الحلقة الاولى: العراقيون: كيف نفهمهم ؟

معنى الغلاسنوست: مقاربة في الفهم
لابد من تعريف مصطلح " الغلاسنوست " الذي كان قد طرحه الزعيم الروسي السابق ميخائيل غورباتشوف في الايام الاخيرة من حياة الاتحاد السوفييتي قبل احتضاره وموته كدولة كانت في يوم من الايام دولة قوية يحسب لها حسابها، ولكنها لم تكن توازن بين متطلباتها الدولية وحاجات مجتمعاتها فتفككت ثم انتحرت فجأة.. ولم تزل مجتمعاتها قاطبة وحتى المنفصلة والمستقلة عنها تعاني من بؤس الحياة وعصابات المافيا والتنمية البطيئة وضعف العملة برغم قوة الموارد الطبيعية والبشرية ! الغلاسنوست، معناه باختصار: المكاشفة والصراحة والعلنية وطرح كل ما لدى الانسان المشارك باية فعالية سياسية او عملية اجتماعية او آراء فكرية.. بعيدا عن المخاتلة والتورية والنفاق والتغطية والتعمية والفبركة والاطناب واللف والدوران وكل ما هو مألوف في الحياة السياسية والاعلامية العربية التي اعتدنا عليها في القرن العشرين.
يتضمن الغلاسنوست، فلسفة اعادة انتاج التفكير السياسي بوسائل منفتحة وليست عبر قنوات مغلقة.. وعليه، فانه مبدأ مضاد لفكرة المؤامرة، وهذا ما اصطلح على تسميته بعد ذلك بمبدأ الشفافية الذي طرح في الحياة السياسية الجديدة ضمن الاليات التي تعتمدها ظاهرة الليبرالية الجديدة في مقوماتها وكأحد الركائز التي لا يمكن العمل بها من قبل كائنا من كان ان لم يؤمن ايمانا حقيقيا بها.. وعليه، فمن الواضح ان الشفافية والغلاسنوست لا تلتقيان ابدا عند اولئك الذين يمزجون الدين بكل فضائله الروحانية السامية بالسياسات الدنيوية وموارباتها.. او عند اولئك الذين ما زالوا يلبسون البستهم الايديولوجية المهترئة التي عافها العالم منذ نهايات القرن العشرين تحت مسميات شتى ! او عند اولئك الذين ما زالوا يتقوقعون في خنادقهم الطائفية والشوفينية والمذهبية المعتمة التي يمكن ان تجد عافيتها في العراق خصوصا، ولكن على حساب تحطيمه ودماره وتمزيقه شر ممزق.. ان حالات الارهاب المسيطرة على واقع العراق الاليم تترجم كل التناقضات العراقية التي ستدمر كل شيىء اذا لم يكن التأسيس عراقيا مدنيا بعيدا عن اية محاصصات.

حاجة العراق وضروراته
فالعراق كما يدرك الجميع لا تنفع معه كل هذه الترسبات السياسية وبقايا التاريخ الصعبة التي تجد اليوم حيويتها بعد ان ضعف المجتمع ضعفا كبيرا بتأثير سياسات النظام السابق وبقايا تأثيرات الدولة التي عاشت في القرن العشرين 82 سنة، ثم ماتت بسقوط النظام على ايدي قوات التحالف التي احتلت العراق بقيادة الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا، وشيعها العراقيون على امل ولادة دولة جديدة.. ولكنهم فوجئوا بمجابهة اخطاء وسياسات وقرارات كان من نتائجها ولم تزل انفلات فاضح للامن والنظام وفوضى قيمية في المجتمع وتجمع لعصابات ارهابية متوحشة. فهل سيفلح العراقيون ببناء كيان جديد لهم في ظل انقساماتهم التي تتبلور شيئا فشيئا ؟ وهل لهم القدرة على التكيف مع التحولات الجديدة في ظل الوجود الاجنبي ؟ وهل باستطاعتهم التخلي ببساطة عن كل ما الفوه من التقاليد البالية والترسبات الصعبة كي يعملوا بمبدأ غلاسنوست عراقي واضح يتضمن نهجا في المكاشفات السياسية والشفافية عالية المستوى بعيدا عن الذهنيات المركبة والانتماءات المتنوعة ؟؟ انني اعتقد بأن اي مشروع غلاسنوست عراقي سيهتم به المجتمع، لا اقول بأنه سينجح في مسعاه وبمباركة النظام الجديد الذي سيختاره الشعب بمحض ارادته بعيدا عن شرور الارهاب وانعكاساته.. بل انه سيفيد اوضاع العراق التي تختلف اختلافا كبيرا عن اوضاع روسيا وخصوصا من الناحية الاجتماعية.

