إطلالة في الصميم
القتل بمعنى إزهاق الروح يعتبر في حد ذاته جريمة بشعة، بل هي أبشع جريمة عرفها التاريخ البشري، وقد شدَّدت الشرائع السماوية والأرضية على استنكارها وشجبها، فإن أكبر جريمة يقترفها الإنسان هي زهق روح بلا سبب موجب، ولا داع معادِل، والقرآن الكريم يستفظع صراحة وبقسوة هذه الجريمة المنكرة، فقد ساوى بين قتل نفس واحدة وقتل البشر كلهم (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنَّه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا)، وفي الحقيقة نلتقي هنا بتصوير بالغ الخطورة لقيمة الإنسان، وبالتالي، ما تحمله عملية القتل الجزافي من خطر ينطوي على تصديع الوجود كلِّه، فالقتل جريمة كونية مخيفة.
الفطرة الإنسانية الشفافة تفزع من منظر الدم الحرام، ومن هنا كان دهشة العبد الصالح من إقدام موسى على قتل ذلك الرجل (أقتلت نفساً زكيَّة بغير نفس)، فهذه الدهشة تعبير عن الاستنكار الروحي الفطري لزهق روح بريئة، هناك دهشة من ثقل الجريمة، قتل نفس بلا ذنب وبلا دليل يعادل إعدام التاريخ البشري كله !
هذا الموقف القرآني من القتل يتكرّر بصيغ متعدِّدة وبمناسبات متعدِّدة، فقد واجه القتل خشية الفقر برفض صارم لا هواده فيه (قد خسر الذين يقتلون أولادهم سفها بغير علم)، وعلى هذا الامتداد قوله تعالى (لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا)، فهو آثم كبير، وفي هذا يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الإنسان بنيان الله ملعون من هدم بنيان الله)، ومّما يترجم هذا الموقف قوله تعالى (وإذا الموؤدة سُئلت بأي ذنب قُتِلَت).
كان من عادات قوم إنّهم يكّفرون عن آثامهم وذنوبهم بـ (قتل) أنفسهم، فما كان من الوحي إلاّ منعهم من هذه العادة أو العقيدة الفاسدة (ولا تقتلوا أنفسكم أن الله كان بكم رحيما)، ولمّا طلب الله تعالى من بن إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم للتكفير عن عبادتهم العجل، إنّما كان يعني التلاوم والتأسف المتبادَل، ولا يعني القتل بمعنى إزهاق الروح كما أتصور، فان تلك الطريقة بشعة وحشية تبعث على القرف.
كانت من أبرز المؤاخذات التي سجّلها كتاب الله على بعض اليهود من قدامى بني إسرائيل كونهم قتلة، قتلة الأنبياء، وفي الحقيقة ليست المؤاخذة تأسّست هنا بلحاظ العنصر النبوي في المعادلة، وإنَّما بلحاظ القتل أولا، ثم نموذج المقتول البريء، حيث يزيد من سخونة الفضاء الذي تفرزه الآية كون المقتول هم الأنبياء عليهم السلام (يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين). فليس شيئاً غريبا أن يتشدَّد الفقهاء بأمر الدماء، يتحرّجون كثيراً، وقد جعل الإسلام شرط رجم الزاني المُحصن شهادة أربع شهود عدول، على أن تكون العملية بكاملها محل رؤية حسيَّة متطابقة، فإن كل ذلك من أجل احترام الدم!
كل نفس محترمة، بما في ذلك ا لنفس الحيوانية الأليفة، لا يجوز إزهاق النفس البشرية بلا نفس أو فساد في الأرض، فما أعظم هذا التوثيق لقيمة الذات الإنسانية في كتاب الله عزّ وجل؟
القتل الجزافي يعادل الخسارة (فطوَّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من ا لخاسرين)، ولذا يقول الله تبارك وتعالى (ولا تقتلوا لنفس التي حرّم الله إلاّ بالحق)، حتى القصاص الذي هو قد يكون (القتل) من أحد مصاديقه إنَّما هو لحفظ النفس بالذات (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)، فلك يكن القصاص لذات القصاص كما هو معلوم، وإنَّما هو لصيانة النفس البشرية من الإهدار والذبح والقتل الجزافي.
الخوف من القتل مشروع لانّ من حق النفس الإنسانية أن تعيش، فهذا الوجود لها، والقتل يحرمها من نعمة الوجود، فليس غريباً أن يخاف الإنسان القتل أكثر من أي مصير آخر، وذلك حتى بالنسبة للأنبياء الكرام (قال ربِّ إنّي قتلت منهم نفساً فأخاف أنْ يقتلون)، وموسى هنا يخاف أن يقتلوه رغم انّه كان قد بادر بالقتل أولا ! ممِّا يكشف عن هذا الهلع تجاه القتل، ذلك لأنَّه يعبر عن حرمان أقصى من الحياة.
القتال بحد ذاته، أي بالنظر إليه من حيث هو بمثابة شر، ظلمة، تجويف للوجود، تصديع للحياة، وهو يتنافى مع الفطرة السليمة، وهو إضافة لذلك كريه ثقيل عندما يتحوّل إلى واجب (كُتِب عليكم القتال وهو شرّ لكم)، ومن هنا ينبغي التخلص من هذا العبء الثقيل في أي فرصة ممكنة (فإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، فالقتال عارض، شبح مخيف يدمِّر الحياة، ويزرع الأحقاد، وهل قتل قابيل لهابيل إلاّ جريمة كبرى اهتز لها عرش الله تعالى ؟
القتال من القتل كما هو معلوم، وهو إزهاق الروح في سياق قتالي حربي بين طرفين، قد يكون بين شخصين أو أُمَّتين أو دولتين أو عشيرتين أو حزبين، وهو بطبيعة الحال مكروه تبعاً لكره القتل، ومن هنا يحرص القرآن الكريم على تجنُّب القتال إلا إذا كان لغاية أعظم، ويرجِّح القرآن الكريم السِّلم على الحرب في نطاق كل ممكن متوفِّر (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، وفي أية أخرى يقول تعالى (أُدخلوا في السلم كافَّة ولا تتبعوا خطوات الشيطان)، رغم أنَّ بعضهم يصرف كلمة السلم هنا إلى الإسلام، وفي آية أخرى (فلا تهنوا وتدْعوا إلى السَّلم كافَّة وأنتم الأعلون)، وهناك نقطة في غاية الأهمية، ذلك أنَّ الإسلام خيّر أهل الكتاب في (الحرب) بين الإسلام أو الجزية أ و القتل، وكما هو معلوم إنَّ الجزية ضريبة زهيدة جداً، وهي لا تُفرَض إلاَّ على المُتمكِّن كما مرَّ تفصيله، وبذلك يبدو واضحاً إنَّ الإسلام يرمي حقن الدم قبل كل شيء، فإنَّ الجزية لا شيء يُذكَر بالمرّة نسبةً إلى أوزار القتال من خراب ودمار ودم وخسارة وحقد، لقد جعل من الجزية هذه وسيلة لإنقاذ الحياة بكل معانيها الجميلة، بكل مساحاتها الرائعة، فدى كل ذلك بجزية ليس لها ذكر من بين أقل ما يمكن أن يترتب على دفعها من مستحقات الوجود الخيّر، ونظرة بسيطة إلى القصد من الجزية، نكتشف إنَّ القرآن كان يرمي أولا وأساساً إلى حقن الدم، وحفظ النفس، فالجزية ليست مطلوبة لذاتها، بل مطلوبة لهذا الهدف السامي النبيل.
