دعيت اثناء زيارتي لندن قبل اسبوعين الى لقاء عمل مع بعض الشخصيات العراقية من جماعة سياسية تسّمي نفسها " لجنة دعم الديمقراطية في العراق " ويشكلها سياسيون محترفون ومثقفون متميزون واعلاميون عراقيون يقيمون في بريطانيا ويشاركهم البعض الاخر من العراقيين ممّن ينتشرون في الشتات.. وكانت هذه اللجنة قد اصدرت في لندن يوم 17 سبتمبر المنصرم بيانا وقع عليه حوالي 120 من شخصيات العراق المعروفين بتكنوقراطيتهم العليا واستقلاليتهم السياسية. ولقد انبثقت هذه الجماعة أساسا من اجل رعاية العملية السياسية الديمقراطية في العراق الجديد من دون اي طموح الى نفوذ أو سلطة او جاه او مال او مصالح ومنافع مادية. وعليه، فهي تصّنف في العرف الليبرالي اذن من جماعات الضغط، علما بأن هناك اليوم اكثر من جماعة عراقية تنتشر في هذا العالم تخطط لاصدار بيانات سياسية او لعقد ندوات خاصة ومؤتمرات عامة لدعم عملية الديمقراطية في العراق الجديد.. لقد كان لي اكثر من لقاء مع شخصيات من هذه الجماعة في الهيلتون لندن وجرت حوارات جد مهمة على اعقاب البيان الذي اصدرته والذي تطمح من خلاله العمل على توسيع الدائرة من النشاط السياسي الفعال سواء بعقد الندوات او ممارسة الادوار على التراب الوطني العراقي خصوصا وان العراق مقبل لأول مرة بعد قرابة نصف قرن على الانتخابات العامة كجزء اساسي من العملية الديمقراطية في العراق خصوصا وفي تاريخ المنطقة كلها بشكل عام كما تؤكد وتشير كل دلالات التغيير والتحولات الجذرية.
وعليه، فأنني اعتقد بأن الايام القادمة حبلى باحداث تاريخية مؤثرة وانها ستتمخض من دون شك عن مشاركات سياسية من قبل عراقيي الخارج لدعم العملية السياسية في الدواخل العراقية قاطبة من اجل تكوين العراق الجديد وبناء مؤسساته وخلق عناصره وتطوير احزابه في القرن الواحد والعشرين. وهنا اود القول بأن الحياة العربية تتعّرف اليوم ولأول مرة على سيناريوهات العمل السياسي في اتاحة الممكنات الى حيز التنفيذ بعد ان عاشت قرابة خمسين سنة بعيدة كل البعد عن التطور الديمقراطي وعن تطور مجريات العملية السياسية.. كما يمكنني القول بأن نخب العراقيين تعرف لأول مرة نفسها متقدمة على غيرها من النخب السياسية العربية كجماعات ضغط مؤهلة سياسيا في مطلع هذا القرن لأداء مهامها من دون اي رقيب سياسي حكومي او اي رصد امني ووقائي – كما يسمونه -او متابعة جهاز مخابراتي عاتي. انني واثق كل الثقة بأن النخب السياسية العربية اليوم قاطبة لم تزل جميعها مقيدّة تقييدا محكما وليس باستطاعتها حتى وهي منتشرة في الشتات ان تعمل سياسيا بصورة علنية ونشيطة من اجل اوطانها في الدواخل. وعليه، فستكون متكتلات من الساسة والمثقفين العراقيين نموذجا فعالا في التغيير السياسي القادم ليس في العراق وحده حسب، بل سيمتد تأثيرهم على مجاميع من النخب العربية الفاعلة من اجل التغيير، وهذا لوحده كاف لأن تخشاه ليس الحكومات والادارات العربية اليوم، بل جملة من الاحزاب والتيارات السياسية وحتى التكتلات الاجتماعية والمؤسسات التقليدية القائمة حتى الان.

