تذهب بعض التصورات بل الاطروحات الأجتماعيّة والسياسية على راهنية المجتمع المدني بإعتباره ضد الدولة المستبدة، وبالذات الدولة ذات النسق الشمولي، فالمجتمع المدني مشروع يجسّد موقفاُ أجتماعيّا حقوقيِّاً من شأنه الحد من سلطة الدولة الشمولية، وأنسقتها الاحتكارية، وشرطتها السريّة والعلنية، وكل ما له علاقة بتكريس آلوهية الدولة وأستبدادها الكامل، وبالتالي هناك ثنائية متقابلة بين كلا المفهومين، ثنائية سجالية، وفي تصوري هذا الموقف لا يعبّر عن الواقع، فأن المجتمع المدني يلازم الحريّة، فلا مجتمع مدني بلا حريّة، كما أنّ الحرية هي الاخرى تكتسب مزيداً من الصيرروة والحركة والنمو في سياق مشروع المجتمع المدني، وما تسمح به الدولة الشمولية من تنظيمات اجتماعية لا تعدو ان تكون هياكل كاذبة، ليس لها من وظيفة خارج تكريس المفهوم الشمولي للدولة، بل هي آلية هذه الدول على طريق تعبيد الفرد لسلطانها المرعب، وتفتيت طاقته الإبداعية، وقتل كل هاجس ذاتي حر ! وبناء على هذه المقتربات نستطيع القول بأن العلاقة بين الدولة الشمولية والمجتمع المدني علاقة تنافي، والسجال بين الدولة الشمولية والمجتمع المدني قضية سالبة لا وجود لها ولا مصداق، لان نعدم كل صدقية يمكن أن تبرهن على وجود مجتمع مدني بالمعنى الواقعي. الذي أتصوره ان هذه الاتجاهات تصدر من تعريف سكوني شيئي فرداني للمجتمع المدني، فهم يقفزون بدون مقدمات الى بعض التنظيمات التي تتناثر هنا وهناك في ظل هذه الدولة الشمولية أو تلك ( أحزاب، نقابات، جمعيات، نوادي... )، وبالتالي يملكون صورة نمطية شكلية عن المجتمع المدني، وهذه أحدى مزالق التعريف والتصور، فان المجتمع المدني ليس هو هذه التنظيمات السياسية والفكرية والفنية والمهنية، وذلك مهما كان عدد المنتسبين إليها، ومهما كانت ضخامة مقرّأتها وسعة أدبياتها، بل المجتمع المدني ما تؤول إليه من واقع، ما تفرزه من مستقبل، أي قابليتها على إعادة أنتاج نفسها في سياق إضافي مستمر باتجاه التقدم والتطور والنمو. فإذا فقدت خاصّتها المعطاءة، خاصَّتها الأثرائية في موكب حركة التاريخ، لا تملك حق الأنطواء تحت مكونات المجتمع المدني، فما بالك إذا تحولت الى مشروع تكريس للماضي المُظلم ليكون دالّة الحاضر والمستقبل ؟، ولنكن جريئين أكثر ونقل ان مفهوم المجتمع المدني يجب ان يتخطى التعداد الشكلي للتنظيمات الاجتماعية لينفذ الى الوظيفة، فيجعل منها دالّة التعريف والتعرّف والفحص والنقد، وهي مدرسة ربما نجد لها بعض المسوّغات المنطقية والفكرية، فليس التعريف حكراً على المشروع المنطقي الارسطي. وربما يصدر أصحاب هذه المدرسة ( العددية ) من خلفيّة ذهنية صرفة في التعامل مع المفاهيم، فيما المطلوب هو الفحص في صقع الواقع، لانّنا نتحدث عن تاريخ وليس عن نسق منطقي، وعليه ينبغي الرجوع الى صقع الواقع لمعالجة الاشكالية، فقد يكون مقبولاً بل هو الصحيح القول بان مفهوم المجتمع المدني يضاد مفهوم الدولة الشمولية، ولكن لسنا في معرض سجال مفاهيمي بل في معرض معالجة مادية واقعية، معالجة محسوسة. وفي الحقيقة كثيراً ما كان الخلط بين الافق الذهني الماهوي والأفق الواقعي سبباً في تزييف الحقائق وتشويه الافكار.
