الطائفية والشوفينية وراء صراع الاضداد

التمزق الحقيقي.. متاهة صعبة

ان المجتمع العراقي الذي كنت قد قدمت تحليلات عن ابرز مشكلاته في عدة دراسات منشورة.. يعيش اليوم تمزقا حقيقيا وتشظيا غريبا بفعل تراكم الاسباب والمسببات التي لا يمكن نكرانها وبقايا آثارها المهلكة.. وقد طافت على السطح فجأة كل الرزايا والموبقات بفعل انفلات الاوضاع وانقلاب عاليها سافلها من دون قيود ولا حدود ولا سدود ولا ممنوعات ولا محرمات.. لقد برزت فجأة كل منتجات المواريث والتقاليد البالية وبقايا الامراض المزمنة والترسبات المركبة لتاريخ طويل من احقاد فتاكة وعلاقات هشة وكراهية الدولة وثارات لعمليات القتل والنفي والاعدامات والتعذيب والتحقيقات والسجون والمعتقلات والمقابر.. كلها ركامات من عذابات مخزنة في الذاكرة العراقية الملتهبة على امل اشفاء الغليل واخذ الثارات.. التي كان المجتمع قد استوعبها ومن غباء النظام السابق انه فسّر صمت العراقيين وقت ذاك ازاء سياسته الشمولية باعتباره مجتمعا موافقا جدا على نزقه ومتوافقا جدا مع سياساته.. ومهما حاولت الدولة ومؤسساتها ومهما حاول الحزب واجهزته ان يثير فصائل ضد اخرى واللعب باوراق المجتمع الصعبة، فقد فشل مشروع الطاغية سواء على عهد ام عهد البكر الذي سبقه وفي ظل حكم البعثيين الشرس وتطبيقاتهم القاسية التي مارسوها ضد المجتمع العراقي بمختلف شرائحه وفصائله وعناصره واصنافه وطوائفه وقومياته..

دعوني اليوم اتوقف قليلا لمعالجة موضوع في غاية الاهمية، وهو يهدف اساسا الى طرح محاولة لمشروع اتمنى ان يحول دون انهيار العراق ليس كمؤسسات دولة، بل كتكوينات مجتمع.. وخوفي ان يتحول المجتمع العراقي الذي عرف بعراقته ومواصفاته الحضارية والمدينية كأقدم كتلة بشرية في تاريخ البشرية الى تمزقات وتشظيات يسهل على الاخرين ابتلاع اجزائه – لا سمح الله -. وهنا لابد ان يدرك كل العراقيين بأن مجتمعهم الذي يصادف كل هذي المعاناة ومآسي الحياة انما يصطدمون بترسبات بقيت مخفية عبر مئات السنين ولم تجد لها فرصتها للانطلاق.. انهم بحاجة ماسة الى ان يدرك كل طيف عراقي طيفه الاخر ويتلاقح معه من اجل بناء تعايش حقيقي غير مزيف، وتضامنيات متماسكة غير مشوهة.. فهل سيدرك مجتمعنا ما الذي يحتاجه ؟ صحيح انه بحاجة الى عملية انتخابية سياسية جديدة تضمن له ولادة دولة جديدة ونظام حكم جديد، ولكنه بحاجة اصلا الى عملية تضامنية اجتماعية تؤهله واجياله القادة لبناء تاريخ جديد.