العراق ازاء تفكيرين مختلفين !!
من السهل جدا ان تقول بأن العراق فيتنام ثانية ولكن من الصعب جدا ان تجد قواسم مشتركة بين الحالتين في بيئتين مختلفتين وفي زمنين متباينين وفي مجتمعين متعارضين وفي مناخين سياسيين عالميين غير متوافقين البتة.. ومن السهل جدا ان تقرن الحكومة العراقية الحالية بالحكومة العميلة وكل المسؤولين بالعملاء وتطلق عليهم كل صفات الردح والقباحة.. ولكن من الصعب ان تحل محلهم لتعرف معاناتهم اليومية ! ومن السهل ان تقول كلاما منمقا يسحر الالباب عن العراقيين وما يشحنهم من المواصفات والخصائص والمفردات الجميلة وكأننا في سوق شعرية تباع فيها الرومانسيات والزهور ولكن من الصعب ان تتوغل في الاعماق لتجد ما ترسّخ من شظايا وترسبات وبقايا من كوارث وامراض وانسحاقات ! من السهل جدا ان تنعت هذا وتهجو ذاك وتصف هذا بالعمالة وتشتم ذاك باقذع الكلمات.. ولكن من الصعب جدا ان تخط فكرة واحدة يمكن ان يكون لها اثرها وتترسخ في النفوس.. او ان تتحمل مسؤوليتك انت لو شاءت الظروف. لنسأل انفسنا: كيف ؟ من السهل جدا ان نجعل هذا الفصيل ممن نحب ونهوى ملائكة اطهار وصديقين ابرار ونجعل ذاك الفصيل ممن نكره أو نمقت شياطين وابالسة..
ولكن بنفس الوقت من الاستحالة ان تبقى حياديا وموضوعيا وتحافظ على امانتك ومنهجك في العراق لأنك هناك جدليات لا اول لها ولا آخر تحفها المخاطر ! وهي جدليات سياسية تعبر عن واقع اجتماعي معقد جدا لا يدرك اسراره الا من توغل في دراسته طويلا، ودوما ما اشبه مثل هذا الحال وخصوصا في مجتمع صعب جدا كالعراق كمن يقّدم عرضا في سيرك وهو يمشي على حبل مشدود يعلونا بعشرات الامتار لا يدري متى يسقط سقوطا نهائيا لا يقوى على الحياة من بعده ! ان ما يحدث اليوم في العراق ليس مجرد " حركة تحرر وطني " او " مقاومة ضد الاستعمار " او " جهاد على الكفار " او انها مجرد " حرب عصابات " و " جماعات متمردة ".. الخ ان ما يحدث هو تعبير واضح عن فوضى داخلية او انقسام داخلي نتج عن احتقانات شرخ اجتماعي اتّسع بشكل مرعب عقب سقوط النظام السابق واسبابه اجتماعية قبل ان تكون سياسية.. وستثبت الايام ان صراع الاضداد في المجتمع العراقي سيكون وراء نتائج مأساوية وكارثية في العراق ان لم يتنبه العراقيون كل العراقيين مسؤولين ومواطنين ومن قبلهم الهيئات المرجعية التي تستمع اليها الناس.. وخصوصا العمل على معالجة آفاته ويبعدوا عنهم كل مسببات ذلك الصراع الذي يعمل اليوم كالجمر متوقدا تحت الرماد.. وهو يسري تحت مسميات شتى وتذكيه عناصر داخلية لا تعد ولا تحصى.. وتشجعه ادوات خارجية اقليمية واطراف عربية بالدرجة الاساس.