آيات القتال / إستعراض عام
1 : قال تعالى (إن الله يدافع عن الّذين آمنوا إنَّ الله لا يحبُّ كلَّ خوان كفور، أُذِن للّذين يُقتَلون بأنهم ظُلِموا وإنَّ الله على نصرهم لقدير، الذين أُخرِجوا من ديارهم بغير حق إلاّ أن يقولوا ربُّنا الله...) الحج، 39، 40.
تتضمن الآيتين (الإذن) بالقتال وهي كما يروي كثير من العلماء أولَّ ما نزل من القرآن الكريم في مجال (الإذن) بالجهاد، فقد كان المؤمنون يستأذنون الرسول بذلك فلا يأذن به، حتى نزلت هذه الآية الكريمة، وقيل أنَّ أول ما نزل في ذلك قوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الّذين يقاتلونكم...) البقرة 190، ولكن الآية السابقة تأذن فيما آية البقرة توجب، وفارق كبير بين الحالتين كما هو معلوم. والآية تقيِّد (الإذن) بالظلم المسبق، كأن يكون ضرباً أو قتلاً أو إخراجاً من الدار، أو تهجيراً بلا سبب، وبالتالي لا يجوز للمؤمنين القتال إذا لم يُسبقوا من قبل الآخر.
2 : قال تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الّذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنَّ الله لا يحب المعتدين 191، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنّة أشدًُّ من القتل ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين 192، فإن انتهوا فإنَّ الله غفور رحيم 193، الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين 194، وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا أيدكم إلى التهلكة وأحسنوا إنَّ الله يحب المحسنين 195) البقرة 190 ــ 195.
ذهب أكثر من مفسّر وعالم قرآني إلى أنَّ الآية رقم (191) من سورة البقرة هي أوَّل آية نزلت في القتال، أي تأمر بالقتال في سياق تفصيلات سوف نتعرَّض لها، وإنَّها جزء من هذا المقطع الذي يبدأ بالآية رقم 191 وينتهي بالآية رقم 195، من هؤلاء الطبرسي والرازي والطباطبائي وغيرهم من العلماء قديماً وحديثاً، وكان بعضهم يقول أنَّها نُسٍخَتْ بالآية رقم (192)، حيث رفعت القيد (الذين يقاتلونكم)، وأمر بقتال المشركين ابتداء (حيث ثقفتموهم) ولكنّه استثنى ذلك بان لا يكون في المسجد الحرام، إلاّ إذا إبتدأ المشركون ذلك في المسجد الحرام ! ومعنى هذا أنَّ الآيتين نزلتا في وقتين متتاليين، وليس في وقت واحد، ويستمر آخرون ليقولوا بان الآية الناسخة (192) الناسخة للآية رقم (191) هي الأُخرى تعرَّضت للنسخ بالآية رقم (194) حيث أمرت بقتال المشركين في أي مكان، أي انتفى شرط ابتداء المشركين بالقتال في المسجد الحرام، وهذا يعني إنَّ الآيتين رقم (192) ورقم (194) لم ينزلا معا، وبالتالي تكون الآيات نزلت في أزمنة متباعدة !
قال في أسباب النزول للنيسابوري نقلاً عن ابن الكلبي، عن أبن عباس، أنَّ هذه الآيات نزلت في صلح الحديبية، والصلح كان في سنة
أتصور أن مثل هذا السلسلة من التغيرات الكبيرة المفاجئة لا تتناسب مع قدس القرآن وكونه شريعة لتنظيم الحياة على أسس راسخة، فذلك أشبه باللعبة، وهي تربك المجتمع أكثر من أن تنظِّمه على أُسس واضحة راسخة متينة، ولعلّ قراءة بسيطة للآيات تكشف عن نظم متناسق متجانس يعالج قضية واحدة هي مقاتلة مشركي مكة، لا أكثر ولا أقل، فضلاً عن كون النسخ نفسه مرفوض لدى كثير من العلماء من حيث المبدأ أساسا، وسيأتي حديث أكثر في ذلك، لأن هناك من يقول أنّ الآية رقم (191) منسوخة بقوله تعالى (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم) وهي آية رقم (5) من سورة التوبة. وعند معالجة الآية يجب معالجتها على ضوء الآراء المختلفة في نسخها وعدم نسخها.
قال السيد الطباطبائي بعد أن قام بعملية تفيك جيد للآيات الكريمة (... فقرب أن يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضا كما احتمله بعضهم، ولا أن تكون نازلة في شؤون متفرقة كما ذكره آخرون، بل الغرض منها واحد هو تشريع القتال من مشركي مكّة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين) 1 / 61.
3 : قال تعالى (كُتب القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبّوا شيئاً وهو شرّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون، يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدُّ عن سبيل الله وإخراج أهله منه أ كبرُ عند الله والفتنة اكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدُّ منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، إنَّ الّذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم) البقرة 216، 217 218.
الآية تحرِّم القتال في الشهر الحرام، وقد [ قيل : إنّها منسوخة بقوله تعالى : (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم / التوبة 6) وليس بصواب ] الميزان 2 / 167. نعم يجوز القتال فيه إذا أُبتدئ المؤمنون بذلك.