صراع الاضداد

ان المشكلة التي لابد من التأمل فيها ما نسمعه ونراه ونشهده اليوم في واقع يمتلىء بالاضداد وصراع الاضداد بعد ان عاش تناقضات صعبة لا اول لها ولا آخر ! المهم اننا لا يمكننا ان نغمض عيوننا كعراقيين على ما يجري ليس على مستوى الحكومة مؤقتة كانت ام دائمة، بل على مستوى المجتمع.. فأنا لا يرعبني حقا اي احتلال اجنبي يفرضه محتل خارجي بقدر ما يخيفني هذا التمزق الداخلي الذي لا يتطرق اليه اي من المفكرين والمختصين العراقيين، وخصوصا من ذوي الباع والتخصص.. ليس خوفا من الموضوع ذاته، بل لأنه لا يريد ان يقنع نفسه بأن خللا مستفحلا يسود في دواخل البنية الاجتماعية العراقية تحت اسماء شتى. ان عدة من الامور الحساسة جدا جعلتني انتبه الى مكامن الخطر في دواخل العراق الصعبة، وهي تعّبر ليس عن حالات شاذة، بل انما تعّبر عن واقع مؤلم لا يمكن السكوت عنه او التغاضي عليه او اخفائه تحت حجج واهية ومسوغات عاطفية.. ونبقى نتشدق بالوحدة والمثاليات والطوباويات والخصوصيات.. علما بأنني اول من يدافع عن ذلك في ظل واقع يزدحم بالقطائع والتمفصلات.
السؤال: كيف نصل بأي عراقي كي يشعر بأنه جزء من منظومة اجتماعية متكافئة وعريقة اسمها (العراق ) لا باعتباره جزء من فرع خاص !؟ وكيف نجعل العراقي يدافع عن كل التنوعات والالوان والاطياف والمصالح العراقية حتى لو كان ذلك على حساب انكار هويته وطائفيته وشكله ؟؟ وما هي الوسائل والادوات والاليات التي يمكننا توظيفها اجرائيا وعلى ارض الواقع من دون التغنّي بها كذبا وبهتانا وشعارات بلهاء لارضاء الاخرين واسكات المطالبات ؟؟
ان هناك امثلة ونماذج كانت كافية للتدليل على ان انقسامات وتشظيات اخذت تترسخ يوما بعد آخر على ارض الواقع في العراق.. ومن دون اي معالجات حقيقية يمكنها ان ترجع الامور الى نصابها ضمن ما يعرف بعمليات الاسترداد التاريخي للتعايشات بين العراقيين، فان العراق سيمضي في طريق مسدود من دون دق نواقيس الخطر، وربما يبقى الكثيرون رؤوسهم مطمورة في الرمال، وهم لا يريدون سماع مثل هذا الذي يشكل كارثة حقيقية داخلية في العراق، ولا يمكن ان يستفيد منها الا كل الذين يتربصون بالعراق من جيران واخوان خصوصا والذين ثبت انهم لا يريدونه ان يسير نحو الامام ليبني له تجربته التاريخية الجديدة.

لا حياة للعراق مع وجود الطائفية

وهي اخطر ظاهرة مرضية تتسرب اليوم وبشكل مذهل عند العراقيين الذين ستحيل تعايشاتهم التاريخية والقيمية الحضارية الى تمزقات وتشظيات. لقد زرعت الطائفية في العراق منذ تاريخ بعيد، وبرغم هشاشتها على العهد الملكي بفعل علمنة النظام السياسي وليبراليته الى حد بعيد، الا ان النخبة القومية بدأت بالعزف شديدا على مفهوم " الشعوبية "، فخلقت من لا شيىء ظاهرة وهمية معاصرة بدأت الاحزاب الشوفينية باستخدامها في العراق خصوصا ضد كل من لم يسايرها.. وزاد الضرب على الاوتار الطائفية مذ بدت تحيا منذ العام 1963 على عهد عبد السلام عارف واستمرت على عهد البعثيين البكر وصدام وحتى العام 2003.. وكنت الحظ بأن صراع الاضداد بدأ ينمو بشكل مخيف في وسط العراق وخصوصا في العاصمة بغداد، اذ لم يعرف لا الشمال ولا الجنوب مثل ذلك الصراع الخفي.. ان قطبي مجتمعات الشمال والجنوب متمثلين بكل من الموصل والبصرة كثيرا ما كانا يتلاقيان بمنتهى الشفافية من دون اي تعقيدات لا في السر ولا في العلن على عكس الصورة التي كانت العاصمة عليها وما يحيطها ويجاورها. وبالرغم من علمنة الدولة العراقية على العهدين الملكي والجمهوري في القرن العشرين، الا ان محاصصة طائفية خفية كان لها ثوابتها في اغلب التشكيلات والمؤسسات.. ولا يمكن ان ينكر ذلك احد اذ تثبت الوثائق ان الطائفية كان لها حساباتها القبيحة في المعادلة العراقية لازمان ولت !

