مدينة اكتشفت الجاذبية وأُصول مساقط الضوء ستنهض من خرابها

ما وصلته مدينة مثل البصرة، والدة المدارس الفكرية والمدارس اللغوية، من بؤس وتفريط حضاري دفع إلى تذكيرها بماضيها البعيد القريب، معتزلتها وإخوان الصفاء فيها، جاحظها وفراهيدها، تذكيرها بسعي واصل بن عطاء في الآفاق لتأسيس مذهب الاعتزال، تذكيرها بالحسن بن الهيثم وهو يزيح العتمة ليرى أُصول مساقط الضوء على الأجسام. تذكيرها بمجدها العلمي والفكري لدغدغة روح الانتفاضة فيها على زمن ترك نخيلها بلا رؤوس، وأبلتها بلا ماء. زمن بعثي أرقط جمع قسوة زياد بن أبيه وابن عامر والحجاج وصولات القراصنة من جهة البحر، حتى جعل خرابها مثلاً لكل خراب في الدنيا فقيل "بعد خراب البصرة". كان البصري بطبيعته عالماً، فناناً، شاعراً وظريفاً، كيف لا وقد ولدت مدينته الفرق الأضداد، والشعراء الأضداد أهل النقائض، وأحكمت في اللغة والعروض أحكامها، ووضعت لعلم الكلام والفلسفة أسسها، فكيف سيعترف البصري بملتحٍ يقف عند بوابة جامعتها ومعهدها يفصل الثياب ويحدد ألوانها لطالباتها، ويقيس لطلبتها اللحى، وكيف يمتنع مغنياها من الغناء، ومَنْ يقدر أن يبث الحزن في خواطر زنجها المرحين، وهم يهتزون طرباً لاهتزاز سعفات النخيل بالنسائم، ويتحلقون حول مركب أشادوه بخيالهم، سيبحر فيهم يوماً إلى الأبدية حيث بلاد الزنج، وإن لم يكفِ الزنج زهواً أنهم الزراعون والملاحون والبنَّاؤون والمطربون فيكفيهم أن ابن بحر الجاحظ وأبا الهذيل العلاف، شيخ المعتزلة، من أبنائهم.
نقص هنا واحدة من قصص مفاخر البصرة العلمية، فالعودة إليها وتنشيط الذاكرة صوبها تعين مدينتنا الفاضلة في الصحوة من كابوسها لتعمر بساتين نخيلها وإنسانها، ولنرى ماذا فعل متكلمو البصرة وماذا فعل إمام الجاذبية نيوتن؟ فقبله بثمانية قرون استخدم متكلمو البصرة ثمرة التفاح مثالاً على سقوط الأجسام، بفعل الثقل أو ضغط الهواء. كان المبادرون إلى مثل هذه المحاولات علماء المعتزلة، بعد التدرج في المسائل من الكلام والفقه إلى العلوم الخاصة، تحديداً في مطلع القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، القرن المملوء علماً وفلسفة. وهنا لابد من الابتعاد عن الغرور، فنقول كل ما في حوزة العالم من علم وطب وطيران هو من صناعتنا أو ورد في كتبنا، أو تعلمه الآخرون منا، فمثلما كنا نفكر وتوقفنا عن التفكير بادروا وفكروا حتى أظهروا ما في أيديهم من صناعة وخير اجتماعي. لهذا يصعب القول أن إسحق نيوتن أقتبس مثال التفاحة في الكشف عن الجاذبية من المعتزلة بصريين أو بغداديين، فإمكانية إطلاعه على كتاب أبي رشيد سعيد بن محمد النيسابوري (من أعلام القران الخامس الهجري) "مسائل في الخلاف" تكاد تكون معدومة. فكتاب أبي رشيد لم يكن معروفاً لدى المستشرقين إلا بعد العام 1900، ونصه مأخوذ من مخطوطة يعود نسخها إلى السنة 627هـ (حسب المحققين معن زيادة ورضوان السيد 1979). فأين ومتى وجدها نيوتن وبأي لغة قرأها؟! ليس بأيدينا غير القول بتوارد الخواطر والمصادفة، التي يتفق فيها ما هو عجيب وغريب. ورد في هذا الكتاب معظم تطلعات المعتزلة العلمية، الخاصة في سقوط الأجسام، وشكل الأرض وحركتها وسكونها، والتي أخذها النيسابوري عن كتاب أبي القاسم البلخي (ت319هـ) "عيون المسائل" وعن كتب أبي هاشم الجبائي (320هـ) ثم عن دروس أستاذه قاضي القضاة عبد الجبار (ت415هـ).
