حين أقامت الحكومة القطرية قناة فضائية ومنحتها الأستقلالية والحرية في الرأي والبرامج التي تقدمها دون رقيب، فأنها بالحقيقة كانت وقفة ملفتة للنظر أزاء البؤس والتردي الذي يعم الأعلام العربي في جميع وسائله المكتوبة والمرئية والمسموعة، بالنظر لارتباط تلك القنوات بالأجهزة السلطوية والدفاع عن تلك السلطات بشكل بائس وتجميل وجهها القبيح والأمتناع عن التطرق الى السلبيات ومنع الإستماع الى الرأي الآخر.
حقاً كانت بداية القناة بمثابة القفزة النوعية في مظهر الفكر العربي الذي عرفته الدنيا بعدم قبول الآخر وأضطهاد الفكر المختلف أو المتعارض وانتهاك حقوق الإنسان، وبدت القناة تتميز بطرح السلبيات التي يعاني منها الانسان العربي، وأهمها قضية الديمقراطية والحرية والقمع وحقوق الإنسان.
وحين بدات القناة تنتقد السلطات الدكتاتورية والمعادية للديمقراطية في الوطن العربي، وتشخص الظواهر السلبية في المجتمع العربي، وتفتح صدرها للمعارضين العرب الذين أغلقت بوجههم المنافذ الأعلامية، فأنها استقطبت المشاهد العربي التواق لمثل هذا الموقف والمحتاج لمثل هذه النافذة الأعلامية الرصينة ونالت احترامه ومتابعته.
وأستمرت القناة بسياستها تلك مما جعل بعض الأنظمة الشمولية والأستبدادية العربية تقوم بغلق مكاتبها وتمنع عمل مراسليها وتعمل على منع البث في أراضيها، مما زاد من تعلق المشاهد العربي والمتابع بما تبثة أو تنشره القناة المذكورة.
المطب الذي وقعت به القناة أن بعض المشرفين عليها والمسؤولين عن بعض برامجها مدوا الجسور مع السلطات القمعية في عدد من البلدان العربية على حساب سياسة القناة، وأتهمتهم الجماهير أتهامات أعلن عن بعضها وبقي بعض مخفياً وسيكشف عنه في حينه، وأستطاعت تلك السلطات بأجهزتها القوية والدقيقة والأخطبوطية أن تجعلهم يميلون كفة الميل الأعلامي في القناة لصالحهم، مما جعل العدالة مفقودة في هذا الجانب، أذ بدا الميل واضحاً بالرغم من محاولات الترقيع والرتق الذي يجريها بعض مقدمي البرامج عليها، غير أن ما جعل القناة الأعلامية الرائدة تتراجع بشكل مريع لتصبح واحدة من الأبواق العربية التي تمارس التنكيل بالفكر الآخر كما تمارس اللعبة السياسية على حساب الحقيقة.
الأسباب الحقيقية وراء تلك المواقف لم تكن الحكومة القطرية ولاالمالكين ولاالسياسة الخارجية لدولة قطر ولارغبة أي من الامراء والوزراء، كانت القناة مسيطر عليها من قبل العقليات الاسلامية المتطرفة بالتعاون مع عقليات عروبية متطرفة لها أجندتها الخاصة في الفهم السياسي أذ سيطرت هذه العقليات على حساب امكانيات ومساهمات اعلامية رزينة، وساهم في تلك الأسباب بعض الأخوة الفلسطينيين مدفوعين بعقدة العداء العربي ضد الولايات المتحدة الأمريكية بأعتبارها – وفق فهمهم – سبب المصائب وحليف دولة اسرائيل التي تحتل بلدهم وتنتهك كل الموازين والأعراف والقوانين الدولية وحقوق الأنسان، وقد التقت أهداف الجماعات التي تسيطر على القناة وفق عامل مشترك يوحده العداء الصارخ للولايات المتحدة الأمريكية، ووفقاً لهذه المعادلة فقد صار لزاماً أن تدفع القناة بأتجاه مايظهر الأحتلال الأمريكي للعراق بشكله البشع بل ويتابع كل شاردة وواردة وتوظيفها ضد الولايات المتحدة حتى لو تطلب الأمر الأصطفاف مع القوى المتطرفة والأرهابية والتعاون معها، ومن الطبيعي أن تقع في مطب الأنحياز الى جهة الطاغية العراقي وأعوانه.