وكان من المؤمل ان يبدأ عهد سياسي جديد في العام 2003 يستند على العقل بتجريد العراق من اية محاصصات طائفية وتأسيسه على اسس قطائعية حديثة، اي بولادة نظام تاريخي له قطائعه مع كل الترسبات باستثناء العراق وخصوصياته الوطنية وقيمه الحضارية.. وبالرغم من مناشدة العديد من رجالات الفكر والساسة العراقيين بعلمنة او – كما اسميها – بأهلنة الحياة السياسية العراقية الجديدة، ولكن كل هذا وذاك لم يحدثا. كنت اتمنى على الساسة العراقيين الذين شاركوا في مؤتمر لندن ان يبعدوا انفسهم عن ممارسة اي دور خلال المرحلة المؤقتة، ويمنحوا الفرصة لفريق عمل من التكنوقراط المستقلين لادارة الاعمال الفنية في حين تنبثق مجالس محلية في كل محافظة، ينتخب من بين اعضاء كل مجلس ممثلا يشارك في مجلس للادارة في العراق على ان تراعى فيه الحجوم السكانية لكل محافظة، ويبدأ العمل وتكون قراراته ملزمة ويعمل لاعداد الانتخابات ومن طرف آخر يعالج مع الامم المتحدة على تنفيذ القرارات حول شأنه ومصير الاحتلال مع السعي على تصفية الديون..

لقد ارعبتني عبارة قالتها مؤخرا احدى العراقيات المثقفات المقيمات في لندن منذ سنوات عندما اجابتني بحدة وهي تعاتبني: (كيف تقف يا استاذنا مع هؤلاء.. افضّل ان ينقسم العراق الف مرة ولا ارى الشيعة يحكموننا !؟؟ ) فزجرتها وعنّفتها.. وبعد ايام صدمت صدمة من نوع آخر وانا اقرأ ما كتبه احد العراقيين بأنه (يفضّل الانقسام والاستقلال في الجنوب والانفصال عن المثلث السني المتخلف ) !! ان كلا من هذين الاثنين لا يدركان قيمة التاريخ ولا يمتلكان اي افق واسع من التفكير.. انهما نتاج علاقات مشوهة نفخ في نارها واجج سعيرها النظام السابق، وجاءت المحاصصة الطائفية لتزيد على النار حطبا.

فراغات التأسيس: خطايا مجلس الحكم الانتقالي

جاء في واحدة من خطابات الملك فيصل الاول مؤسس العراق في القرن العشرين قوله: " كل عمــل لا يشّيد على أساس متين.. لا تقوم له قائمة " ! وهنا نتساءل: سواء اتفقنا ام اختلفنا مع الاخوة من الساسة العراقيين الجدد الذين غدوا اصحاب قيادة انتقالية واسميت مؤسستهم بـ " مجلس الحكم الانتقالي ": هل كانت اعمالهم ومنجزاتهم قوية ام هزيلة ؟ واذا ما وجدوا انفسهم انهم لا يستطيعون تحمّل المسؤولية الصعبة للعمل من اجل العراق والعراقيين حتى وان كانوا منضوين تحت راية السفير بول بريمر، فلماذا استمروا في مناصبهم ؟
كم كان حريا بمؤسسة ولدت كسيحة وعاشت وماتت وهي كسيحة ان تغيب غيابا نهائيا عن الساحة ؟ ولا اعتقد ان عراقيا واحدا باق حتى هذه اللحظة وهو يتقّبل كل الترديات التي جسدّها مجلس الحكم الانتقالي الذي زادت سلبياته على ايجابياته.. كيف قبل اولئك الساسة الاعضاء في مجلس الحكم الانتقالي من سادة وسيدات مبدأ العمل على اسس المحاصصة الطائفية التي صفق لها الملايين ويا للاسف الشديد من دون ادراك مغازيها الساذجة وآلياتها المتخلفة ونحن نتكلم عن عراق متطور ومعاصر لا يتقبل الا ما هو مدني ؟؟ كيف يمكننا ان نقّيم تجربة مجلس الحكم الذي عّين اعضاؤه تعيينا لا علاقة للشعب العراقي به ان يؤكد انه قادر على ان يقّدم للعراق وللعراقيين شيئا ؟ كيف يمكننا ان نتقبل ان يكون البعض من اعضائه وعضواته اصفارا على الشمال مع احترامي للبعض الاخر من اعضائه ؟ كيف يمكن للعراقيين ان يتخيلوا ان ذلك البعض من الحكام العراقيين الجدد نسوة ورجالا يمكنهم سد الفراغات التي احدثها سقوط الطاغية الذي كان يرعب بنظراته فقط كل العراقيين ؟

