بعد هزيمة القوات العراقية أمام قوات الحلفاء إثر عاصفة الصحراء وتحرير الكويت، وتفجير انتفاضة شعبية عارمة في أقليم كردستان وجنوب العراق ضد النظام العراقي البائد في آذار 1991، وتصدي النظام للانتفاضة الجماهيرية الباسلة، وارتكاب مجاذر دموية ضد الكرد والشيعة، والعمل على القتل الجماعي وملاحقة الكرد في كردستان والشيعة في الجنوب تدخَل المجتمع الدولي، وتشَكلت منطقة آمنة في كردستان العراق (الملاذ الآمن) بقرار من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة في شمال خط العرض 36 . وفي 5 نيسان 1991 عزز الموقف الكردي دوليا بعد قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 688 . حيث قضى القرار بوقف ملاحقة الكرد ووضع حد لقمعهم، وتسهيل امدادهم بالمعونة الانسانية. ودعم قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 986 والقرار 988 اقتصاد كردستان العراق حيث أصبح للكرد حصة من مبيعات النفط العراقي بنسبة 13%. وانفصل أقليم كردستان عن مركز العراق من الناحية العملية بعد أن فرض النظام العراقي حصارا اداريا واقتصاديا عليه، في الوقت الذي كان العراق يعاني من حصار اقتصادي فرض عليه مجلس النواب الأمريكي بموجب ( مشروع قانون فرض العقوبات الاقتصادية على العراق في 13 أيلول/سبتمبر 1988).

في هذه الحالة الاستثنائية عقدت انتخابات ديمقراطية في اقليم كردستان لأول مرة في أيار 1992، وفاز الحزبين الكبيرين، الديمقراطي الكردستاني 51% ، والاتحاد الوطني الكردستاني 49% من الاصوات. ولاشك أن الحزبين الكبيرين تقاسما السلطة مناصفة في البرلمان، حيث يرأسه عنصر من الديمقراطي الكردستاني، والحكومة حيث يرأسها عنصر من الوطني الكردستاني. واستمر الحال كذلك، في مسرحية تقاسم السلطة، الى عام 1994، حيث كان من الصعب الإتفاق على كثير من المشاريع والاحكام والقرارات بسبب إشكالية المناصفة، والتوجهات السياسية والادارية المتناقضة.وفتحت الحدود مع تركيا كطريق دولي مهم، وأصبحت نقطة الحدود الدولي، البوابة الرئيسة للكرد مع العالم، ودخلت ملايين الدولارات في خزينة البارزاني مما قوي مركز حزبه الديمقراطي الكردستاني. وكانت هذه الموارد تدخل في ميزانية العائلة البارزانية ولم تدخل في ميزانية البرلمان والحكومة. وبذلك حرم الاتحاد الوطني الكردستاني الذي كان يترأسه الطالباني، كما حرمت المؤسسات الإدارية الكردستانية الاخرى من هذه الموارد. وتعمقت الفروقات الإقتصادية بين منطقتي نفوذ البارزاني والطالباني، وشلت المؤسسات الديمقراطية المنتخبة، وتراجعت العملية الديمقراطية الى الوراء، وحدثت اصطدامات مسلحة لمدة أربع سنين بين الفصيلين الرئيسين، كان أعنفها بين 1994-1996، قتل من جرائها آلاف الكرد على مذبحة عائدات أم الكمارك في إبراهيم الخليل.

برهنت الأحداث مدى فشل مناصفة السلطة بين التنظيمين الكبيرين، وعدم الاحتكام الى رأي الشعب في الانتخابات. فرأي الشعب تراجع الى الوراء، وتقدمت المصالح العشائرية والفردية الى الأمام، وتكدست الأموال في جيوب قلة من الناس على حساب الشعب. واستمرت المأساة رغم الوساطات العديدة من قبل الأخوة العرب والحزب الشيوعي العراقي والوطنيين من المعارضة العراقية. واخيرا تدخلت الولايات المتحدة الامريكية، واجبرت الجانبين بالتصالح وفق ما سميت "إتفاقية واشنطن للمصالحة والسلام" في 17 أيلول/سبتمبر 1998 والموقعة من قبل السيدين الطالباني والبارزاني وديفيد ويلش مساعد وزيرة الخارجية الامريكية اولبرايت. وتضمنت الإتفاقية إدانة الاقتتال الداخلي، واقامة حكومة اقليمية موحدة على اساس نتائج انتخابات عام 1992 وتوحيد الادارتين في كردستان واسترجاع الإيرادات الكمركية الى خزائن حكومة الاقليم، وتهيئة الأجواء لإجراء انتخابات حرة في منتصف عام 1999. مع الأسف الشديد لم تتحقق بنود تلك الافاقية سوى بند المصالحة. فالحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة البارزاني رفض تحويل ملايين الدولارات من الإيرادات الكمركية الى خزائن حكومة الاقليم، وهم لازالوا يحتفطون بتلك الاموال. ولا ندري فيما اذا انتخب الشعب حكومة ديمقراطية، لسحب تلك الاموال ووضعها في خزينة الاقليم يوما ما، لأنها أموال الشعب.

