آيديولوجيات الأحزاب السياسية متنوعة بتنوع أهدافها ومؤسسيها ومن المفترض مبدئياً أنه كلما كانت هذه الآيديولوجيات علمية وعلمانية كلما اقتربت الأحزاب من خانة النضال من أجل التقدم والسعي لتطوير المجتمع وتحقيق العدل بين أفراده والتعايش السلمي مع الشعوب الأخرى. وعلى هذا الأساس فقد كانت أغلب الأحزاب الاشتراكية والديموقراطية في أوروبا في القرنين الماضيين تصيغ طروحاتها وأهدافها وبرامجها على أسسٍ تبتعد معها قدر الإمكان عن الإنعزالية الدينية والعرقية وتقترب من العلم وقوانينه، وهذا ما أوصل صفوة الفكر الأوروبي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى درجة عالية من الاعتماد على قوانين الطبيعة في صياغة قوانين التطور الاجتماعي فظهرت المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية كأرقى فكر فلسفي يفسِّر التاريخ والاقتصاد ويتطلع إلى بناء مجتمع متطور يسوده العدل والسلام والديموقراطية ويرقى بالإنسان إلى أعلى مراتب التفاعل الإيجابي مع الطبيعة لتطويعها عقلانياً والاستفادة المثلى من خيراتها ومع الفكر الإنساني لخدمة الجانب النفسي عند بني البشر الذين عانوا من الإضطهاد الدائم والتمييز والحروب و أقلقهم استمرار واستفحال التخلف والفقر والمرض والبطالة.
وبما أن العلم وقوانينه (أفكار) موضوعية ليست قابلة للتملك ولا يمكن احتكارها ولا يمكن النظر إليها من خلال العبقريات الفردية أو النبوءات فقد تحولت ثقة الناس بطروحات الاقتصاد السياسي المستندة إلى العلم وقوانينه إلى حالة من التبني الجماهيري لهذه الآيديولوجيات وأحزابها على أساس أنها الوعاء الذي تنصهر فيه مصالح الطبقات الكادحة مع مصالح الأوطان في مسيرة التطور الاجتماعي والاقتصادي بعيداً عن طريق التطور الرأسمالي.
ولما كان الفارق بين أهداف الرأسمالية وأهداف هذه الأحزاب كبيراً جداً فقد أخذ الصراع التناحري أكثر أشكاله حدةً وأضحى التناقض الطبقي مسألة وجود لا مكان فيها للتفاوض والتفاهم واتخذت الرأسمالية آيديولوجية معادية تختبيء وراءها وتستخدمها سلاحاً لمقاومة الفكر العلمي في السياسة وقوانين التطور الاجتماعي كما تراها الإشتراكية العلمية.
في ظل هذه الظروف كان لا بد للأحزاب الإشتراكية، كقوى ثورية طليعية تعمل على التغيير، من التمترس وراء آيديولوجياتها وأمام الجماهير الزاحفة لامتلاك وسائل الإنتاج كطريق وحيدة لتحقيق العدالة والمساواة والتقدم الاجتماعي. وقد نجحت في ذلك بالرغم من المقاومة الهائلة التي سخَّرت الرأسمالية من أجلها كل طاقاتها وطاقات البلدان الواقعة تحت سيطرتها. وكان لهذه المقاومة العنيفة دوراً كبيراً في خلق الظروف والتربة الملائمة لنمو دور الفرد في البلدان والحركات الشعبية والحزبية وصلت بالتدريج إلى حد عبادة الفرد، خاصة في المجتمعات الشرقية وخصوصاً غير الصناعية منها.
لقد كان من الطبيعي مثلاً أن يتجمهر الفلاحون الفقراء وعمال المصانع والموانىء والسكك الحديدية المستغـَلون وأيضاً جيوش العاطلين عن العمل في روسيا القيصرية حول قائد ثورتهم فلاديمير إيليتش لينين عام 1917 ويشيدوا بعبقريته لأنه استطاع استغلال الظروف القاسية التي يعيشون تحتها وتحريضهم وقيادة ثورتهم لتحطيم القيصرية الظالمة والمسؤولة عن مآسيهم وفقرهم. ولكن لينين لم يطالب هذه الجماهير ولا قيادة حزبه أن تعلنه نبيـَّاً ولم يعمل على تحويل الحزب إلى دين يطالـَب الناس بعبادته وعبادة قادته! والذي حصل أنه تشكلت من قواد الحزب المقربين بسرعة عجيبة شريحةٌ من المتسلقين والانتهازيين وجدت في تلك البيئة فرصتها الذهبية للانتفاع فعملت على تكريس عبادة الفرد كوسيلة للإرهاب يستظلون به وينفذون مآربهم الشخصية فانتشر مرض عبادة الفرد الذي تحول فيما بعد إلى ديكتاتورية عانى التاريخ من نتائجها وخجل المفكرون الماركسيون أصحاب العقول النيرة من تذكـِّرها ولا يزالون حتى اليوم بالرغم من مرور أكثر من سبعة عقود عليها لأنها حفرت في أوابد التاريخ آثاراً سلبية لا يمكن محوها.