العراقيون بين الاحتداد والاستيلاد
جمعتني قبل ايام ندوة تلفزيونية عن موضوع " الديمقراطية " مع الاخ الدكتور عصام الخفاجي الذي كان كثير الكلام وابلى بلاء حسنا في الدفاع عن تخلف المجتمع العراقي الذي كنت قد وصفته بالصعوبة والتعقيدات والثنائيات – وهذا ما اتفق عليه اغلب العلماء القدماء والمحدثون وفي مقدمتهم علي الوردي – فقارن صاحبنا بين مجتمعنا والهند وكيف كانت الهند بكل تعقيداتها قابلة للنضوج فكيف بالعراق والعراقيين وهم من المتحضرين (كذا).. فلم اجبه على تشبيهه العجيب، وكأنه لا يدري بأن الانكليز حكموا الهند مئات السنين على عكس العراق.. وكأنه لا يدري أيضا بأن الهند تحررت بوسائل مقاومة سلمية ابتدعها المهاتما غاندي وصحبه.. على خلاف العراقيين وما فعلوه ! فالمسألة العراقية داخليا هي بالضرورة اجتماعية وليست سياسية وهي مسألة مجتمع تكثر بل تتفجر فيه التناقضات بشكل لا يصدق ابدا..
مجتمع ليس فقط غريب في تنوعاته وتعدديته، بل مختلف في توجهاته وميوله وتفكيره واساليبه ناهيكم عن هذه السايكلوجية العراقية الصعبة التي لا يمكن ان نجدها لدى بقية أنواع البشر.. سايكلوجية متمردة وقوية وحادة ازعجت ساسة وقادة وزعماء عرب امثال: الحاج امين الحسيني والرئيس جمال عبد الناصر والملك حسين بن طلال ومؤسس البعث ميشيل عفلق وزعماء عرب آخرين.. نعم، انها سايكلوجية تاريخية لها موروثاتها المركبة وجيناتها المتنوعة وقد تمركزت في قلب هذا العالم ومن قبله العالم القديم انثربولوجيا وها انها قد انتجت شخصية فريدة من نوعها وصعبة المراس جدا..
انني واثق تمام الثقة بأن اي عراقي لو سمع بأن واحدا من مثقفيه اليوم قد قارن بين مجتمعه وبين الهنود لثار وازبد وارعد وتوّعد وهدد، فليس من السهولة ابدا فهم المجتمع العراقي من قبل العراقيين انفسهم فكيف يمكن فهمه من قبل الاخرين، وليس من السهولة ابدا ارضاء الشعب العراقي، وليس من السهولة ايضا ادراك ما يريده الوسط العراقي.. ولقد ذكرني كل ذلك بما كتبته المس غروترود بيل في مذكراتها وهي المستشارة البريطانية التي قضت اهم سنوات حياتها في العراق ابان العشرينيات من القرن العشرين، اذ اعتقد بأنها قد فهمت العراقيين فهما حقيقيا، فلا نعجب ابدا اذا كان السير برسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق وقت ذاك يستشيرها بامر العراق ولكن ما يثير العجب كثيرا ان الملك فيصل الاول وهو العربي القح ومؤسس العراق الحديث كثيرا ما كان يستشيرها في امر العراقيين الذين تحكي لنا عنهم وطبيعتهم من خلال وثائق بقلمها تمثلها رسائلها الى ابيها عن عشقها للعراقيين وقد وصفتهم اوصافا قلما يجود بها اي باحث عربي في هذا الوجود !
بل من المؤسف حقا انني سمعت وقرأت اكثر من زميل او كاتب او فنان او مذيع عربي كيف يتهكم بالعراقيين في تصرفاتهم وعقلياتهم !! ولا اجد احدا من المثقفين العراقيين المؤمنين بالشوفينية والذين وجدوا ان القومية العربية قدرا لهم، لم اجد منهم أحدا، وهم كثر، يتجرد من خطاياه بحق العراق ليعالج الفهم العربي المسطّح عن العراقيين ومجتمعهم وعقلياتهم، بل وان يعترف بكل ذلك خصوصا وان الشوفينيين من القوميين العراقيين دوما ما يعتبرون انفسهم اصغر حجما من اخوانهم العرب الاخرين في القومية العربية.