فقد صارت القناة دون أن تدري الصوت الاعلامي المدافع عن سياسة الطاغية البائد صدام لتقف في الخندق الذي يقف فيه أنصاره وأعوانه ففقدت بذلك الأكثرية المطلقة من الجماهير العراقية.
وأستمر الدفع بهذا الأتجاه مع استقطاب جميع من تراهم القناة يحققون الفائدة في أيصال الصوت المعادي للأمريكان ولكن دون أن تفرز مايسيء الى العراقيين كشعب وكرغبة حقيقية في الخلاص من السلطة الظالمة والدكتاتورية.
وإزاء ذلك أستقطبت القناة جميع أزلام النظام السابق وأطلقت عليهم أوصاف وصفات لم يكن من السهل ان تنطلي على المشاهد العراقي منها ( المحلل السياسي والكاتب المعروف ورئيس الحزب الفلاني والمستشار الأعلامي ) وبدأت تكرر الوجوه التي تعرف انها تعادي العراقيين وتكره التغيير.
هذا الأمر دفع بالمراسلين الأعلاميين الذين وظفتهم القناة للسير وفق المنهج والمخطط الذي رسمته القناة وفقاً لمقولة الرئيس الجديد للقناة (( ولعوها ياشباب ))، بعد أن تم تغيير المدير السابق لافتضاح علاقته بالمخابرات العراقية وتقاضية المال من السلطة العراقية البائدة، وكذلك تبديل مراسليها المرتبطين بجهاز المخابرات العراقي وسحب نقيب المخابرات شاكر حامد الى مقر القناة.
ومن الطبيعي أن يتم أختيار المراسلين وفقاً لسياسة القناة، بل وبما يخدم التوجه السياسي، وأستفاد المراسلين من حالة الفراغ والتخبط الاعلامي وتمادوا في التطرف بمواقفهم السياسية تحت واجهة القناة الأعلامية وتحت ستار الحرية والديمقراطية، ووصل الأمر ان يتعاون عدد من المراسلين مع التنظيمات الأرهابية تحت حجج ودوافع مختلفة، وأستمر الحال بالنظر لما يجده المراسل من قبول ورضا لتطبيق عملية أشعال العراق طائفياً ووطنياً مهما كان الثمن ومهما بلغت التضحيات.
وخلال مسيرة القناة السياسية أعلنت القناة من خلال برامجها أنها وظفت جميع قنواتها الأعلامية لصالح الجانب الذي يرفض التغيير بالعراق وبالتالي فأنها تنسق بشكل علني ومكشوف مع كل التنظيمات السياسية والدينية والعروبية المتطرفة منها والعقلانية مادام القاسم المشترك الذي تعمل القناة تحت شعاره العداء للامريكان وأشعال العراق في الظرف الراهن.
تزامن كل هذا مع تبرع أمير قطر بأصطحاب زوجة الطاغية العراقي من سورية الى قطر بطائرته الخاصة وأيوائها وحمايتها، كما حدث أمر لافت للنظر يكمن في تدفق عدد من البعثيين المطلوبين قانوناً ومن اهل العراق الى الدوحة حيث تم منحهم الأقامات وأصبحت العاصمة القطرية مركزاً سياسياً ومخابراتياً لأعوان السلطة الصدامية.
وأستمرت القناة تطور نهجها المعادي للسلطات العراقية المتمثلة سواء بمجلس الحكم ( وهو مجلس مرحلي تم تشكيله من ممثلي الأحزاب والشخصيات السياسية الوطنية في العراق ) أو بعد تشكيل الحكومة المؤقتة، وتطلق القناة والبرامج التي يقدمها أقطاب التوجهات التي آشرنا اليها سلفاً تعابير يرددها الجانب المعادي للسلطة الجديدة والتغيير، يعني هذا أن القناة لم تكن واقفة على الحياد أو انها بمنأى عن التدخل في الشأن العراقي، أو انها تقوم بالتحليل والأستنتاج، وانما أصبحت ضمن طرف من أطراف القضية العراقية، ووصل الأمر ليس بالتعاطف مع الحركات ألأرهابية المسلحة، وانما تم ضبط أجهزة وهواتف تقوم القناة بتزويدها لجهات متهمة بجرائم الإرهاب ضد العراقيين.