واذا كانوا من طّلاب المناصب وقد جاءوا لملىء الفراغات الطائفية او العرقية او الدينية حسب اجندة ارادتها الولايات المتحدة الامريكية.. فكيف يمكن للعراقيين ان يسكتوا على اساءات حصلت وقد اضرت بمصالح العراق العليا وخصوصا في أمن العراقيين واستقرارهم ؟ وكيف يمكن لاطراف اخرى وشخصيات وطنية وقوى نضالية شاركت حتى في مؤتمر لندن قبل سقوط النظام ان تقبل تهميشها ولها سمعتها وتياراتها السياسية في العراق وخارجه ؟ لماذا قبل بعض الاخوة من رؤساء الاحزاب الاساسية في المعارضة العراقية سابقا تهميش قوى سياسية عراقية اخرى ربما انا شخصيا لست مع توجهاتها، ولكن كانت ولم لها جماهيرها وساحتها في العراق ؟ كيف نتخيل ان تحدث كل تلك التحولات اثر حرب ضروس دفع العراق ثمنها غاليا من اجل خلاصه من حكم الطاغية لاستقبال عهد جديد.. ويأتي الامريكيون بطاقم قد لا ابخس حق كل رجالاته ولكن التاريخ سيلومهم ومن نصبهم.. اننا نتساءل: كيف يمكن التحرك في دوامة تلك التحولات مع شخصيات لم يعرفها الشعب العراقي، وان من بينها من كان لا يعرف كيف يركب جملة مفيدة ؟

تجربة لابد ان يتعّلم العراقيون منها شيئا

كيف يمكننا ان نتقبل ما كان قد اصدره مجلس الحكم الانتقالي من قرارات وتعليمات بائسة غدت اضحوكة لكل العالم بعد ان تخّلى اعضاء المجلس نفسه عنها ؟ والامثلة لا حصر لها.. لقد كان الامن والنظام مطلوبا جدا في كل انحاء العراق والاخوة اعضاء المجلس يتنقلون من بلد لآخر، او ينزوون في بيوتهم، او يصّرح احدهم ضد الاخر او يقرر البعض من دون البعض الاخر.. او ان ينشغلوا بأمور تافهة وقد تركوا الوزارات هزيلة.. او ان يدركوا حجم ما كان ينهبه هذا ويختلسه ذاك من دون اي اعتراض.. وان سألتهم قالوا ان الامر بيد الامريكان. فاذا كنتم غير مؤهلين لمخاطبة بول بريمر كما يجب، فلماذا بقيتم تتحملون مسؤولية العراق وهو يعيد تأسيسه في اصعب مرحلة تمر بها البلاد ؟
اين هي الشفافية في العمل السياسي العراقي ازاء تصريحات سيئة اطلقها بعض اعضاء مجلس الحكم من دون اي محاسبة وهي تمس ليس السيادة الوطنية المفقودة، بل تخص مستقبل مصالح العراق الوطنية ازاء ايران مثلا ؟ كيف تتقبلون ان يتدّنى احدكم من اعضاء مجلس الحكم لزعيم عربي كي يستجدي منه النقود لنفسه ؟ وكيف يمكننا ان نتصور احداهن وكانت عضوة في مجلس الحكم وقد سمعتها تقول متبخترة بأنها مؤهلة وزيرة للدفاع لأن ابيها كان من رجالات العراق العسكريين الافذاذ.. ولما سألها السائل عن منصبه، اجابت: كان نائب ضابط ؟ ولا ادري هل ان العراق قد خصي عن انجاب قادة مرموقين واداريين مهرة وساسة حاذقين لكي يتولوا اول تجربة في تأسيس العراق الجديد بديلا عن بضعة ناس مع احترامي للبعض منهم، الا ان مجلسهم الموقر احتوى على مترهلين ومتكلسين ومغفلين وطائفيين.. الخ

انني اذ انتقد نموذجا سيئا في عراق ما بعد صدام يمثله بعض ما انتجه مجلس الحكم الانتقالي، فانني اشير من طرف او آخر عما يمكن تأسيسه من خلال حكومة منتخبة جديدة ودائمة وخوفي ان تعاد تجربة ذلك " المجلس " من جديد وباثواب واشكال واسمال مشابهة من خلال لعبة انتخابية.. ان الشعب العراقي لابد ان يعي حقائق اساسية اليوم بعد ان غّيب وعيه طويلا.. ولا اريد ان اخوض بأي ملاحظات ضد تجربة الحكومة المؤقتة الحالية بالرغم من بعض اخطائها، ولكن لا يمكن البتة ان تقارن بتجربة مجلس الحكم الانتقالي السيئة، ويكفي ان هذه الحكومة جابهت منذ تشكيلها حتى اليوم ازمانا صعبة للغاية.. ولكن سيأتي اليوم الذي يمكننا فيه ان نحلل تجربتها على مهل من اجل ان تعلمنا هذه التجربة او تلك ما الذي يمكن ان تتحلى به الحكومة العراقية المقبلة.. وامامها مهام صعبة للغاية في تشكيل العراق الجديد.