فقد حوَّلت أجهزة الكريملين في الاتحاد السوفييتي، منذ أيام جوزيف ستالين وحتى وفاة ليونيد بريجنيف، الحزب الشيوعي السوفييتي إلى حزب للسلطة ممثـَّلة بالقيادة التي كان يطلق عليها باعتزاز ودون خجل (القيادة التاريخية) وكانت مؤلفة من حلقات محدودة العدد ترتكز أعلاها، الأقل أفراداً، على الأدنى، الأكثر بقليل، على شكل بناءٍ هرميٍّ يضمن سهولة السيطرة وسلاسة فرض الضوابط (الديسيبلين) وتمرير البرامج دون متاعب حتى وإن ساد شعور بالديكتاتورية لدى الجماهير، فوظيفة الشرائح الحزبية القريبة منها تبريرهذا النظام لأنه (ديكتاتورية البروليتاريا) التي يقوم المجتمع على أساسها.
ولم يكن من الصعب على المرء ذي العقل العلمي المتحرر من عبادة الفرد أن يرى أن الكريملين، الذي تستند قيادته للمجتمع الكبير في الجمهوريات السوفييتية وللحركة الشيوعية العالمية بفصائلها إلى نظرية علمية راقية واقعية وجماهيرية، يكرس سلوكاً حزبيا وحكومياًً وشعبياً يتحول معه الفكر الماركسي إلى دين (غير سماوي) يتطلب الاحتفاظ بالسلطة والمكانة العالمية التزاماً صارماً به وطاعةً عمياء وابتعاداً عن أي إجتهاد قد يقود إلى الانحراف عن المباديء والأركان والـ (ثوابت)!.
ومن الطبيعي أن تتأثر جميع الأحزاب والحركات الدائرة في فلك الكريملين والتي تلقى دعمه الكبير وتتلقى مساعداته المختلفة، وكان ذلك على حساب الشعب الروسي بالدرجة الأولى وبأرقام خيالية، وتتحول إلى ما يشبه الفروع التي تكرست في خلاياها وقياداتها عقلية عبادة الفرد وعبادة الفكر المطلقة ومناهضة ومقاومة أية أفكار تدعو للتحرر من هذه الآفة والعودة بالفكر إلى نقائه. وسواء كانت هذه الأحزاب شيوعية حاكمة أو غير حاكمة، علنية أو سرية أو أحزاباً ماركسية أو متمركسة فقد كانت بؤراً جيدة لانتشار عقلية التحزِّب المطلق للـ (دين الماركسي) ولتكريس طقوسه البعيدة كل البعد عن أسس الفكر ومنطقه العلمي.
القادة التاريخيون نسوا أو تجاهلوا الأسس العلمية التي قام عليها الفكر الماركسي والتي تنظر إلى الفكر وتفسر العالم بطريقة مادية لا مكان معها للثبات والثوابت. فأصل الفكر أن كل شيء يتحرك ويتطور وينفي ما قبله. غير أن أعضاء "القيادة التاريخية" المترهلين كانوا مصرين على تمسكهم بمراكزهم ومكتسباتها وكانوا، خشية خسارة المناصب القيادية والمكتسبات، يقاومون أية محاولة لتطوير المجتمع والاقتصاد بعيدة عن (ثوابتهم الحزبية والآيديولوجية) مما حولهم بكل بساطة إلى (ميتافيزيقيين) يتظاهرون بتبني الفكر الديالكتيكي. لقد أدى هذا التناقض التناحري إلى اتساع الهوَّة بين الحزب والمواطنين وإلى فقدان الثقة بالقيادة وإمكانيتها في الاستمرار. أما المنظِّرون العاملون في فلك هذه القيادة وتحت رقابتها فقد كرسوا عملية تحويل الحزب إلى (دين) يستند إلى الثوابت غير القابلة للنقاش وحددوا علاقاتهم بالأحزاب الشيوعية في البلدان الاشتراكية والأحزاب الشيوعية والاشتراكية والماركسية في البلدان الرأسمالية المتطورة وبلدان العالم الثالث على أساس الالتزام بنهجهم ومبادئهم. وعلى سبيل المثال فقد اتُّهِمَت (الشيوعية الأوروبية) بالانحراف لأنها طرحت أفكاراً لتطوير الماركسية والتخلي عن فكرة ديكتاتورية البروليتاريا نظراً لتغير الظروف الموضوعية المحلية والعالمية ولتغير الشروط التي حُدِّدت (قوى البروليتاريا) على أساسها أيام كارل ماركس وفريدريك إنجلز. وقد دعت القيادة التاريخية للحزب الشيوعي السوفييتي وحلفاؤها إلى مقاطعة ومحاربة أفكار "الشيوعية الأوروبية" المنحرفة التي تبنتها الأحزاب الشيوعية الأوروبية العملاقة والتي تعيش في قلب العالم الرأسمالي والتي تخلو من تغلغل واختراق الانتهازيين إلى صفوفها. فالشيوعيون الأوروبيون تنبهوا باكراً إلى خطورة تعرض الفكر الماركسي إلى الإصابة بمرض الجمود العقائدي والميتافيزيقية وتحول النضال من أجل التحرر والعدالة والتقدم الاجتماعي إلى انتمائية باترياركية مطلقة قريبة من الفكر الغيبي وتحول المناضلين الحزبيين إلى رعية ملتزمة ومتمسكة بالولاء لقياداتها معياراً للوعي الطبقي وللإخلاص.