نتأسف أن نقول بأن العملية الديمقراطية تراجعت الى الوراء، فلم تجر أية انتخابات برلمانية ديمقراطية في أقليم كردستان منذ عام 1992 رغم أن قانون المجلس الوطني الكردستاني يقضي بإجراء مثل هذه الإنتخابات كل أربعة أعوام. وبقيت الإدارتان منفصلتان، في أقليمين وبرلمانين وحكومتين. ومقابل ذلك كثرت اللقاءات والإجتنماعات وتبادلت القبلات بين الرؤساء والمسؤولين، وكثرت بناء القصور وشراء السيارات الفخمة، والتباهي تحت مظلة الديمقراطية. طبيعي يعتز الشعب الكردستاني بتلك الديمقراطية الناقصة، إذ كانت أكثر الديمقراطيات تقدما بالمقارنة مع كثير من الأنظمة الشمولية في المنطقة. ولكن ذلك لايعني أنه يجب القبول بما هو موجود دون نقد وتصحيح، فالشعب الكردي يتطلع الى الأفضل، في قيادة ينتخبه الشعب كل أربع سنين. تغيرت الأوضاع كليا في المنطقة بعد سقوط نظام صدام حسين في نيسان 2003. ودخل العراق مرحلة التحرير من سلطة المقابر الجماعية والأسلحة الكيماوية. وبعد ذلك دخل مرحلة الاحتلال، ومن ثم مرحلة التصديق على قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الإنتقالية في 9 مارس 2004 . وإعادة السيادة للعراق بموجب قرار مجلس الأمن الدولي المرقم (1546) في يونيو/حزيران والتأكيد على اجراء الانتخابات البرلمانية في العراق في مدة أقصاها 31 كانون الثاني/ يناير 2005، وهو نفس ما جاء في الفقرة (ب) من المادة الثانية من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الإنتقالية.

يدخل العراق الانتخابات الديمقراطية في 31 يناير/ كانون الثاني عام 2005. وهناك قائمة موحدة للشعب الكردي وأحزابه للدخول في الانتخابات البرلمانية العراقية، وهذا شئ حسن، إذ لابد من توحيد صفوف الكرد لمواجهة القوى العراقية التي تدخل في تكتلات ديمقراطيا وسلميا. وهذا موضوع مفروغ منه، رغم أن بعض القيادات الكردستانية كانت تفتقد الى الرؤيا في مسألة الانتخابات العراقية. فقد صدر البلاغ الختامي من مؤتمر دوكان المنعقد بين 18-19 نوفمبر 2004 وحضره 15 حزبا عراقيا بدعوة الطالباني والبارزاني. و "بحث الاجتماع في انجاز الاستحقاق التاريخي، اجراء الانتخابات العامة، واكد على اهميتها وضرورتها لاضفاء الشرعية الكاملة على السلطة الوطنية، ولاقامة المؤسسات الديمقراطية، وبناء دولة القانون. لكن تراجعت القيادات الكردستانية وطالبت مع أحزاب عراقية أخرى بتأجيل الانتخابات. ثم تراجعت من جديد وأقرت بدخول الانتخابات. نحن لا نناقش مسألة الانتخابات البرلمانية العراقية لأنها مفروغ منها. لكن ما يهم الشعب الكردي على الساحة الكردستانية هو اجراء الانتخابات الديمقراطية في أقليم كردستان لانتخاب برلمان كردستاني في نفس الفترة التي تجري فيها الانتخابات العراقية. فالخلاف الكبير يكمن هنا وليس هناك، لأن السيناريوهات التي نشاهدها على الساحة الكردستانية تجعل الشعب الكردي في حالة قلق من المستقبل الديمقراطي في أقليم كردستان. فالسؤال الكبير: مالذي جعل القيادات الكردستانية تقع في هذه المرحلة البائسة من حالة اللاوعي بالتاريخ؟