لعبة المحاصصة الطائفية

ان العراقيين من الساسة الجدد الذين تحالفوا مع الامريكيين قد أخطأوا اخطاء جسيمة باحياء اللعبة الطائفية والعمل من خلال مبدأ المحاصصة الطائفية في توزيع المناصب.. وهذا ما اثار حفيظة ليس الطوائف حسب، بل اثار الاقليات واصحاب الديانات والاعراق ومختلف المذاهب، وكأن السياسة قد خلقت لتوزيع العطايا والمناصب، مما جر الى تفجير الوضع الاجتماعي في العراق بعد فترة من الزمن كان العراقيون يسيرون بتظاهراتهم ومسيراتهم وهم يطالبون بحاجاتهم ويعلنون عن مطاليبهم.. ان صوت العقل يدعونا للتأمل في ان يكون العراق مرجلا يغلي باحقاد اهله بعضهم ضد البعض الاخر.. وكراهية اهل هذه المناطق ضد مناطق اخرى.. واعتقد بأن رجالا عقلاء من السنة والشيعة قد اعلنوا جهارا بأن العراق لا يمكن ان يسلم بجلده اذا ما لعبت به الطائفية والعمل على اسس المحاصصات..

ان بلادا متنوعة كالعراق لا يمكنها ان تحيا وتعيش وتزدهر وتتطور الا اذا ارست قطائع حقيقية وعلى اسس مؤهلنة لا طائفية فيها والاعتماد على الكفاءة والخبرة.. وكم تمنيت ان يكون زعيم العراق مسيحيا او مندائيا او كرديا او تركمانيا او عربيا .. سنيا او شيعيا لا فرق اذا ما وصل الادراك والوعي الى درجة يبتعد فيها العراقيون عن التحزبات الطائفية والدينية التي ربما لا تكون خطيرة في بلدان اخرى، ولكنها ستغدو خطيرة جدا في العراق وتشكل عائقا حقيقيا لكل من المجتمع والدولة معا. انني اعتقد بأن الاجيال السابقة في العراق كانت تدرك قيمة التعايش الاجتماعي في العراق الذي من دونه لا يمكن نجاح اي تجربة سياسية، ومن دونه لا يمكن لأي نظام سياسي ان يبقى حيا.. ان سر تطور العراق عبر التاريخ كان يعبر عنه انسجام رائع بين العراقيين بمختلف الوانهم واجناسهم ومللهم ومذاهبهم وطوائفهم.. اذ لم اقع ابدا في كتب التاريخ وآثاره على ما يسمى هذا بالاكثرية وتلك بالاقلية ! لقد كانت الاقليات الدينية كاليهود العراقيين والصابئة المندائيين والمسيحيين العراقيين الشرقيين بمختلف مللهم.. وكلهم من اقدم سكان العراق يرتبطون بمدنهم وارضهم ارتباطا شديدا.. وكانت مختلف الاعراق والاجناس في العراق لها علاقاتها الوشيجة بالبيئة والارض والنهر..

اما العرب بمختلف اشكالهم وتقسيماتهم العشائرية والمدينية قد اندمجوا بشكل مذهل في الاوساط الاجتماعية الاخرى، وربما كانت الصراعات القبلية والعشائرية لا نراها الا ضمن الهيئة الواحدة، فالعرب لهم صراعاتهم ونزاعاتهم فيما بينهم، وكذا الاكراد والاقوام الاخرى.. ويندر وجود اي نزاع او صراع بين قومية واخرى في العراق. وهكذا بالنسبة للمسألة الطائفية في العراق لم تجد لها اي فرص للصدام بين طائفة واخرى، اذ كان المجتمع العراقي متوازنا ومنسجما مع بعضه الاخر ولم يؤسس هذا النزوع الخطير الا الحكومات القومية الفاشية المتخلفة في العهد الجمهوري والتي ارجعت العراق ومجتمعه عشرات السنين الى الوراء. ومن الامور التي لا استطيع استيعابها ان ترسخ المحاصصات الطائفية والعرقية في كل من المجتمع والدولة العراقيين ونحن نعيش في بدايات القرن الواحد والعشرين.

[email protected]