الشخصية العراقية: شخصية متمردة
انه شعب العراق المتنوع الذي تشكله حقا كتلة هائلة من العواطف والمشاعر الفياضة، وهو سريع الانفعال والغضب يحتد بسرعة ولا ينطفىء جام غضبه الا بعد ان يطيب خاطره بكلمات جزلة ورقيقة يشعر فيها باعادة الاعتبار اليه، فالانفة مستفحلة عنده.. تجده حالما ورقيقا وفجأة ينقلب على عقبيه ليغدو مهاجما شرسا اذا مسّ مسا خفيفا.. انه انعكاس حقيقي لمناخه القاري الصعب حيث مفارقاته التي لا مقاربات لها.. يتعّصب مع محلياته الجهوية او يتعاطف قبليا وعشائريا ولا يتقبل الاجنبي بسهولة بفعل طغيان استقلاليته الفردية وطغيان بدونته على حضريته وهو يهوى الفردية في العمل ولا يتلاءم بسرعة مع اي جماعة غريبة باستثناء حالات ونماذج عدة من تشكيلات من الساسة والمثقفين العراقيين المدينيين.. ربما تأقلم مع جماعته ولكن ليس مع الاخرين وهو لماح حتى في عشقه وثائر وملحاح ومتمرد ولجوج ولا يرضى ابدا عن اي شيىء.. يسألك دوما: " شكو ماكو " ويعيدها ويكررها حتى الضجر، ولكن " الماكو " (= اللاشيىء) عنده كثير جدا، وقلما يحدثك عن " الاكو " (= الموجود). وهو الوحيد الذي باستطاعته ان يحكي لك قصة كاملة بعيونه.. بل وهو الوحيد الذي يبقى زمنا طويلا يتكلم بلغة الاشارة والتورية والسخرية كلاما مبطنا لا يدركه ايا كان من هذه الدنيا الا اذا كان عراقيا، فهو يدرك لغة الاشارات والرموز منذ الاف السنين!! انه مبدع حتى في تمرده وعصيانه، في شعره ونثره، في دينه ودنياه، في مثاليته وواقعيته وحتى في مقدّسه ومدنّسه.. وهو شجاع على العموم وقد اثبت التاريخ بأن شجاعته كانت مضربا للامثال اذا آمن بقضية معينة كما يثبت لنا التاريخ قدرة العراقيين على التحمل والصبر بشكل لا يتخيله عقل. وقد اتصفوا ايضا بالجسارة والمغامرة اذا ما ارادوا التعبير عن امر ما وبشكل يثير الانتباه.
نعم، انك تقف عند صحون يجتمع فيها عدد من نساك ومتبتلين وبكائين ومتصوفة وفي الطرف الاخر تستمع الى اقذع انواع الشتائم والسباب بحق كل الالهة ! انه العراقي، مهما كانت طبيعته وعجينته فهو لا يعطي ثقته للاخر بسرعة، ولكن ما يثير حقا انه ان منح فرصة من الحريات الفكرية والسياسية كالتي عاشها في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين فسيؤثر في كل ميادين الحياة وسيغدو له شأنه في الدنيا وسيبدع بشكل مذهل. ولن اجد الوان الطيف الثقافي بكل زهوه ولمعانه وانواعه الا في العراق فهو بيئة حقيقية لحضارات متوارثة وثقافات لها سلاسلها ابا عن جد للشعر والشعراء ويكذب من يقول عكس ذلك.. فالعراق بيئة متنوعة تتسلسل فيها الاجيال حضاريا اذ لم نزل نجد مجتمع صعاليك الستينيات من المثقفين والشعراء كما كان قبل الف سنة.. ولم نزل نجد مجتمع المتبتلين والزهاد الذين يذوبون وجدا وصبابة في اسرار الخلود.. ولم نزل نجد ثمة مفكرين وكتاب عراقيين لهم القدرة على التأويل وكأن اخوان الصفا والمعتزلة قد استمر وجودهم وتفكيرهم في البيئة التي ترسخوا فيها.. وهكذا بالنسبة لمن كان قد عشق الحكايا والملاحم والاساطير او هام بتنوعات البيئة العراقية ومحلياتها بكل جمالياتها الطبيعية.. وهناك مجتمع شعراء ومجتمع مجالس ومجتمع عشيرة ومجتمع كنسي ومجتمع لغوي ومجتمع مقاهي ومجتمع نقابات وجماعات ومجتمع اسواق ومجتمع عسكر.. الخ

مجتمع الخصوصيات والتنوعات
ومع كل هذا وذاك، اقولها وليس جبرا للخواطر لابناء بلدي الحبيب، بل انها حقائق ثابتة عندي انني لم اقع - والحق يقال - طوال حياتي على اناس طيبين لا تجد مثلهم ابدا في طول هذه الدنيا وعرضها كالعراقيين الاصلاء.. انهم موجودون في كل مكان كالذي صادفتهم في الجنوب او كالذين تعاملت معهم في الشمال.. في الغرب ام في الشرق، صحيح انهم متنوعون كفسيفساء مدهشة في عاداتهم ولغاتهم وتقاليدهم ولكنهم عموما اناس طلقاء كرماء يعبدون العشرة والصداقة والكلمة الطيبة ويحبون الحياة والحرية والانفتاح والمائدة العامرة والفن والسهر والنكتة الى درجة مذهلة !