يتميز الشعب القطري بمحبته للسلام وتطلعه للتطور الأجتماعي والأقتصادي والسياسي لدول الخليج العربي والأمارات، ويتميز الشعب القطري بعدم وجود مشاكل عرقية أو سياسية أو دينية مع الأقطار المجاورة، فقد لجأت الحكومة القطرية الى حل مشكلتها مع البحرين الى المحكمة الدولية والألتزام بقرارها، ولم تطور أي خلاف مع السعودية أو الكويت أو آيران في المنطقة، غير أن القناة بدأت تدفع بأتجاه توريط الحكومة القطرية بموقف هي في غنى عنه ولايفيدها بأي حال من الأحوال ولايمكن ان ينسجم مع السياسة العقلانية أو الرزينة والحيادية، فليس لقطر مصلحة في أن يستعيد الطاغية العراقي لسلطته الدكتاتورية مرة أخرى، كما ان قطر تعرف قبل غيرها أن هذا الامر لن يحدث مطلقاً في العراق، كما أنها تعرف أن موقفها خاسر في أحتواء البعثيين والأسلاميين المتطرفين.
أن قطر لها اتفاقية مع الولايات المتحدة الأمريكية في أيجار قاعدة السيلية لمدة 30 سنة، كما ترتبط الحكومة القطرية بأتفاقيات التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وقطر دون غيرها من تجرأ على عقد أتفاقيات تجارية مع دولة إسرائيل، كأسلوب لبدء عملية التطبيع التي ترفضها علانية العديد من السلطات وتقر بها وتعمل في السر والخفاء وتتمناها وترغب بها غيرها من الدول العربية.
ثمة من يتسائل عن حقيقة أستقلالية القناة الفضائية القطرية، وهل أن قطر حقاً لاتستطيع أن تكبح جماح القناة ؟ وتمنع أستغلالها شخصياً من قبل المجموعات العاملة فيها والذين أستغلوا الفسحة التي منحت لهم في عكس أقكارهم وميولهم السياسية والدينية الشخصية أكثر من العمل الأعلامي المحايد أو الذي يجنب الشعب القطري كل هذه الخسائر المتلاحقة ؟
ترى هل يمكن لعاقل أن يحد مصلحة للشعب القطري في معاداة الشعب العراقي والوقوف الى جانب السلطة الدكتاتورية بعد أن سقطت وعافتها كل الدنيا لتتبرع القناة بأسم قطر رافعة لواء العداء للشعب العراقي ؟ وهل يمكن لمنصف أن يرى فائدة مستقبلية للشعب القطري في تأجيج هذا الخلاف بين العراق وقطر من خلال مقولة مدير القناة السيد وضاح خنفر (( ولعوها ياشباب )) ؟ وهل حقاً أستطاعت القناة القطرية أن تولع الحياة في العراق وتشعل الحرب الطائفية ؟ ومن له المصلحة بذلك ؟ بل وماذا تريد القناة التي ورطت الشعب القطري بمواقف هو في غنى عنها.
وأذ تتساقط يوماً بعد يوم الأوراق التي راهن المشرفين على القناة عليها، ولم يحترق العراق ولم ينتصر الإرهاب ولم تقع الحرب الأهلية ولم يتقسم العراق، كما لم تصح كل التوقعات والتحليلات التي أكدتها القناة وحللها طاقمها التحليلي مما يؤكد الفشل الذريع في التخمين والتحليل والاداء، ومما يؤكد افلاس القناة من تمرير سياستها على العراق، لكن الجرح والندب الذي تركته في قلوب العراقيين عميقاً ويدفع باتجاه أن يدفع الشعب القطري النتيجة دون أن يتمكن من محاسبة المسؤولين عن القناة، ويكفي أن يكتب اهل العراق على جدران بيوتهم بالخط العريض (نكره الجزيرة)!!