الآية كما يذكر بعض علماء القرآن نزلت في معالجة خطا كبير ارتكبه بعض المؤمنين بقتل مشرك في الشهر الحرم، حيث غلبهم حب الدنيا، فخالفوا ما شرعه الإسلام القاضي بتحريم القتال في الشهر الحرام.
4 : قال تعالى (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم رأي العين و الله يومئذٍ يؤيِّد بنصره من يشاء أن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) آل عمران 13. الآية تتحدث عن معركة بدر الكبرى، وسوف نتعرّض لها لاحقا.
5 : قال تعالى (و كإين من نبي قاتل معه ربيًّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحبُّ الصابرين) آل عمران 146.
6 : قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزَّىً لو كانوا عندنا ما ماتُوا وما قتلوا ليجعلَ ا لله ذلك حسرةُ في قلوبهم والله يحي ويميت والله بما تعملون بصير، ولئن قُتِلتم في سبيل الله أو مُتُّم لمغفرة من الله ورحمة خير ممَّا يجمعون، ولئن مُتُّم أو قُتِلتُم لإلى الله تُحشرون، فيما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضُّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا فرغت فتوكَّل على الله أنَّ الله يحب المتوكّلين، أن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الّذي ينصرُكُم من بعد وعلى الله فليتوكَّل المؤمنون) آل عمران 156 ــ 160.
7: قال تعالى (وإذ غدوتَ من أهلك تُبوِّي المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم) آل عمران 121.
تذهب أكثر الأخبار أنَّ هذه الآية وما بعدها نزل في معركة أُحد، ومهما كان الأمر ليس في الآية ما يفيد تشريع القتال ابتداء، كما هو واضح.
8: قال تعالى (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قِتالاً لا تّبعناكم هم للكفر يومئذٍ أقربُ منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون، الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قُتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين، ولا تحسبنَّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربِّهم يُرزقون) آل عمران 167، 168، 169.
الآيات تعالج إشكالية معركة أُحد التي بدأتها قريش.
9 : قال تعالى (... فاستجاب لهم ربُّهم أنِّي لا أُضيع عمل عامل منكم من ذكرٍ وأنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأُخرجوا من ديارهم وأُوذوا في سبيلي وقاتلوا وقُتلوا لأكفرَّن عنهم سيئاتهم ولأدخلنَّهم جنَّات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسنُ الثواب) أل عمران 195.
جاء في مجمع البيان (روي أن أمّ سلمة قالت يا رسول الله ما بال الرجال يُذكرون في الهجرة دون النساء فأنزل الله هذه الآية، قال البلخي : نزلت الآية وما قبلها في المتبعين للنبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه، ثمَّ هي في جميع من سلك سبلهم، وحذا حذوهم من المسلمين).
الآية لا تشرّع بطبيعة الحال للقتال، وإنَّما تبين أجر المقاتلين في سبيل الله، ولكن لا تشي بأي إشارة عن هويِّة هذا القتال، هل هو ابتدائي أم هو دفاعي.
10 : قال تعالى (فليقاتل في سبيل الله الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيُقتل أو يَغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيما، وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربَّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياًَ ونصيرا، الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفا) النساء 74، 75، 76.
11: قال تعالى (فقاتِل في سبيل الله لا تُكلِّف إلاّ نفسك وحرِّض المؤمنين عسى الله أن يَكُّف بأسَ الذي كفروا والله أشدُّ بأساً وأشدُّ تنكيلا) النساء 84.
قال الرازي مختصراً (دلَّتْ الآية على أنَّ الله تعالى أمره بالجهاد، ولو لوحده قبل دعاء الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها، فكَرِهَ بعض الناس أن يخرجوا، فنزلت هذه الآية، فخرج وما معه إلاّ سبعون رجلاً، ولم يلتفت إلى أحد...) 5 / 508.
الأمر بالقتال هنا إذن جاء على خلفيَّة عدوانية أعدَّتها قريش، وليس عملية مبادرة غير مسبوقة بسبب موجِب من الطرف المقابل، ولعلّ قوله تعالى (عسى أن يَكُفَّ بأس الذين كفروا...) شاهد على أنّ هذا التحريض من أجل دفع ضرر قائم، بل دفع ظلم يمارسه جماعة معينة بحق النبي وأصحابه ورسالته، لا لشيء، سوى كونه لا ينزل عند عقائدهم ودينهم وشهواتهم.
الآيات نزلت في قضايا معركة أحد، ومن المعلوم أنَّ معركة أحد بدأها المشركون.
الآية في قضية أحد، تعالج موضوع المنهزمين، مع العلم إنّ معركة احد بدأها المشركون صراحة.
12: قال تعالى (فما لكم في المنافقين فئتين أركسهم الله بما كسبوا أتُريدون أن تهدوا من أضلَّ الله ومن يُضللِ الله فلن تجد له سبيلا 88، ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً فلا تتَّخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولَّوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتّخذوا منهم وليِِّاً ولا نصيرا 89، إلاّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حَصِرٍت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلَّطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا 90، ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم و يأمنوا قومهم كلَّ ما رُدُّوا إلى الفتنة أُركسوا فإن لم يعتزلوكم ويُلقوا إ ليكم السَّلم ويكفُّوا أيدهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وولائكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبينا) النساء 88 ــ 91.
لقد اختلف في سبب نزول هذه الآيات رغم الاتفاق العام على كونها نزلت تعالج أمر القتال مع المشركين، ولكن ليس على العموم، بل في طائفة منهم، هم المنافقون منهم، وحتى معالجة المنافقين هنا ليس على إطلاقه، بل هناك استثناء كما سوف نعرف في تفسير الآيات لاحقا.
قالوا في أسباب النزول ما يلي : ــ
•نزلت في قوم قدموا المدينة وأسلموا على يديه، ولكن استوخموا جوّ المدينة، فرجعوا إلى مكّة، وهناك التحقوا بالمشركين، فأختلف المؤمنون في خصوص الموقف منهم، بين مكفِّر وبين متوقِّف، فحسم القرآن الكريم ا لموقف بكونهم منافقين.
•نزلت في قوم أسلموا في مكّة، ولكنّهم كانوا يظاهرون ويعينون المشركين على المسلمين، فتحيّر المؤمنون بتحديد هويتهم العقَدية، فنزلت الآية لحسم الموقف، فهم بالتحليل الأخير منافقون.