وفي حين كان من المفترض أن يقدم الفكر الماركسي حلولاً علمية سليمة لتناقض الأجيال الناجم طبيعياً عن التطور العلمي والتكنولوجي وعن ديمومة التغير في الوضع العالمي من جميع نواحيه فقد عجز هذا الفكر في حالته الدينية عن إقناع الجماهير المتعطشة إلى التغيير والتطوير وإلى الخروج من أطر القوالب الجامدة المكبِّلة والمعرقلة للتطور والرافضة للانسجام مع متطلبات النظم العالمية الجديدة. بمقارنة بسيطة بين الفكر الديني التقليدي المتوارث منذ آلاف السنين والفكر الديني اللاسماوي الجديد كما أراده القادة التاريخيون نجد تشابهاً إلى حد كبير بين طقوس العبادة والصلاة والعادات الإحتفالية وتقديم فروض الطاعة لكهنة الفكر الديني الذين يحق لهم التدخل في كل شيء والالتزام بفتاواهم وتحريماتهم، من جهة، وما يماثلها من شهادات واعتراف بالعبقريات الفردية وولاء للأحزاب وقادتها (الصناديد) وتسويق لمقولاتها وقراراتها ومطالبة بالالتزام المطلق وتحذير من الإنحراف والخروج عن الإطار المفروض. وكما ينتشر الخوف من غضب الحلقات العليا في البناء الهرمي الديني عند الرعيَّة أفراداً وجماعات يسود خوفٌ مماثل عند الرعيَّة الخاضعة لسيطرة القيادة الواحدة القابعة لعشرات السنين في الحلقات العليا للقيادة الحزبية. وكما أن عقدتي السيطرة والخوف في الحالة الأولى أبقتا الفكر الديني على الدوام أسيراً للثوابت (اللاهوتية الشكل) بشكل لا مجال معه للتطوير والتعديل والتلاؤم مع العصر فقد كرست هاتان العقدتان حالة الخمول والثبات والـ (استقرار) في المجتمعات والبلدان والحركات التي تربَّع على عروشها آلهة الدين الماركسي حارمةً الفكر العلمي من أية فرصة للتطور، الذي يـُفترض أنه السمة الأساسية فيه، ففي المنطق الديالكتيكي الشيء الوحيد الثابت هو أن كل شيء يتحرك ويتبدل بما فيه الفكر!