ولا ادري ان كانوا قد تغيروا او ان الزمن الصعب قد غيرهم وبدلهم عن عاداتهم وتقاليدهم العراقية المتوارثة منذ مئات السنين. ولكن ليكن معلوما ان خمسا وثلاثين سنة من حكم نظام احادي شمولي عات وقف على رأسه صدام حسين لابد وان يتغير الناس بغير الناس ولابد ان تتأسس في العراق اساليب شرسة ودموية كالتي الفها العراقيون طويلا من خلال شراسة النظام في سيطرته المحكمة على المجتمع. المهم لابد ان ندرك نتيجة طالما فكّرت فيها تاريخيا وانا اقلب صفحات تاريخ العراق واقرأ معانيه من وراء الاسطر والصفحات انه اذا كان العراق مغلقا وضعيفا ومنهارا فانه يغدو مرتعا للاشرار والمجرمين والعصابات الذكية.. اما ان كان العراق قويا ومستقرا ومنفتحا فيغدو خميلة خضراء تزدحم جدا بالمبدعين الخلاقين الذين لا اول لهم ولا آخر !
ولابد من القول ان تاريخ العراق الاجتماعي يعلمنا بأن العراق طوال الزمن وعلى مر العصور يستقبل الالاف من الدخلاء الذين يصهرهم في بودتقته انصهارا كاملا ليصبحوا جزءا من كينونته، ولعل من تنوع اللهجات واللغات المحكية المحلية دلائل حقيقية على امتزاج الثقافات المتنوعة في بيئات العراق، ولكنه دوما ما ينتج العراقيون ثقافتهم العراقية المتميزة بكل خصوصياتها. ناهيكم عن تنوع العادات والتقاليد العراقية التي قد لا نجد لها شبيها في كل هذا المحيط العربي الممتد في الشرق الاوسط. والمعروف بين العراقيين ان القدماء الاصلاء دوما ما يرفضون الدخلاء الطارئين حتى لو كانوا من اقرب الاماكن، وثمة فجوات ومتسعات بين الطرفين عندما يتأسى احدهم عن حالة كهذه فيأتي بالمصطلح الشائع " لملوم " (معناه: خليط من كل الاصناف والاجناس). وثمة مدن عراقية كبرى اليوم وبضمنها العاصمة بغداد غدت تضم " لملوما " متنوعا من البشر.
الانطلاق من الاقفاص المغلقة !
نعم، ليس من الغرابة اليوم وبعد هذا المارثون التاريخي الذي يمر به مجتمع العراق ومنذ خمسين سنة ان يبقى مكللا بازهار الغار واوراق الورد وهو ينفث عسلا ويقطر سمنا.. لنعلم ان العراقيين قد مروا باصعب الظروف واحلك الايام وبأوزار ثلاثة حروب دموية عجاف اكلت اخضره واليابس، فهل ستجدهم يهجعون ويستقرون ويهدأون وقد انطلقوا من اقفاصهم بعد ان كانوا محشورين فيها ومنعزلين عن رحاب الدنيا.. فكل عراقي اليوم مصر على ان يكون رأيه الوحيد هو الصائب وهو الاصح وهو الاسلم.. وان وجد نفسه بلا رأي، اخذ يلف ويدور حول ما قاله زميله ليعيد انتاج ذلك من جديد كي يقول هذا هو الرأي الصائب فخذوه.. والكل تواق لشغل المناصب وتوّلي الصدارة من اجل سلطة او تفاخر او مكانة او استفادة.. ولقد برز جيل جديد تربّى على امتداد ثلاثة عقود من الزمن على اساليب النظام الحزبي الواحد وعلى تقديس الرأي الواحد وعلى عبادة البطل القومي الواحد وعلى كراهية الاخرين ومقتهم واحتقارهم وبالذات الاجانب من غير العرب.. جيل اشبع بنصوص المؤتمرات القومية والقطرية واغاني حب الريس والدعاء له.. جيل لم يسمع الا الشعارات والطوباويات واستعراض العضلات والاعلاميات الكاذبة.. جيل لا يتعلم الا خطابات القائد واحاديث القائد ولم ير الا صور القائد وجداريات القائد واحتفاليات القائد.. الخ جيل استمر محروما من كل منتجات العصر وتقنياته الحديثة وفي الثلث الاخير من القرن العشرين حيث تطور العالم كله بشكل مذهل.
