخلاصة يقيم دريدا نقده للتصور الأفلاطوني، فيظهر أنّ أفلاطون أوجد تعارضاً لا مصالحة فيه بين الكتابة و«اللوغوس». تعارض دائم يماثل التعارض بين الشيء الظاهري والحقيقة الباطنية، وينبغي الحذر من الكتابة لأنها تخرّب النفوس، كما يخرّبها السفسطائيون. وهنا يقيم أفلاطون مقابلة بين ذاكرتين متصلتين بالكلام والكتابة. ذاكرة حسنة وذاكرة قبيحة، الذاكرة الأولى هي الذاكرة الحيّة لأنها تستمد نسغها من الداخل، من «اللوغوس» وشرعيتها متأتية من أنها تندرج في علاقة حضور مباشر مع الذات، وهذه الذاكرة تقع في تعارض مع ذاكرة خارجية ميتة، تحاكي المعرفة المطلقة، وتأخذ اسم الكتابة، ومن الأفضل الاستغناء عن هذه الذاكرة/الكتابة وعدم اللجوء إلى هذا(الفارماكون) الذي هو دواء في الظاهر، لكنه داء في الحقيقة، خطره يأتي من أنه سيؤدي إلى تعطيل فاعلية الكلام، وبذلك يقضي على الذاكرة الحسنة، ذاكرة الذات نفسها، لأنه يحجر على الذاكرة، ويسبب النسيان، فالكتابة إذن لا تحرك إلاّ الشر ولا تثير غيره(22). ويفهم تمييز دريدا بين الذاكرتين اللتين استخلصهما من خطاب أفلاطون استناداً إلى تصور أفلاطون أنّ «اللوغوس» باعتباره موطن الحقيقة ومصدرها وجامعها ما هو إلاّ «التعبير الشفهي الواضح عن الفكر بالأصوات المركبة من أفعال وأسماء بحيث يعكس هذا الإرسال الصوتي الفكر كما لو كان صورة منعكسة له في مرآة أو على صفحة الماء»(23).
اطّرد التصور الأفلاطوني في ثنايا الفكر الغربي، ووجد له تعبيراً واضحاً في منظور روسو الذي ميّز بين نوعين من الكتابة: الكتابة الحسنة والكتابة القبيحة، فالأولى تتصل بعلم النفس الإلهي وتتصل بالروح والعقل، وهي كتابة بالمعنى المجازي، لأنها «القانون الطبيعي الذي ما زال منقوشاً على قلب الإنسان بأحرف لا تمّحى فمن هنا يقوم بالنداء عليه» هذه الكتابة عند روسو مقدسة. أما الثانية فهي الكتابة التمثيلية، وهي كتابة ساقطة وثانوية ومدانة حـسب منظور روسو(24). تترتب رؤية روسو الموضوع الكلام والكتابة ضمن تصوره الطبيعي القائل بأنّ أفضل شيء هو ما يساير نظام الطبيعة ويوافقه. وفيما يخص هذا الموضوع، يميّز روسو بين ثلاث درجات من التعبير هي على التعاقب: التعبير بالإشارة والتعبير بالكلام والتعبير بالكتابة، ويذهب إلى أنّ «أبلغ اللغات هي تلك التي الإشارة فيها قد قالت كل شيء قبل الكلام»(25). فالإشارة تزيد من دقة المحاكاة، أما الصوت فيقتصر دوره على إثارة الإهتمام، والحاجة هي أملتْ أول إشارة، أما الأهواء والعواطف فهي التي انتزعت أول صوت، ولهذا كانت اللغة المجازية أول ما تولّد، أما الدلالة الحقيقية فكانت آخر ما اهتُدي إليه، ومن ثمّ فإنّ الأشياء لم تُسمَّ باسمها الحقيقي إلاّ عندما تمت رؤيتها في شكلها الحقيقي، لم يتكلّم الناس إلاّ شعراً، ولم يخطر ببالهم أن يفكروا إلاّ بعد زمن طويل(26).
يهتدي روسو في هذه النقطة بأرسطو في تأكيده الشائع: إنّ الأولين كانوا يقررون الاعتقادات في النفوس بالتخيّل الشعري(27). ويمضي روسو في تفصيل هذه الفكرة مؤكداً أنه بقدر ما تنمو الحاجات، وتتعقّد الأعمال، بقدر ما تغيّر اللغة من طابعها، فتصبح أشد معقولية، وأقل عاطفية، وتعوّض المشاعر الأفكار، وتكف عن مخاطبة العقل، ومن ثمّ بالذات تنطفئ النبرة وتتعدد المقاطع، فتصير اللغة أشد ضبطاً ووضوحاً، ولكنَّها تصير أيضاً أفتر، وأصم وأبرد، ومع أنّ روسو يقول: «لا يتبع من الكتابة فن الكلام» إلاّ أنّ الكتابة وظيفياً تقوم بمهمة تتصل بالكلام، وهنا يفصح روسو عن وجهة نظره با