فالشعب القطري شعب مسالم يسعى الى بناء حياته بشكل طبيعي ينأى عن الخلافات والدخول في دوامة الاحزاب العربية القومية أو اليسارية أو التجمعات الدينية المتطرفة، والشعب القطري ميال للبناء ولايمكن تبديد ثرواته ومستقبل أبناءه على صراعات وأفكار ليس له فيها أية مصلحة أو فائدة ترتجى، وهي تعبير عن مكنونات شخصية لبعض العاملين الذين ساقوا القناة لمصلحتهم ورغباتهم الشخصية.
وثمة من يسأل عن مقدار المكاسب التي حققتها الحكومة القطرية من وراء استمرار سياسة القناة القطرية (الجزيرة)؟ وماذا خسرت من علاقات عربية ودولية من خلال هذه السياسة ؟ وهل يمكن أن تكون القناة بالحجم الذي يجعلها تناطح الدول وترسم الأنقلابات في المنطقة؟ وهل يمكن للقناة أن تتعدى قضية الأبهار الاعلامي والتأشير على مكامن الخلل العربي، وهذه الإشارة لادور أساسي لها في التغيير. بالإضافة الى عدم تمكن القناة من الوقوف موقفاً واضحاً من الوجود الأسرائيلي والعلاقات العربية الصهيونية والتواجد الامريكي، فقد بدت مربكة وذات وجهين مما أحرجها سياسياً وأعلامياً أكثر من مرة.
ونقول ألم يحن الوقت ليلتفت عاقل في قطر لدراسة الجدوى السياسية الأعلامية من هذه القناة ؟ وألم يحن الوقت بعد لدراسة مصلحة مستقبل قطر وعلاقات الشعب القطري بالشعوب العربية وغير العربية في المنطقة ؟ وهل حقاً ان القناة تستضيف بأنصاف وتحلل أعتماداً على محللين سياسيين يعتمدون الحياد في التحليل، أم انهم يحللون وفق مزاج وأرادة مدراء القناة؟ وعلى هذا ألأساس ليس من مصلحة قطر أن تقدم أرضها وشعبها ضحية لسياسة خاسرة لاناقة لها فيها ولا جمل، إذ مامبرر أن تكون قطر في جانب أحد الأطراف المتحاربة في العراق، ويقيناً انها تقف في الجانب الخاسر.
بالتأكيد أن الحكومة القطرية تريد مصلحة شعبها، ولا يعقل أنها لا تفكر بالمستقبل وماسببته هذه القناة من خلافات لها مع أقطار عربية لاتصب في أطار المناداة بالحرية وحقوق الأنسان، ولاتعتمد قضية الديمقراطية، بل تتعدى ذلك الى قضايا هامشية تضع السياسة القطرية في تراجع ملحوظ وضمن أداء سلبي كانت أحد أسبابه ومسبباته السياسة العوراء للقناة الفضائية وماسببته من إساءة مروعة للشعب القطري.
وماذنب شعب قطر أن يحصد نتيجة هذه السياسة الأعلامية التي هي نتاج عن تنفيس عقليات لاعلاقة بها لدولة قطر ومصالحها السياسية والتجارية والإنسانية، اذ من غير المعقول أن تستمر القناة في مواقفها التي تكسب بها أعداء لشعب قطر من العراقيين وتفقد قطر بدلاً عن ان تكسب. ويقينا أن الشعب القطري والنخب الثقافية في قطر تدرك مقدار الخسارة الجسيمة التي تتحملها قطر أزاء هذه المواقف وماتدفع به القناة الأعلامية التي تريد تحقيق اغراض ذاتية وشخصية لمجموعة من العاملين بها كتنفيس عن أعتقاداتهم الفكرية والسياسية بعيداً عن مصلحة قطر المرحلية والبعيدة.
- آخر تحديث :












التعليقات