ذكرنا بأن تقاسم السلطة بين الحزبين الكبيرين الوطني الكردستاني بزعامة الطالباني، والديمقراطي الكردستاني بزعامة البارزاني أضر بالعملية الديمقراطية الكردستانية، وقسَّم أقليم كردستان الى شقين متصارعين في الواقع العملي. ولذلك فإن الشعب الكردي يرفض مهزلة مناصفة السلطة بين الحزبين، ويدعو الى التحكم الى الشعب واحترام إرادته. فقد طلب الحزب الديمقراطي الكردستاني مؤخرا من الحزب الشيوعي الكردستاني والاتحاد الاسلامي الكردستاني وربما حزب كادحي كردستان بالتعاون لتقاسم السلطة، لكن رفضت هذه الأحزاب الفقيرة الدخول في قائمة حزب البارزاني الغني، واصدرت بيانا بين فيه أن كل حزب من هذه الاحزاب يريد أن يدخل الانتخابات البرلمانية الكردستانية بمفرده ويتحكم لإرادة الشعب الكردي، ويرضى بما يحصل عليها من أصوات الناخبين. وبعد ذلك طالب حزب البارزاني من الأتحاد الوطني الكردستاني والطالباني بتقسيم السلطة مناصفة، والدخول في انتخابات البرلمان الكردستاني في قائمة موحدة. لكن لم يوافق التنظيم الاخير على الاقتراح لحد الأن. إذ يرى الإتحاد الوطني الكردستاني، لحد الآن على الأقل، أنه من الأفضل أن يدخل كل حزب في الانتخابات ضمن قائمته الخاصة، ولابد من احترام ارادة الشعب. طبيعي الحبل على الجرار، والمساومات مستمرة، والتغييرات قادمة. لكن ما أود أن اشير في هذا المقال هو خطورة اللامبالاة برأي الشعب، من خلال مساومات القائمة الموحدة للتنظيمين الكبيرين وتوزيع المقاعد مناصفة، وتقاسم السلطة بينهما. إنها مأساة بالنسبة للكرد في تهميش دور الشعب، وعدم احترام ارادته، ورغبة حزب معين تراجعت شعبيته الى الوراء كثيرا بفعل الإستياء الشعبي لكثير من ممارساته خلال هذه السنين، بالعمل على الاحتفاظ بالسلطة بكل الوسائل، ضمن قوائم مشتركة. إن مهزلة تقاسم السلطة أثبتت فشلها في الممارسة الديمقراطية، واصبحت مقصلة الكثيرين من أبناء الشعب الفقير، وجعلت أبناء الشعب يقتنعون بأنه لابد من معرفة قوة كل حزب في كردستان. فالحزب الديمقراطي الكردستاني يدعي أنه اكبر الأحزاب الكردستانية، وكذلك الاتحاد الوطني الكردستاني والاتحاد الاسلامي الكردستاني. وعليه يريد الشعب أن يعرف من خلال الانتخابات قوة هذه الاحزاب، كما أنه من مصلحة هذه الاحزاب أيضا أن تعرف قوتها الحقيقية من خلال الانتخابات الديمقراطية والتصويت لكل حزب بدلا من مهزلة تقاسم السلطة مسبقا على حساب الشعب، والدخول في صراعات جانبية ومعارك دموية، يدعي كل طرف أنه الأقوى.
إنني أدعو الاخوين الطالباني والبارزاني، كما أدعو القيادات الكردستانية الاخرى أن تدخل الانتخابات البرلمانية الكردستانية، كل في قائمته، لنفض الغبار، ورفع الستار لمعرفة ما تختفي وراءه. يريد الشعب أن يعرف، وأن يعرفوا هم قوتهم ومدى تعاطف الشعب معهم. أما على صعيد العراق، فهم مطالبون بتوحيد الصفوف، والدخول في الانتخابات البرلمانية العراقية بقائمة واحدة مع القوى العراقية الفاعلة التي تؤيد حقوق الشعب الكردستاني في عراق ديمقراطي فدرالي تعددي برلماني موحد في الوضع الراهن.