معنى جماعات الضغط
تتبلور جماعات الضغط Pressure Groups او انها بالاحرى جماعات المصالح العليا، وذلك من اجل ممارسة الضغط سواء على الدولة / الحكومة او على جماعات اخرى او حتى على احزاب ومنتديات.. وانشطتها علنية لا مفر منها حيث تضمن العملية الديمقراطية حرية التجمع. ولقد قدم كل من فرانك بيلي في معجم بلاكويل للعلوم السياسية ودي ترومان في كتاب " حكومات الضغط "، تصنيفا مهما لجماعات الضغط، اشهرها التقسيم بين الجماعات القطاعية التي تهتم بالمصالح المادية والجماعات الترويجية التي تهتم بالدعايات والجماعات التوليفية ، فالجماعات الاولى يشكلها الشركاء الاجتماعيون ورجال الاعمال ومنهم البنتهاميون في حين تشكل الجماعات الثانية الاعلاميون وجملة من الصحفيين ورجال الدعاية والمواقع والشعارات.. اما الجماعات الثالثة فهي التي يمثلها السياسيون والمثقفون المستقلون الذين يطمحون الى بناء توليفات البيت السياسي على اسس دستورية.
ان من ابرز انشطة جماعات الضغط في اي مكان في العالم سواء كانت في الداخل ام الخارج ممارسة استراتيجيات دائمة لتفعيل اجندة سياسية على المدى الطويل، ولكنها تمارس في الوقت نفسه عدة تكتيكات مرحلية في التسرب والتكيف في دواخل الحكومة او الاحزاب من اجل اهداف سياسية وطنية وتمارس شتى انواع الاقناع السياسي وخصوصا مع النشطاء في الاوسطا السياسية للاجتماع على اهداف معينة تتطلبها ظروف معينة، او للمشاركة في الضغط على مؤسسات بعينها من اجل تشريعات محددة او قرارات موحدة او جمع احزاب في تكتل معين او جمع تكتلات في تيار واضح.. الخ وتصلح هنا سياسة النفس الطويل وممارسات السلم والاقناع وفرص الحوار اذ لا ينفع العنف وادوات القسر.. اذ تتحول العملية برمتها الى التطرف وتفقد هذه الجماعات مكانتها في الضغط السياسي او الاقتصادي او الاعلامي او حتى الثقافي والاجتماعي..
ان الجماعات العراقية التي بدأت تمارس دورها في الضغط خليط من التصنيفات الثلاثة، اذ ظهرت اكثر من جماعة لرجال الاعمال ومنها مجلس العمل العراقي في ابو ظبي مثلا، وهناك اكثر من جماعة عراقية اعلامية تنتشر بمكوناتها في كل من اوروبا الغربية وامريكا الشمالية ويكفي ان نراقب الكم الهائل من مواقعها الالكترونية على الانترنيت.. وهناك اكثر من جماعة عراقية سياسية للضغط تنتشر ايضا في شتات هذا العالم، نذكر منها : جماعة لندن الذي اتحدث عنه اليوم، والمنظمة الوطنية للمجتمع المدني وحقوق الانسان، والجماعة السياسية التي تتبلور الان بعد عدة اجتماعات لها في دبي من اجل بناء العراق الجديد.

أهداف جماعة لندن
لقد اطلعت – كما هو الحال عند غيري من المراقبين والمحللين - على اجندة هذه " الجماعة " المتميزة بفاعليتها وحركتها وانشطتها ان من ابرز اهداف لجنة دعم الديمقراطية في العراق : اشراك كل العراقيين المقيمين في الخارج في الانتخابات القادمة واقناع العراقيين في الخارج للتصويت لصالح برنامج انتخابي ديمقراطي من اجل تأسيس دولة مدنية ديمقراطية تتحقق فيها فرص المساواة والحريات والعدالة الاجتماعية.. فضلا عن اقامة حوار واسع مع القوى السياسية في الداخل لتبّني برنامج انتخابي ديمقراطي موّحد من اجل خوض الانتخابات القادمة على اساسه. وتحاول هذه " الجماعة " ايضا ارساء اساليب وبرنامج عمل لها بعقد لقاءات وندوات للعراقيين في الشتات والاتصال بالديمقراطيين البريطانيين والبحث عن مصادر تمويل فضلا عن الاتصالات بكل العراقيين المقيمين في بريطانيا ليكونوا مشاركين في الانشطة المزمع تنفيذها، ثم العمل المشترك مع جماعات عراقية اخرى للضغط السياسي في اوروبا وامريكا والدول الاخرى من اجل التنسيق في المواقف والانشطة المشتركة والتأثير على هيئة الامم المتحدة لانجاح العملية السياسية واشراك الهيئة بالاشراف على عملية الاقتراع في الانتخابات المقبلة. ولكن ليكن معلوما بأن هذه " الجماعة " لا تمّثل كل المغتربين العراقيين المتواجدين في بريطانيا، اذ ان هناك جماعات اخرى لا تؤيد حتى بناء العراق الجديد وحججها في ذلك متنوعة فهي اما تنطلق ضد اي انشطة سياسية بحجة وجود الاحتلال ومن منطلقات قومية او دينية او طائفية او كما تسميها بالاسباب الوطنية !