أن مكونات المجتمع المدني من أحزاب سياسية تمارس العمل السياسي، ومؤسسَّات أهلية ناشطة على صعيد الثقافة والتربية والفكر والعلم، وجمعيات عاملة من أجل ترقية متسبيها ومحبيها أقتصاديا وأجتماعيا، ومن نقابات تدافع عن حقوق العمال والموظفين وتعمل من أجل مستقبلهم، وصحافة حرّة تتكفل بتنوير العقل وتحريره من سلطان الاحتكار الخبري، ونوادي فكرية تتعهد بنشر الوعي والخبرة الفكرية... ان هذه التنظيمات ليست مجرد أطر في نطاق فهمنا الواقعي للمجتمع المدني، بل هي منظومة فعّاليات حيّة، معيارها الاساسي ليس ما أنجزت، بل ما سوف تنجزه، هي مشاريع إضافة وليس مشاريع تكريس وتجذير لأردات سلطوية أو وراثية، وهذا يعني أن هذه التنظيمات ربيبة الحرية، لا تتنفس الا بجو من الحرية، ولو حرية هامشيّة إذا صحّ التعبير، هي مسيرة متحركة بالعطاء، ولا يمكن لمسيرة هذه هويتها أن تعيش في جو خانق، ولا أقصد بالحرية هنا بطبعية الحال المفهوم الذاتي التأملي الذي شغل العقل الصوفي، بل الحرية الواقعية أيضا، الحرية كممارسة مادية خارجية، كنسق حياتي يعلّم تاريخي بالفعل المنبثق من إرادتي، حرية الفرد وحرية المجتمع وحرية الفكر وحرية الا جتماع.
العلاقة بين الحرية والمجتمع المدني كمشروع نهضوي تقدمي انجازي علاقة ضرورة وليست علاقة عارضة مؤقتة، لا ينشا المجتمع المدني خارج الحرية، ولكن هنا قد يُثار سؤال مدرسي، تُرى هل يعني هذا ضرورة تظهير الحرية قبل تظهير مشروع المجتمع المدني ؟ ربما يبدو أنه سؤال منطقي وبدهي، ولكن هو في التحليل الا خير على غرار السؤال الازلي الذي لم يجد له جوابا، ولن يجد له جوابا في المستقب القريب او البعيد، أقصد أيهما قبل الدجاجة ام البيضة، ذلك أن المجمتع المدني والحرية متاشرطان، يتأثر أحدهما في الاخر، وحسب مقولة المنطق الا رسطي هما متضايفان، لايمكن تصور أحدها بدون الاخر، هذا التضايف يفرضه مفهوم كل منهما، فأي وظيفة تنموية تطويرية يمكن ان تجد لها مجال بدون حرية، وأي حرية يمكن ان تجد أو تظفر بمجالها الحيوي بلا تنظيمات سياسية وعلمية وثقافية وفكرية تمارس نشاطاً حقوقيّا وفكريا وثقافيا حرّا، أن الإستعانة ببعض تقنيات المنطق الارسطي هنا ليست مضرّة، فان نسبة التضايف كما نقرأها في منظومة الافكار المنطقية الا رسطية هنا ناجعة و مفيدة على صعيد وصف ا لعلاقة بين الحرية والمجمتمع المدني، أن أخضاع العلاقة المذكورة لمنطق السببية يزج الفكر في متاهة متعبة وبدون طائل، وربما يتحول النقاش الى ملحمة فارغة، لا يعني هذا نفي مفهوم السببية من الاساس، ولكن تبطيقه في هذا المجال يقود الى فراغ، والاولى بحملة مشروع المجتمع المدني ان يعقدوا علاقة تفاعل متشارط بين المشروع والحرية، فكلاهما شرط الاخر، وكلاهما يكمل الاخر، وبهذه المعادلة المتكافئة ننقذ الحرية من البوار، وننقذ المجتمع المدني من الشروط الباهضة التي قد تكسر ظهر المشروع وتعيق تظهيره واستخراجه من مملكة القوة الى مملكة الفعل، وليس من شك أن أولى مستحقات فكرة التضايف بين كلا المفهومين، اي المجتمع المدني والحرية هي العمل على كلا المستويين، وذلك من علائم الوعي الشعبي الذي ننتظره في عراقنا العظيم.

السويد