عرف المعتزلة الجاذبية أو السقوط بالهُويّ، فينقل عن شيخ المعتزلة البغداديين أبي القاسم الكعبي أو البلخي أنه قال في "عيون المسائل"، الذي لم يصل إلينا: "لو أن رجلاً قبض على تفاحة (لا حظ كلمة التفاحة) في الهواء بإصبعه، ثم باعد إصبعه عنها تهوى إلى الأرض". كان سبب سقوطها، حسب البلخي، إبعاد المؤثر أي الإصبع الماسك عنها، فهو مولد ذهابها إلى الأرض. وحسب ما تقدم لا تأثير لجاذبية الأرض على الأجسام.
خلافاً للرأي السابق ذهب البصريين، منهم أبو هاشم الجبائي (ت323هـ) إلى فكرة السقوط بفعل ثقل الجسم، فقالوا: "إن المولد للهويّ ما فيه من الثقل، يدل على ذلك أن الهويّ يقع بحسب ثقله، حتى إذا كانت ريشة، فارق في حالها الهويّ حال التفاحة، وإن كان رفع اليد لا يختلف، على أن تنحيّه عنها، ليس لها بالتوليد في جهة الاختصاص، ما ليس بغيرها". وحسب البصريين، تسكن التفاحة في الجو بعد انفكاكها عن الماسك أولاً، ثم يتولد فعل سقوطها ثانياً. وهنا لم يشر النيسابوري إلى مكان مناظرات المتكلمين حول سقوط الأجسام هل كان تحت ظل شجرة التفاح أم مجرد تخيل؟ أما نيوتن فورد أنه شاهد سقوط التفاحة بفعل ثقلها وهو تحت ظل شجرتها، لذا عرفت بتفاحة نيوتن، التي قادته إلى اكتشاف قوانين الجاذبية (1687م).
كانت هناك إرهاصات في آراء المتكلمين نحو اكتشاف قوانين الجذب. فإن ألغى البغداديون فكرة الهويّ، أكده البصريون بالقول: "قد عرفنا أن هويّ الجسم الثقيل إنما يقف على الثقل، فمتى كان أثقل كان هويّه أسرع، ومتى كان الثقل أقل كان الهويّ أبطأ، فيجب أن يكون الهويّ حادثاً عن الثقل، لأنه بحسبه يحصل". أحسب أن المعتزلة تجاوزوا الإرهاص نحو اكتشاف الجاذبية إلى كشفها تماماً بقولهم: "إن الحركة لو ولدت حركة أخرى يوجب أن يذهب الجسم إذا رميناه صعداً أبداً، كذلك وأن لا يتراجع". فحوى القول الآنف: أن حركة الإصبع التي دفعت التفاحة إلى السقوط، لولا عامل الثقل لندفع بها إلى الأعلى، وليس بالضرورة أن يندفع إلى الأسفل. لكن منهم مَنْ فسر حدوث السقوط بإزاحة الهواء وضغطه على الجسم من الأعلى.
أشار البصريون، في مكان آخر، إلى إمكانية وقوف الجسم في الجو، في حال التأثير على ثقله، فيمنع من السقوط لبرهة من الزمن. ورد ذلك بقول أبي هاشم الجبائي: "إن الجسم الذي فيه ثقل، إذا فعل فيه اعتمادات مجتلبة فإن بعضها يكافي اللازم، ولا يولد ويتولد عن الباقي مثله ويبطل الأول، ثم الذي يولد منه قدرٌ من اللازم، فيقف في الجو في ذلك الوقت، ثم يتراجع بما فيه من ثقل". وحين نفى البغداديون مقالة سكون الجسم في الجو ردَّ البصريون ذلك إلى المشيئة الإلهية، فقالوا: "إن يفعل الله تعالى فيه أكثر مما يتولد من الهويّ عن ثقله، فيبقى ساكناً في الجو". وقالوا: "لو قدرنا أن الله تعالى أفنى الجسم المماس لهذه التفاحة لكانت التفاحة تهوي، فيجب أن يقول: إن الفناء يؤكد الهوي(السقوط بفعل الجذب). وبحث المعتزلة أيضاً عوارض السقوط، فقالوا: "إن توالى الحركات ممكن في الثقيل والخفيف، ولكن إذا رمينا جسماً خفيفاً فأنه لا تكون حركته في السرعة كحركته إذا كان ثقيلاً، فلابد أن يكون ما يعرض في الجو من العوارض يمنع الخفيف من الحركة ما لا يمنع الثقيل، فمتوالي الحركات في الجو في الثقيل أمكن منه في الخفيف".