•نزلت الآية في الذين تخلَّفوا عن اللحاق برسول الله في معركة أُحد، وكانوا قد قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، فتحيَّر المؤمنون بالموقف منهم، فجاءت الآية لتضع حداً لهذه الحيرة، ولكن هناك من يشكك بمعقولية هذا السبب.
•نزلت في قوم من المسلمين أصلاً، ولكنهم ضلّوا فيما بعد، ثمَّ سرقوا أموال المسلمين وهربوا إلى اليمامة، فاختلف بهم المسلمون على تسميتهم العقدية، فنزلت الآية لتضع التسمية الفاصلة، فهم منافقون.
•نزلت في (العرنيون) ا لذين أغاروا وقتلوا يسارا مولى النبي الكريم.
•وعن أبن زيد إنّها نزلت في أهل الافك.
والحصيلة التي تهمنا من هذا العرض، إنَّ الآمر بالقتال لم يكن ابتداء، بل كان رداً على عدوان سافر أو عدوان مبيَّت بطريقة خبيثة، وربما نفصِّل في السطور التالية إن شاء الله.
نزلت هذه الآيات كما تقول كتب أسباب النزول في قوم من المسلمين بقوا في مكّة، ولم يستطيعوا الهجرة، وكانوا يدعون الله أن يخلَّصهم من أيدي المشركين، ويخرجهم من مكّة، وهو ظاهر من لحن الآيات الكريمة، فقد كان هؤلاء يتلقون اضطهاداً يوميَّاً، يتسم بالغلظة والشدّة، من ضرب وشتم وملاحقة، وقد استشهد تحت طائلة التعذيب سمية وزوجها، ونال التعذيب الشديد بلال وغيره، وقد سمَّت بعض الكتب أسماء الكثير من هؤلاء المستغيثين من عذاب. قريش واضطهادها المرّ، فالقتال هنا إذن قتال تحرير، تحرير فئة مستضعفة، لا حول لها ولا قوَّة، وبالتالي ليس دعوة إلى قتال ابتدائي.
13 : قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الّذين كفروا زَحفاً فلا تولُّوهم الأدبار، ومن يولِّهم يومئذٍ دُبرَه إلاّ متحرِّفاً أو متحيِّزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنَّم وبئس المصير) الأنفال 15، 16.
الآيتان وما بعدهما تتعلَّق بمعركة بدر، وسوف نفصل بها الكلام فيما بعد.
14 : قال تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنَّة الأولين 38، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فإنَّ الله بما يعملون بصير 39، وإن تولَّوا فاعلموا أنَّ الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير 40) الأنفال 38 ــ 40.
14 : قال تعالى (براءة من الله ورسوله إلى الّذين عاهدتم من المشركين 1، فسيحوا في الأرض أربعة أ شهر واعلموا أنَّكم غيرَ معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين 2، وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنَّ الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإنْ تولَّيتم فاعلموا أَنَّكم غيرُ مُعجزي الله وبشِّر الذين كفروا بعذاب أليم 3، إلاّ الّذين عاهدتم من المشركين ثمَّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يُظاهروا عليكم أحداً فأَتمُّوا إليهم عهدهم إلى مدَّتهم إنَّ الله يحب المتقين 4، فإذا أنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم وأقعدوا له كلَّ مرصد فإنَّ تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم إنَّ الله غفور رحيم 5، وإنْ أحد من المشركين إستجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثمَّ أبلغه مأمنه ذلك بأنَّهم قوم لا يعلمون 6، كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلاّ الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم أنَّ الله يحب المتقين 7، كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذِمَّة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون 8، اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدُّوا عن سبيله إنَّهم ساء ما كانوا يعملون 9، لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذِمَّة وأولئك هم المعتدون 10، فإن تابُوا وأقاموا الصَّلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدِّين ونفصِّل الآيات لقوم يعقلون 11، وإنْ نكثوا عهدهم وطعنوا في دِنكم فقاتلوا أئمَّة الكفر إنَّهم لا أيمان لهم لعلَّهم ينتهون 12، ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهَمُوا بإ خراج الرسول وهم بدؤكم أوّل مرّة أتخشاهم فالله أحقُ أن تخشوه إنْ كنتم مؤمنين 13، فاقتلوهم يعذِّبهم الله بأيديكم ويُخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين 14، ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم 15، أم حسبتم أن تُتركوا ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم ولم يتَّخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجةً والله خبير بما تعملون 16) التوبة من آية (1) حتى آية (16).
اتفقت الآراء أنَّها نزلت في السنة التاسعة للهجرة بعد غزوة تبوك، وسوف نعالج الآيات تفصيلا. 16
15 : قال تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون بدين الحق من الذين أُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزيَّة عن يدٍ وهم صاغرون) التوبة 29.
16 : قال تعالى (إنّ عدَّة الشهور عند الله أثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حُرُم ذلك الدَّين القيِّم فلا تظلموا فيهِّن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافَّةً واعلموا أنَّ الله مع المتقين) التوبة 36
17: قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثقالتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدُّنيا في الآخرة إلاّ قليل 38، إلاّ تنفروا عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضرُّوه شيئاً والله على كل شيء قدير 39، إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنَّ الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيَّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمةُ الله هي العليا والله عزيز حكيم 40، انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم أن كنتم تعلمون 41) سورة التوبة من 38 حتى 41.
18: قال تعالى (أنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنَِّة يقاتلون في سبيل الله فيقاتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً من التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الّذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) التوبة 111.
19 : قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكُّفار وليجدوا فيكم غلظة وعلموا أنَّ الله مع المتقين) التوبة 132.
20: قال تعالى (والذين هاجروا في سبيل الله ثُمَّ قُتِلوا أو ماتوا ليرزُقَنَّهم الله رزقاً حسناً وأن الله لهو خير الرازقين) الحج 58.
روي إنّها نزلت في جماعة من المسلمين هاجروا من مكّة المكرَّمة إلى المدينة المنوَّرة، فتبعهم مشركوا مكّة وقتلوهم في الطريق.
21: قال تعالى (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تُمَتَّعون إلاّ قليلا) الأحزاب 16الآية نزلت بمناسبة معركة الخندق أو الأحزاب التي بدأها المشركون.
22: قال تعالى (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزابُ يودُّوا لو أنَّهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلاّ قليلا) الأحزاب 20.
23: قال تعالى (وردَّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويَّاً عزيزا) الأحزاب آية رقم 25.