ولعل من سوء قدر العراقيين ان يكون لهم كم هائل من المؤرخين وعلماء الاجتماع والمفكرين والكتاب والمنظرين المعاصرين من قدماء سابقين أو جدد لاحقين.. ولكن ويا للاسف الشديد لم يقّدم هؤلاء كلهم على الاطلاق تفاسير علمية حقيقية ومشروعات اجرائية واقعية يتطلبها العراق ويحتاجها العراقيون على امتداد خمسين سنة الا ندرة منهم لم تخصب الا القليل، وليعذرني القراء ان لم اسجل اسماء تلك الندرة النادرة كيلا يعتب علي مئات الزملاء والاخوة العراقيين الذين احترمهم واجل اعمالهم كلهم مهما كانت توجهاتهم وعقائدهم وانتماءاتهم ! ولم اكن متوهما عندما كتبت بعد سقوط النظام اكثر من مقال احذر فيه من تداعيات الفرار من الاقفاص وما سيترتب على ذلك من نتائج وخيمة.. ولكن لم يكن يدر في خلدي ان تصل الحالة الى حز الرؤوس وقطعها وقتل الابرياء وخطف الناس العاملين ! وعدم الشعور بالمسؤولية في تلويث سمعة شعب كامل عرفته البشرية معلما لها منذ الاف السنين.


مخاطر الانقسامات وتشويه الصورة
انني المح ولأول مرة في تاريخ العراق ان افقا من شفق احمر قان يرتسم بعيدا ليؤجج شعلة من حرب باردة تسري اليوم في دواخل العراق الاجتماعية بتأثيرات اعلامية وسياسية ودينية بالدرجة الاولى محلية وعربية واقليمية ودولية.. نعم، بدأت تتجسد وتتراكم جملة من الاحقاد والكراهية والضغائن بتأثير عهود شوفينية مضت على مدى اربعين سنة منذ العام 1963 وحتى العام 2003، وقد استفحلت جدا في عهد صدام حسين الذي ضرب على اوتار خبيثة بدل ان يترفع عنها كونه زعيم عراقي يتوجب عليه ان يكون عراقيا حضاريا حقيقيا يؤمن بالقيم الحضارية ويقف مترفعا ونظيفا فوق كل الميول والاتجاهات والطوائف والاديان والاعراق والقوميات والعشائريات.. لكي تنتقل هذه " الامراض " الوبائية اثر سقوطه الى " واقع " ربما لا يريد البعض ان يسمع عن هذا الواقع، بل ويريد البعض التكتم عليه.. ويصل الامر بآخرين الى انكاره جملة وتفصيلا ترفّعا وتساميا.. ولكن كل هذا وذاك يذكي النار بدل اطفائها.. ولقد ابدع الاخ الشاعر العراقي احمد عبد الحسين في مقالته الاخيرة عن " الطائفية " و" الطائفيين " (ايلاف، 20 نوفمبر 2004) الذين لا يريدون الاعتراف بها، بل وان اي طائفي يستخدم كل الدفاعات ليبعدها عنه كونه يعترف بشرورها.. او تجد من يتشدق كونه مجدد علماني المظهر مدني التفكير ولكنه يكتسي بالبسة طائفية داخلية مهترئة، ومنهم سياسيون ومثقفون وكتاب ومهنيون مدنيون.. الخ تلحظهم غير طائفيين في العلن ولكن الطائفية قد تمكنت منهم في اللاوعي، وهذا يحتاج الى ترسيخ منهج القطيعة لديهم بين الموروث التاريخي والواقع المعاصر.