التطلعات نحو المستقبل
لقد تفّرعت عن جماعة لندن لجان اتصال وعلاقات واعلام لممارسة انشطتها في الضغط السياسي على كل من الحكومة والاحزاب لخلق مناخ سياسي ملائم لتطوير الاساليب السياسية والاهداف المدنية في مشروع العراق الديمقراطي الجديد الذي يتفق عليه معظم العراقيين وخصوصا في بناء المجتمع المدني. لقد اتفق العشرات من الشخصيات العراقية الناشطة بضرورة تأسيس حركة واسعة ومفتوحة لدعم افكار ومستلزمات ذلك عبر جسور الانتخابات الحرة والنزيهة، وخصوصا من خلال وحدة الديمقراطيين العراقيين تطلعا لتحقيق ما يلي :
1/ تأسيس دولة العدالة والمواطنة والحريات والضمانات الدستورية والتعددية وحقوق الانسان واستقلال القضاء والتداول السلمي للسلطة وحماية الاديان والطوائف وتحريم العنف واساليب الارهاب وحق التعبير وسبل الحوار والاحتكام لصناديق الاقتراع.
2/ احترام حقوق الاكراد باقامة فيدرالية عراقية في اطار الدولة الموحدة وضمان حقوق كل القوميات والاقليات وتنمية العلاقات مع الجيران.
3/ انهاء الرواسب الدكتاتورية باحتواء الاخطار واصلاح البيئة واعتماد الكفاءات ومكافحة الفساد واعادة تجنيس المهجرين وتصفية تركة العهد السابق واشاعة الحياة الديمقراطية والشراكة في صنع القرارات السياسية والمصيرية..
4/ اطلاق وحماية فعاليات المجتمع المدني ومؤسساته وقطاعاته واشاعة ثقافة الحوار وتأمين حقوق الاختلاف وحرية الصحافة ..
5/ اطلاق حرية الابداع والكتابة وتطوير البحث العلمي وتشجيع الانتاج الثقافي والانساني وتحصين الثقافات الوطنية بمواجهة التخريب والاخضاع والشمولية.
6/ ترسيم الحقوق المتساوية للمرأة العراقية في تشريعات دستورية وتأمين مشاركتها في الحياة العراقية الجديدة.


واخيرا : ماذا نقول عن مدى نجاح او اخفاق التجربة ؟
اخيرا، يمكنني القول بأن هذه المجموعة لم تتشكل كتحالف سياسي ولم تنبثق كبديل عن اي طرف او اطار عراقي.. انها قامت من اجل تقريب القناعات حول القضايا الاساسية التي توجه عملية دمقرطة المجتمع العراقي وسبل التعجيل بها. نأمل ان تكون نموذجا حيا واداة متطورة في العملية السياسية الجديدة التي بدأت في العراق. ولكن هل ستنجح مثل هذه الجماعات في مهامها او سينالها الاخفاق في مسيرتها ؟ انني اعتقد بأن الطريق ليس سهلا ابدا خصوصا وان المجتمعات العربية لم تزل مقيدة بالاغلال فضلا عن ان الانسان لم يدرك بعد من خلال الوعي بالتحولات ان ثمة آليات يمكنه توظيفها في انشطته السياسية ولكن المجتمع سيقيد حركته كثيرا حتى خلق المناخ الملائم لمزاولة الحريات.. وان التحولات لا يمكن ان تخلق في ليلة وضحاها.. نأمل نجاح بناء العراق الجديد لمؤسساته وان يخرج حرا مستقلا باطوار التقدم من المحن التي الّمت به ويغدو مثلا تاريخيا رائعا في القرن الواحد والعشرين. وانني واثق من ان ثمة جماعات عراقية سياسية اخرى ستطرح اجندتها في الضغط على المجتمع السياسي العراقي ولتأخذ لها دورها في التحولات التي ستمر بها المنطقة على امتداد المرحلة التاريخية في المستقبل المنظور ! فهل سيتعلم العرب شيئا منها ؟ نأمل حدوث ذلك.