24: قال تعالى (وأنزل الله الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وفريقاً تأسرون فريقا) الأحزاب أية 26 , والآية نزلت في قريضة التي سوف نأتي على ذكرها.
25 : قال تعالى (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنُغرِينَك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلاّ قليلا 60، ملعونين أينما ثُقِفوا أ ُخذوا وقُتلوا تقتيلا 61) الأحزاب.
هذه هي أهم آيات القتال في القرآن الكريم، ونحن سوف نعالج بعضها، أي الآيات التي يُستشم منها الدعوى إلى القتال الابتدائي، أي الغزو العسكري بلا سبب موضوعي، كأن يكون رد على عدوان، أو نصرة مستضعف، فسح فرصة الدعوة كحق طبيعي للفكر في كل مكان. فإن بعض الآيات تدعو المؤمنين إلى القتال لأن هناك طرفاً آخر بدأهم بذلك، أي بدأ قتالهم، من غير سبب معقول، وذلك صراحة أو استعدادا، وقد نفصّل في ذلك لاحقا.
يسترشد بعضهم للاستدلال على القتال الابتدائي في القرآن بما يعرف بـ (آية السيف)، ولكن هناك خلاف حول هذه الآية المدعاة، فمنهم من قال هي الآية (5) من التوبة، ومنهم منْ قال هي الآية رقم (29) من التوبة، ومنهم قال هي أية (36) من السورة نفسها، ومنهم من قال هي الآية (41) من سورة التوبة. ولهذا سوف نحلّل هذه الآيات بصورة تفصيلية قبل غيرها.
تحليل آية 5 / التوبة
يذهب بعض الناس إلى أنَّ هذه الآية الكريمة نسخت كل الآيات السابقة التي تدعو المؤمنين إلى الصبر، والاكتفاء بدعوى الفكر، وعدم الابتداء بالقتال، وترك الناس وشؤونهم العقدية، ورفض الإكراه على الدين. وهذا يعني أنّ هذه الآية الطيبة تكون قد نسخت ما يقارب (140) آية من كتاب الله، بل ذهب بعضهم أنَّها نسخت ما يقارب (500) آية محكمة !
إنَّ حصيلة هذا القول هو لغويّة كتاب الله تعالى، بل تعطيله وتجميده، فهذا الكتاب في كثير من آياته وأحكامه وتصوراته ومفاهيمه بل وحتى أخلاقه عبارة عن مواقف مؤقّتة، بل براكماتية، لا تمتَّ إلى ثوابت الأخلاقية بصلة ! إذ أين نضع في مثل هذه الحال قوله تعالى (لا إكراه في الدين)، و قوله تعالى (لكم دينكم ولي دين)، وقوله تعالى (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا)، وقوله تعالى (أُدع ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)، وقوله تعالى (قاتلوا الذي يقاتلونكم ولا تعتدوا)، وكثير من،آيات الذكر الحكيم التي قد تبلغ في حدود (500) آية، وللعلم أنَّ لكل آية من هذه الآيات مستحقاتها وفضائها في داخل القرآن، ممِّا يعني هناك مساحة كبيرة من الإلغاء الرهيب، ومهما يكن من أمر دعونا نحلّل تفصيلاً هذه الآية الكريمة، وهي أية من مقطع كبير يمتد من آية رقم (1) حتى آية رقم (16) من سورة التوبة.
العنوان الكبير
يبدأ المقطع الكريم بآية عنوانيّة عامّة، ذلك هو إعلان براءة الله ورسوله من المشركين الذين عاهدهم المؤمنون (براءة من الله ورسوله إلى الّذين عاهدتم من المشركين)، وهذه الآية تفيد ما يلي : ــ
1 : أنَّ الله يعلن براءته من المشركين، كذلك رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
2 : إنّ هذه البراءة من مشركين كانوا مرتبطين بعهد مع المؤمنين (الذين عاهدتم)، فهم ليس كل المشركين، بل الذين ارتبطوا وإياهم بعهد.
3 : وليس من شك هم طائفة من مشركي مكّة المكرّمة، وبالتالي ضاقت الدائرة كثيراً، هم طائفة من مشركي مكّة، أُولئك الذين تعاهدوا مع الرسول الكريم والمؤمنين.
4 : هذه البراءة التي أعلنها الله ورسوله من المشركين ألقى بخبرها إلى المؤمنين الذين هم الطرف الثاني في هذه المعاهدة، ممّا يعني أن المؤمنين يجب أنْ يكونوا في حلٍِ منها أيضا، هي بيان للمؤمنين بذلك.
ولكن هل كانت هذه المعاهدة مؤقّتة بزمن مسمِّى في القرآن الكريم؟
لا دليل من الآية أو التاريخ إنّها كانت مؤقَّتة بزمن صريح، ولكنْ بطبيعة الحال ينبغي أنْ تكون إلى أجل، أو مشروطة بشروط ومواقف، أو بكليهما، وليس في الآية ولا إلى بعدها مدى هذا الأجل، فماذا عن المقتربات الأخرى ؟ سوف يأتي الجواب لاحقاً.
ولكن ما معنى البراءة هنا؟
قال الطبرسي (معنى البراءة انقطاع العصمة)، وهذا ما أشار إليه الآخرون أيضا، ولكن هنا تشير إلى كسر عهدٍ كان قد أُبرِم بين الطرفين، المشركون من جهة والمؤمنون من جهة أُُخرى، وبالتالي وبصريح العبارة تفيد الآية أن المؤمنين (هنا) مدعوون إلى كسر العهد ابتداء.
فهل هذا معقول؟
فرصة مراجعة
هذا العنوان الكبير تبعه تطور مهم، ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أمهل هؤلاء المشركين أربعة أشهر للمراجعة، يتدارسون هذا النقض، فهذه الطائفة من مشركي مكّة (المُعَهادِين) لهم فرصة أربعة أشهر، يتداولون خلالها في مصيرهم، لهم أن يتوبوا، ولهم أن يختاروا المواجهة، ولهم أن يخرجوا من جزيرة العرب ــ سيتضح هذا الخيار فيما بعد ــ
قال تعالى (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وأعلموا أنَّكم غيرُ معجزي الله وإنَّ الله مُخزي الكافرين) / آية رقم 2 من السورة المباركة /.
فرصة المراجعة هذه ليست أمراً بطبيعة الحال بل هي من باب الإباحة والإعلام بتوفّر الأمان والحرية لاتخاذ الموقف الذي يعجبهم.