وهناك من يريد ان يبقي الصورة وردية عن صراع الاضداد الصعب الذي يسري اليوم في مجتمع منسحق لم يهتم احدا به من العراقيين باستثناء قلة من الساسة والكتاب والمهتمين العراقيين الذين يمكن معرفتهم واحدا واحدا ! في حين لم ير العراقيون في حياتهم التاريخية (مجتمعهم كما هو) ولم يزرع في تفكيرهم الا (الدولة) وتقديس انظمتها السياسية وعبادة زعمائها وقادتها (وثوارها وابطالها الوطنيين والقوميين الميامين) في العلن.. هذا في العلن، اما في السر فالعراقيون بشكل عام ومنذ عهود طوال مضت يمقتوا الدولة ويشعروا بأنها العدوة الاساسية لهم اذ يصل الامر ببعضهم ان يبيح المال العام – مثلا - من دون اي شعور بالذنب كونه ورث فرية عراقية قديمة تقول بأنه مال بلا اصحاب ويعبرون عنه بـ " مال حكومة "، وهذا يرجع بالدرجة الاساس الى ضعف الانتماءات الى الكيان الواحد منذ العهود العثمانية السكونية (او كما يسميها المؤرخ مجيد خدوري بـ المسكونية).

انتماء ام مجموعة انتماءات
ومن هنا غدا الانتماء للوطن / العراق امرا هزيلا مقارنة بغيره من الانتماءات لكل العراقيين.. والوطن ليس بيئة محلية معينة ولا مدينة ولا دين ولا طائفة ولا عشيرة ولا اسرة ولا تراب ولا نهرين ولا جبل ولا صحراء ولا.. ولا، انه كل هذا وذاك وتلك وهذي وقبل اي شيىء هو الانسان او المجموعة البشرية التي لها خصائصها وخصالها وشراكتها التاريخية والجغرافية.. انه الانتماء الوحيد الذي يمكن لصاحبة ان يفخر به، والمهم ان يكون هذا العراق غير محتكر من مجموعة او حزب او قبيلة او طائفة او هيئة او حكومة.. لقد عاش العراقيون لاكثر من اربعين سنة وصل الامر خلالها بأن غدا الحزب القائد ومن بعده الحزب الواحد ابرز كهنوت شرير لا يدرك العراقيون غيره كي ينهلوا من ينبوعه، فاقسروا على الانتماء اليه بالرهبة والملاحقة.. فكيف تريدهم اليوم بعد ان كانت ابوابهم موصدة وينابيعهم جافة واقفاصهم مظلمة وسراديبهم عفنة.. كي يروا العالم فجأة كما هو عليه اليوم ولا يصيبهم اي تمرد او جنون مع غياب العقلاء واختفاء الحكماء وتشرد المبدعين وبقاء المشعوذين والدجالين والمطبلين والشعاراتيين والوصوليين واستخدام زمر الفاشيين والمتعصبين كتلا من الارهابيين في محاولات دموية لارجاع القديم الى قدمه ..
ولعل الاعلاميات العربية المعاصرة وجوقاتها هي التي اثارت الصدمات واججت المواقف وتلاعبت بالمشاعر.. وكانت لها اجندتها المعروفة ازاء العراق والعراقيين متضمنة فيها كل احقادها وكراهيتها وفجأة يجد العراقيون انفسهم امامها، وهي اعلاميات منظمة وخبيثة وماكرة ساهمت مساهمة اساسية في تشتت تفكير العراقيين وتضييع السبل امامهم خصوصا واننا وجدناهم فجأة وهم بتكويناتهم الصعبة يستخدمون ارقى الوسائل المتطورة ، ومنها الانترنيت والموبايل والستالايت والفضائيات التي غدا بعضها يبث اشرس الاعمال والاستعراضات والتصريحات والاقاويل توحشا ازاء العراق والعراقيين، بل وغدا اكثر من محطة عربية قناة تختص ببيانات الارهاب وعرض عمليات القتل والاعدام وقطع الرؤوس على العالم ! ان مجرد عرض ذلك هو تشويه لسمعة العراق والعراقيين امام العالم وكأنهم في بلادهم قتلة ومجرمين وسفاكين.. ولنا ان نتّصور ماذا ستكون عليه احاسيس العراقيين الذين عرفنا خصائصهم قبل قليل ؟

[email protected]