يُرغب اتفاق أو توارد وتكرار التفاحة مثالاً، لكشف الجاذبية، عند العراقيين البصريين المعتزلة ونيوتن الإنكليزي في البحث عن الاهتمام الديني والمثيولوجي الذي أحاط بهذه الثمرة، وقد ظلت بعيدة من متناول الشاعر العربي القديم، ولم تذكر في آيات القرآن، رغم ذكر التين والزيتون والعنب والرمّان والتمر، ولا في الحديث النبوي ولا نجد في نهج البلاغة أثراً للتفاح. ورد في السومرية باسم (ماكنيو) والأكدية (خوشورو) والسريانية (خزورو) ، والعبرية "تبوح". ولابن وحشية في "الزراعة النبطية" إشارة حول معرفة البابليين زراعتها والعناية بها. وردت ثمرة التفاح في قصة الحب التوراتية "نشيد الإنشاد" مرادفة للحب والجمال والرائحة، جاء في النص: حضر الحبيب "كالتفاحة في أشجار الغابة، كذلك حبيبي بين البنين، في ظله اشتهيت الجلوس، وثمره حلو في حلقي"، و"أنعشوني بالتفاح فقد أسقمني الحبُ"، و "رائحة نفسك كالتفاح".
أما في الأدب العباسي فنقرأ لأبي حيان التوحيدي (ت414هـ) نصاً وصف التفاح الداماني نسبة إلى منطقة دامان والمميز بحمرته: "كأنه حمرة المرجان، أو شقائق النعمان، قد جمع وصف العاشق الوجل، والمعشوق الخجل". وفي الطب جعل ابن سينا عصير ورق التفاح مضاداً للسموم، وزهره مقوياً قوياً للدماغ والقلب ومفيداً لداء النقرس". ولجماله وإشراقة وجهه أقترن اسم النحوي المعروف سيبويه برائحة التفاح، لكن الصحيح (سي بويه) تعني "ثلاثون رائحة"، فهو ذو الثلاثون رائحة.
خلا ذلك مَنْ يراجع السري الرّفاء (ت362هـ) في "المحب والمحبوب والمشموم والمشروب" يجد اقتران التفاحة بالخدود مثل قول ابن المعتز:
تُفاحتك خديك قد عُضتا
بأعين العالم فاحمرتا
وقول ابن طاهر:
قد صنف الحسُّن في خديك جوهره
وفيهما أودع التفاح أحمره
السائر بين الناس، وما ظهر في الرسوم أن شجرة المعرفة أو الخير والشر، التي ورطت آدم وحواء وخرجا بسببها من الفردوس هي شجرة التفاح. فالكتب المقدسة لم تشخص شجرة معينة، ورد في التوراة: "وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، فإنك يوم تأكل منها تموت موتاً". وجاء في القرآن: "وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة"، ويتكرر النص في سورة أخرى: "يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنّة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين، فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ورِى عنهما من سوءتهما، وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين، فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بت لهما سوءتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين". أشار المفسرون إلى أن شجرة المعرفة هي واحدة من أشجار: الحنطة، العنب، التين، الكافور أو النخيل. والشجرة الأخيرة مكرمة في الأثر الإسلامي، ولها حضور في المثيولوجيا السومرية، شاهده ختم أسطواني يعود إلى العهد السومري القديم، تتوسط النخلة بين رجل وامرأة، جالسين متقابلين، يمدان يديهما لاقتطاف الثمر المحرم، والحية واقفة خلف المرأة تفريها في التناول من شجرة النخيل، وقد جاء خبرهما فيما بعد في التوراة، وهما آدم وحواء، دون تحديد نوع الشجرة.
لكن كيف وصلتنا شجرة المعرفة على أنها التفاحة مع عدم تشخيصها في الكتب المقدسة؟ أفاد الباحثون أن التفاحة لم تعرف رمزاً للتعبير عن الخير والشر إلا في القرن الرابع والخامس الميلاديين، وأن الفرس عدوا لها علاقة بمفهوم الجنة أو بلاد الله. ودينياً ظهرت رسومات شجرة التفاح في الرسوم الخشبية، على أنها شجرة المعرفة عند الكنيسة الكاثوليكية، غير أن الكنيسة الشرقية أعطت هذا الفضل لشجرة التين، وبينما أعطاه الرومان لشجرة العنب، أما الكلمة اللاتينية (مالم) فتشير إلى الربط بين التفاح والشر. عموماً، لم يتعد استخدام ثمرة التفاح وسيلة في برهنة إثبات ونفي تأثير الجاذبية على الأجسام خلفيتها في الدين والمثيولوجيا وشكلها المكور المناسب.

[email protected]