هذه الأشهر الأربعة هي على أكثر الآراء رجاحة عشر من ذي الحجة ومحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الثاني، وقد استفادوا ذلك من قوله تعالى في الآية التالية مباشرة (3) التي تقول (وأَذان من الله ورسوله إلى النّاس يوم الحجِّ الأكبر أنَّ الله بريء من المشركين ورسوله)، حيث أكثر الآراء رجحاناً أنَّ يوم الحج الأكبر هو يوم النحر الذي يقع في عشر من ذي الحجة كما هي روايات أهل البيت عليهم السلام.
نشر الإعلان
نقرأ في الآية رقم (3) قوله تعالى (وأَذان من الله ورسوله إلى الناس يومَ الحجِّ الأكبر أنَّ الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن} تولَّيتم فاْعلموا أنَّكم غير معجزي الله وبشِّر الذين كفروا بعذاب أليم).
ففي هذه الآية نستفيد الإضافات التالية : ــ
1 : استمرار الإعلان بالبراءة من هذه الطائفة من مشركي مكة، وهم فئة مُعاهدَة كما عرفنا، براءة الله ورسوله والمؤمنين.
2 : كان الإعلان إلى المؤمنين، ثمّ إلى الناس كلهم، فما الذي حصل ؟
يقول صاحب الميزان [ (وأذان من الله ورسوله إل الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء...) الأذان هو الإعلام، وليست الآية تكراراً لقوله تعالى السابق (براءة من المشركين...) فإنَّ الجملتين وإن رجعتا إلى معنى واحد (!) وهو البراءة من المشركين إلاّ أنَّ الآية ال اولى إعلام البراءة وإبلاغه إلى المشركين بدليل قوله تعالى (إلى الذين عاهدتم...) بخلاف الآية الثانية فإن ّ وجه الخطاب فيه إلى الناس ليعلموا براءة الله ورسوله من المشركين، ويستعدوا ويتهيئوا لإنفاذ الأمر... ].
فهناك إذن قرار ماض، والناس يجب أنْ يعلموا ذلك، لانّ الناس معنيون بذلك، سواء المؤمنين منهم أو المشركين، المُعاهَدين منهم أو غير المُعَاهَدين.
وبالتالي يكون المحصَّل أنَّ المؤمنين براء من العهد المبرم بينهم من جهة وبين طائفة من مشركي مكّة، وليعلم بذلك المشركون والمؤمنون وكل الناس.
وإكمالاَ لذلك تذكر الروايات أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن نزلت هذه الآيات بعث عليِّاً بن أبي طالب ليبلغ المشركين والناس بذلك، ففي الدرِّ المنثور وغيره من المصادر أنَّ رسول الله دعا عليّا ليقرآ الآيات العشر من براءة على أهل مكّة، وقد كان البيان الذي زوّد به رسول الله عليِّاً هذه الآية وبعض الأحكام، منها أن لا يطوف في البيت عريان، وكان يقول أيضا (من كان له مدّة فهو إلى مُدَّته، ومن لم يكن له مدّة فمدته أربعة أشهر...)، وبالتالي أكتمل الإعلان، وصار واضحا، ولكن يجب أن لا ننسى أن الإعلان أُلقي إلى مشركي مكّة بالخصوص.
الحسم القاطع
نقرا في الآية رقم (5) من المقطع الكريم (فإذ إ نسلخ الأَشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم وقعدوا ا لهم كلَّ مرصدٍ فإنْ تابُوا وأقاموا لصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم إنَّ الله غفور رحيم).
هذه الآية حسمت الموقف تماماً.
1 : إنّ البراءة مستمرة.
2 : أمام المشركين أربعة أشهر لمداولة المصير.
3 : إذا انسلخت هذه الشهر يحل عليهم القتال الشديد الصارم الّذي لا هواده فيه.
4 : يرتفع بحقهم هذا المصير فيما إذا (تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة).
فهل انتهى كل شيء؟
السؤال الكبير
هل يعني هذا أنَّ الآية الكريمة نسخت حقاً أكثر من مائة آية تدعو إلى السَّلم، والتسامح، وترفض الإكراه، وتترك الإ يمان للقناعة الشخصية، وتطالب المؤمن بالموادعة مع كل الناس، بل وتطالب بالاستغفار للذين كفروا ؟
الجواب نجده في الآية رقم (4) التي تتوسَّط إعلان البراءة ومقترباتها الزمنية والحكمية وبين حسم القضية بإعلان الحرب على هؤلاء !
ماذا تقول هذه الآية الكريمة ؟
يقول تعالى (إلاّ الذين عاهدتم من المشركين ثُمَّ لم ينقصوكم شيئاً ولم يُظاهروا عليكم أحداً فأتِمُّوا إليهم عهدهم إلى مُدَّتهم أنَّ الله يحب المتقين) ــ التوبة / 4 ــ
فكيف تكون الصورة الآن ؟
بكل وضوح إعلان الحرب على هؤلاء لأنّهم نقضوا العهد، هذا هو الجوهر، وبالتالي يجب تكييف كل ما في المقطع القرآني لصالح هذا الجوهر، فالذي نفيده من المقتربات السابقة أن هناك عهداً مُبرماً بين المشركين والمؤمنين، والمشركون نقضوا العهد، فكان هذا القرار الحاسم، ومن هنا يقول الطباطبائي (فمحصل الآية الحكم ببطلان ا لعهد ورفع الأمان عن جماعة من المشركين كانوا قد عاهدوا المسلمين ثُمَّ نقضه أكثرهم، ولم يبق منْ بقى منهم وثوق تطمئن به النفس إلى عهدهم، وتعتمد على يمينهم، وتأمن شرَّهم وأنواع مكرهم) ـ الميزان 9 / 147 ــ وفي ذلك يقول الرازي ما ملخَّصه (قد أذن الله في معاهدة المشركين، فاتفق ا لمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدهم، ثمَّ أن المشركين نقضوا العهد، فأوجب الله ا لنبذ إليهم، فخوطب ا لمسلمون بما يحذِّرهم من ذلك...) ـ 3 / 483 ــ وفي المجمع (وروي أيضاً أن المشركين قد نقضوا العهد أو همُّوا بذلك فأمره الله سبحانه أن ينقض عهدهم...) ــ5 / 5.
هنا اتضحت الصورة...