لقد كان التناقض الكبير بين رفض الماركسيين للثوابت الدينية التقليدية وتعلقهم بثوابت أخرى واحداً من الأسباب الجوهرية التي أدت إلى انهيار الثقة بين الأحزاب والمواطنين، الذين تربوا في ظل النظام الاشتراكي على المنهجية العلمية وعلى قوانين المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ولم يكن في حسبانهم أنهم بعد رفضهم لميتافيزيقية الفكر الديني سيقعون في مستنقعات الميتافيزيقية الحزبية السلطوية. وأول من تخلى عن دعم السلطات هذه في أحلك ظروف عاشتها التجربة الماركسية في العالم هم شيوعيو الاتحاد السوفييتي بملايينهم العشرين نتيجةً لفقدان الثقة بالحزب وقياداته. وما أن طرحت أفكار الشفافية والديموقراطية الشعبية بديلاً عن سيطرة الحزب الواحد وقُرِّرَ إنهاء مظاهر الحرب الباردة مع الغرب، في محاولة من الماركسيين المتنورين والراغبين في التخلص من القيود والصفات (الدينية) ومن تغلغل الانتهازيين، حتى انفرط العقد الذي أوهنت ترابط حباته أنانيةُ وعنجهية القادة التاريخيين الرجعيين والمعادين للتطور والذين، بتديينهم للحزب الماركسي العلماني وبرامجه وحضوره الوطني، أعادوا البلاد إلى الوراء وأضعفوا قدراتها وتركوا العالم كلَّه في المأزق التاريخي الكبير الناجم عن سيطرة وتفرد القطب الواحد بدلاً عن التوازن المنطقي الذي أفرزه التطور السياسي والاقتصادي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
أما الأحزاب والحركات التي تشكلت على أسس ماركسية معدلة محلياً أو تلك الوطنية أو القومية التي تبنت النظرية الماركسية على طريقتها الخاصة الانتقائية وغيرها ممن ادعى تبني الماركسية في حين أن برامجها كانت بعيدة كل البعد عن المباديء الأساسية لهذه الفلسفة، خاصة في لبلدان المتخلفة، وكان وراءها قوى وطنية يسارية علمانية يغلب على تركيبتها الطبقية طابع البرجوازية الصغيرة، فإنها بغالبيتها المطلقة أثبتت فشلاً ذريعاً في قيادة الحركة الوطنية والاقتصاد والمجتمع أو في تحقيق أيٍّ من الأهداف النبيلة للفلسفة الماركسية. ولم يكن في دساتير هذه الأحزاب وبرامجها، وخاصة ما كان منها حاكماً، أية هوامش للديموقراطية الحزبية وللتطور الفكري بل بقيت على الدوام أقرب إلى الأجهزة التي تختبيء وراءها عناصر القوة المتحكمة في الاقتصاد والمستندة بشكل أساسي إلى دعم القوات المسلحة وأجهزتها القمعية، شريكةً في تقاسم مكتسبات السلطة. ولم يكن لهذه الأحزاب للحفاظ على مواقعها إلا خيار الديكتاتورية ونشر ثقافة عبادة الفرد وإحاطة أحزاب السلطة وقيادتها بهالات القدسية وبالثوابت الراسخة والمباديء الصلبة مع كل ما يتطلبه الأمر من ترغيب الملتزمين وإغرائهم وإرهاب المترددين بإظهار الولاء المطلق. ولم يكن مستغرباً أبداً اختزال كل حزب بشخص قائده واعتباره الرمز الذي لا يساوي الوطن شيئاً بدونه وإطلاق التسميات والصفات الحسنى عليه وتسويق حكمته بقدسية لا يعتريها أدنى شك، تماماً كما يرى المتدينون إلههم وأنبياءهم ورسائل هؤلاء الأنبياء المنزهين عن أي خطأ والذين لا يطالهم أي انتقاد أو أية إدانة .. لا بل يدان الوطن بأكمله والشعب ولا يدان القائد الخالد أو تُمَسُّ تعاليمه، وكمثالٍ غير حصري نتذكر ماوتسي تونغ وكتابه الأحمر. وهكذا كانت هذه الأحزاب، وما زالت بقاياها تحتضر الآن، شبيهة إلى حدٍّ كبير بالأحزاب الدينية اللاهوتية مع اختلاف المعبود ونوعية الثوابت والأطر وخلفية الضوابط من حيث الشكل.
وكما أن المنطق السليم يفترض عدم وجود حزب للإله ينوب عنه في التدخل بكل صغيرة وكبيرة في حياة الناس ويدخل باسمه معترك الحياة السياسية والنزاعات ويقيم التحالفات التكتيكية إلخ .. فإنه من اللامنطقي أيضاً أن يكون للأحزاب ذات الآيديولوجيات آلهة تتحكم وتسيطر وتعاقب وتلغي وتصادرالحريات وتغتصب الحقوق الفكرية لأفرادها والحقوق الإنسانية للآخرين وأن يكون لها نصوص مقدسة وخطوط حمراء ومحرمات وشرائع تقييم وتحكيم وعقاب.
لقد أثبتت أحداث العقدين الأخيرين وتجارب جميع الأحزاب والحركات العلمانية في العالم، القائمة على أساس غير ديني (طبقي أو وطني أو إقليمي أو عرقي) والتي حوَّلت المجموعات المتسلقة والانتهازية والسلطوية معتقداتها ومبادئها إلى (دينٍ) هم فيها أنصاف آلهة وقادتها الأفراد آلهة، أنها أحزابٌ رجعية معادية للتطور.