براءة مقيَّدة بأنها من المشركين، ليس كل المشركين، بل مشركو مكّة، وليس كل مشركي مكّة، بل مشركو مكّة الذين عاهدوا المؤمنين، وبشرط أخر هو ــ جوهر القضية ــ ذلك بشرط أنّهم نقضوا العهد !
هذه هي الخلاصة المهمة !
براءة من مشركي مكّة الذين نقضوا العهد...
هذا هي النتيجة...
فالآية ليست ناسخة...
(لم ينقصوكم شيئا)...
(ولم يظاهروا عليكم...)...
هذان هما الشرطان، وإلاّ (أتِمُّوا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إنّ الله يحب المتقين).
والسؤال هنا...
هل هما شرطان في آن واحد، أم كل منهما يكفي لنقض العهد من طرف المؤمنين ؟ يبدو لي هناك شرطان ينبغي إن يتحقّقا معاً، وإلاّ ما هي دلالة العطف ؟
وقد كان موقع التذكير بالشرطين رائعاً على مستوى النظم، لأنّه توسط طرفي المعادلة، بين التبري من جهة وإعلان المصير والمدّة النهائية من جهة أخرى.
تأكيد القيد الجوهري
ولأجل مزيد من توضيح الصورة في الإطار ــ كما يقولون ــ نجد القرآن الكريم يتابع الكلام عن القيد، وليس ذلك في تصوري إلاّ لتكريس الفكرة أو المشروع بصورة جليّة، تحول دون الاختلاط، وتقطع الطريق على كل تلاعب في دماء الناس، بل ولكي تحترز بأعلى درجة من الاحتراز في حفظ الذمم و الأخلاق.
قال تعالى (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلاّ الّذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنَّ الله يحب المتقين) ـ رقم 7 من المقطع الكريم ــ
فهؤلاء المشركون منهم الذي ألتزم بالعهد، ومنهم من لم يلتزم، وكل فئة بحسابها، وليس من شك أن المقطع الأول من الآية يتصل بأُولئك الذين نقضوا العهد، فيما الثاني يتصل بأولئك الذين وفوا بالعهد، وهناك روايات تسمي هذا النموذج الذي التزم.
قال تعالى (كيف وإن يُظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذِمَّة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون) ـ الآية رقم (8) من المقطع الشريف ــ
كلام عن المشركين الذين نقضوا العهد، يعني عن المشركين الذين تناولتهم الآيات السابقة، فهم لا أمان لهم، يتربّصون بالمؤمنين الفرص للانتقام منهم، يظاهرون عليهم العدو، وبالتالي يتضح بكل جلاء، أن الحرب إنّما أعلنت على أُولئك المشركين الذين نقضوا العهد، فهي ليست حرباً ابتدائية، بل رد على سلوك مشبوه، ينطوي على نية عدوانية مبيّتة. ولذا كان هناك توكيد في الآية رقم (7) على احترام العهد تجاه من يحفظ العهد من المشركين.
وتحتلُّ الآية الكريمة رقم (6) أروع الأخلاق الإنسانية التي من شأنها حماية الحرية، فالنبي مسؤول عن أجارة المستجير المشرك، لعلّه يسمع الحق، وفيما إذا لم يسمع على النبي أن يوصله مأمنه.
زيادة في التوضيح
وقد شرع القرآن الكريم بالكشف أكثر عن حقيقة هؤلاء المشركين الذين نقضوا العهد، وذلك بفضح سلوكهم العدواني تجاه النبي الكريم ودينه، وما يجب اتخاذه إزاءهم من مواقف واجبة، فقد جاء في المقطع الشريف (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصِّل الآيات لقومٍ يعلمون 11، وإن نكثوا أيمانهم بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنَّهم لا أيمان لهم لعلَّهم ينتهون 12).
الحقيقة أن هاتين الآيتين تعرض لموقفين سوف يتمخض عن سلوك هؤلاء، إمّا الرجوع إلى الله، أو الاستمرار بنقض العهد، والطعن بالدين، فهي بيان توضيحي لما سبق أن أجمله، ومن ثمّ يكشف القرآن أكثر (آلا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمُّوا بإخراج الرسول وهم بدؤكم أولَّ مرَّة أتخشوهم فالله أحقُّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين).
أعتقد أصبح الأمر في غاية الوضوح، فهؤلاء قوم من مشركي مكّة، كانوا قد دخلوا بعهد مع النبي الكريم، وقد سبق لهم أن طعنوا بدين الله، وهمُّوا بإخراج الرسول، وظاهروا على المؤمنين، وكان نقضهم للعهد هو السبب الرئيسي أو بعض سبب لقتالهم، وليس هناك أمر بالقتال الابتدائي.
أنَّ المقطع القرآني كله يتحدّث في الجوهر عن جماعة معيَّنة نقضت عهداً مبرماً بينها وبين الرسول، وكانت ذات سوابق مزعجة بحق الرسول والمؤمنين، وهي عازمة على مواصلة هذه السيرة المزعجة ألآثمة بحق هؤلاء الآمنين، فليس في الآيات ما يشير إلى الحرب الابتدائية على الإطلاق.
الآية محكمة، ليست ناسخة ولا منسوخة، كما سوف نبين ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى، خاصّة أن النسخ كان رواية أحاد.
تحليل آية 36 / التوبة
يقول تعالى (... وقاتلوا المشركين كافَّة كما يقاتلونكم كافَّة...).
هذه الآية الكريمة جاءت في سياق المعاملة بالمثل، وبذلك تعني قاتلوهم بأجمعكم كما يقاتلونكم بأجمعهم، فلا تتخاذلوا ولا تتفرَّقوا، ينبغي أن تواجههم كما يواجهونكم من حيث العدّة و العدد وكل مستلزمات المواجهة المتكافئة، وفي هذا يقول الطبري في تفسيره لهذه الآية (وقاتلوا المشركين ـ أيها المؤمنون ــ جميعاً غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعا، مجتمعين غير مفترقين)، فـ (كافَّة) هنا حال واو الجماعة، ولذا ليس في الآية ما يشير إلى مقاتلة الناس كلهم كما يرى بعضهم.
تحليل آيات النفر
يقول تعالى (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم أنفروا في سبيل الله آثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة ا لدنيا من الآخرة فما متاع الحياة ا لدنيا في الآخرة ألاّ قليل) التوبة 41.
تقول المصادر أن هذه الآية نزلت في معركة تبوك، وهذه المعركة كما هو معلوم كانت قد أستبق بها الرسول الكريم تجهيزات الروم التي كانت تهدف تحطيم الوجود الإسلامي الوليد.
فقد ألقي الخبر إلى رسول الله أنَّ هرقل قد جمع أليه القبائل المناهضة من لخم، وجذام، و غسْأن، وعاملة، وجهَّز جيشاً قويِّاً للقضاء على مدينة الدين الجديد، و(لم يكن عدوُّ أخوف عن المسلمين منهم، وذلك لما عاينوا منهم ــ إذ كانوا يقدمون عليهم تجارا ــ من العدد والعُدَّة والكُراع...) ـ الوقدي 2 / 990 ــولم يُعقل أنْ يبدأ الرسول قتاله مع الروم في ذلك الوقت، فقد ذكر المؤرِّخون انّه كان وقت عسرة، ومشقَِّة عند المسلمين، ومن هنا سُمِّيت هذه الغزوة بغزوة العُسرة أيضا، فقد كان الحرُّ شديدا، وصادف الجدب الشديد في البلاد، ولهذا تخلّف كثيرون، وثار لغط شديد بين المؤمنين حول ذلك، ونزل في ذلك قرآن، حتّى أن الآيات التي نزلت في هذه المعركة ــ تبوك / العسرة ـ هي أطول ما نزل في معالجة القرآن لقضايا الحرب بين المسلمين وغيرهم.
هذه المعركة كانت في شهر رجب من سنة تسع للهجرة قبل حجَّة الوداع، وقد تثاقل الناس للحرِّ الشديد، وبعد المسافة (وهناك إشارة من القرآن لذلك 42 التوبة) ولخوفهم من جيوش الروم، ولاستشراف وقت الثمار، ولكون المعركة تستوجب الاستعداد الخارج عن طاقتهم، وإلى ما هنالك من مبرِّرات كان يتعلّلون بها، (إلاّ تنفروا يعذَّبكم عذاباً أليماً، ويستبدل قوماً غيركم، ولا تضرّوه شيئا واله على كل شيء قدير) وهي الآية رقم (39) من سورة التوبة.
ليس من المعقول أن يغزو الرسول ا لروم بمثل هذه الظروف، ومن هنا يستنتج القاري الموضوعي ان الإجراء النبوي كان احترازيِّاً وليس أولَّياً.
الآيات، أي آيات النفر لا تؤسِّس لحرب عدوانية، لم تكن عدواناً، بل هي رد على محاولة غاشمة تريد القضاء على الوليد الجديد في ضوء الأخبار الآتية، وهذه الآيات لم تؤسِّس لحكم يقضي بوجوب الجهاد على الجميع، فإن قراءة الآيات، والتمعّن في ظروفها تكشف عن أنّها خاصَّة بأصحاب النبي الكريم، في قضية تتصل بمواقف ترواحت بين التردّد والحزم، في قضية لا تحتمل النقاش والتأجيل.
تحليل آيات 190 ــ 195 / البقرة
قال بعض المفسرين أن هذه الآية (190) هي أول آية نزلت بالقتال، وقد بنى بعضهم على أنّها تشريع للحرب الإبتدائية على الآخر، ناسخة في ذلك عشرات بل قد لا نبالغ بالقول المئات من آيات الكتاب الحكيم، ومنهنّ آيات محكمات !
قراءة متأنية للآيات لا تكشف عن مثل ذلك أبداً، ولنبدأ خطوة خطوة.
جولة تمهيدية
نقرأ في مجمع البيان وهو يتعرّض للجانب اللغوي في الآية (القتال والمُقاتَلة محاولة الرجل قتل من يحاول قتله) ــ 1 / 509 ــ وأمضى ذلك صاحب الميزان، ولذا يقول في مجموع هذه الآيات (الغرض منها واحد هو تشريع القتال مع مشركي مكّة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين) ــ 2 / 61 ــ وقد أوضح صاحب المفردات ذلك في تخريج الأصل بقوله (وقيل معناه قتلهم والصحيح أن ذلك هو المُفاعَلَة)، ومن هنا صرفوا (العدوان) إلى البدء بالقتل، ففي البغوي [ (ولا تعتدوا...) أي لا تبدؤهم بالقتال ]، وقد جلّى ذلك الآلوسي بقوله [ (ولا تعتدوا) أي لا تقتلوا النساء، والصبيان، والشيخ ا لكبير ولا منْ ألقى إليكم السلام، وكفَّ يده، فإ ن فعلتم فقد اعتديتم) وفي راوية أبن أبي حاتم، عن أبن عباس ما يفيد بأن العدوان في أحد معانية الابتداء بالقتال أو قتال المُعاهد أو المفاجأة به من غير دعوة أو قتل من نُهي عن قتله. فقد ذهب جمع من المفسِّرين أن القتال والجهاد لا يكون إلاّ مع (مُقاتِل ومُمانع) حيث أاعتبرت المُقاتَلَة والممانعة هي علّة الأمر بالقتال والجهاد، وليس محض الكفر، وفي جامع البيان [ وقال آخرون معنى قوله (فلا عدوان إلاّ على الظالمين) فلا نقاتل إلاّ من قاتل ]، ويروي بإسناده عن مجاهد (لا تقاتلوا إلاّ من قاتلكم) 2 / 232، فإنَّ صيغة (المُفاعَلة) تفيد مقابلة مجهود بمجهود كما هو معلوم.
وقاتلوا...
هذا لفظ عام، فهو خطاب للمؤمنين، موجّه لهم بصيغة الأمر، لا يستثني، ولم يحدِّد زماناً، ولا مكاناً كما هو واضح، أنّه للجميع بدون استثناء، ولكن سرعان ما تأتي القيود...
القيد الأوّل : قوله تعالى (وقاتلوا الذين يقاتلونكم)، فهو خطاب مقيّد إذن، لقد قيَّد القتال بالقتال، ولكن هنا رأيان في صرف قوله (الّذين يقاتلونكم) وهما على التوالي : ــ
1 : ينصرف إلى من (يقاتلونكم) إمّا على وجه الدفع عن الحج أو للمقاتلة ابتداء، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل الصبيان والنساء والرهبان وشبيههم ـ القرطبي 1 / 719 ــ
2 : قاتلوا كلّ من له القدرة على القتال، إلاّ إذا















التعليقات