المسلحون الملثمون الذين انتشروا في شوارع مدينة سامراء نهاية الاسبوع الماضي وزرعوا الرعب في قلوب الاهالي.. كانوا ينفذون خطة منظمة لزعزة الثقة بالحكومة الفتية واجهزتها الامنية.. كما اتضح من حيث توقيتها وعدد عناصرها واسلوب تنفيذها والاسلحة المستخدمة والمواقع المستهدفة بالاضافة الى الشعارات المنطلقة اثناءها.
ولم تختلف خطتهم عن سابقاتها في مدينة الفلوجة و بعقوبة سوى بالمكان والتوقيت .. ولكنها اختلفت عنها بما لا يقبل الشك بقوة التحدي ودرجة التنظيم ومستوى الاعداد وطول فترة السيطرة على الاهداف وشوارع المدينة.
ومن المتوقع ان تشهد قريبا مدن اخرى عمليات مشابهة ان لم تكن اكثر اتساعا وعددا واسلحة في محاولة اكثر جسارة للتمترس والاستحكام فيها او في بعض مواقعها لآطول فترة ممكنة.
ولكن قبل محاولة تفسير هذه الظاهرة الخطيرة التي باتت تهدد أمن البلاد واستقرارها وتثير الرعب والاشمئزاز بين اوساط المواطنين.. دعونا نسترجع الاحداث التي شهدها العراق ابان العهد الجمهوري الاول منذ منتصف عام 1959 وحتى الانقلاب البعثي في الثامن من شباط عام 1963.. فالذين عاشوا تلك الحقبة المتسمة بالصراعات السياسية الدموية.. يتذكرون كيف بدأت حينذاك تنظيمات حزب البعث التي لجأت الى لغة السلاح لآثبات وجودها على الخارطة السياسية العراقية بتشكيل زمر من الشقاوات والمسلحين وبأشراف مباشر من قيادة الحزب وتطبيق خطة منظمة ترمي لآيجاد مناطق أمنة يتحرك فيها اعضاء الحزب بعيدا عن عيون السلطات الامنية آنذاك.. وقد سميت مناطق (مغلقة) مثل احياء الاعظمية والصليخ والوزيرية في الرصافة والجعيفر والرحمانية والدوريين والتكارتة والست نفيسة والمنصور وغيرها في الكرخ حيث بدأت هذه العصابات بملاحقة غير البعثيين في تلك المناطق والاعتداء عليهم واغتيال البعض منهم لآرغامهم بالقوة وتحت تهديد السلاح بالانتقال منها الى احياء اخرى من العاصمة.
وجرت نفس تلك المحاولات (لآقفال) مدينة الموصل وضواحيها الجنوبية حتى تكريت وبلد وسامراء وبيجي وغربا الى لواء الدليم ومدنه ونواحيه حتى الحدود السورية وشرقا حتى بعض المناطق من بعقوبة.
ولم تستطع تلك العصابات المنظمة من نقل نشاطها الى مدن الجنوب او الشمال (كردستان) او الى الاحياء الشعبية في العاصمة لآنعدام التأييد الشعبي لها عدا اجزاء من بعض الاحياء الواقعة على اطراف بغداد مثل المحمودية واليوسفية وجسر ديالى والطارمية وسبع ابكار والراشدية.
كانت الخطة ان تُجبر تلك الزمر المسلحة كل المناوئين للبعث على الرحيل عن منازلهم ومناطقهم او مواجهة التهديد بالموت.. وبالفعل فقد اغتيل عدد كبير من الرجال والنساء وتعرض آخرون الى اعتداءات بشعة مثل الضرب بقضبان الحديد او الطعن بالسكاكين والفؤوس.. ولم تكن السلطات آنذاك قادرة او راغبة في وقف تلك الزمر ومحاسبتها.. واستغل البعثيون حالة التسيب الامني والتراخي من جانب الحكومة فنجحوا من توسيع رقعة ممارساتهم العدوانية مستفيدين من انفلات الرقابة على الحدود او وجود عناصر متواطئة معهم في بعض المواقع الادارية والامنية وتوفر الدعم المادي والمعنوي والاعلامي الخارجي لهم .. حتى تسنى لهم آنذاك اسقاط السلطة القائمة والاستيلاء على مقاليد الحكم في البلاد بقوة السلاح في الثامن من شباط عام 1963.
وما يجري اليوم في نفس تلك المناطق لا يختلف كثيرا عما وقع قبل اكثر من اربعين عاما.. فالفلوجة وغيرها من مدن الدليم والاعظمية وبعض احياء الموصل نزولا الى سامراء وبلد وبيجي وبعقوبة أصبحت مناطق (مغلقة) لعصابات مسلحة لا تهدد اشخاصا فحسب بل كل مؤسسات الدولة الامنية والادارية والاقتصادية ومنشآت البنى الارتكازية للعراق.. واخذت تنطلق منها لتنفيذ عمليات القتل والتخريب والتفجيرات .. وحولتها الى مستودعات للسلاح والعتاد وساحات لتدريب المغرر بهم وملاذات للمطلوبين للعدالة و للمتسللين من الخارج بدعوى (الجهاد) ضد الولايات المتحدة.
وستستخدم هذه العصابات نفس أساليب اواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي وبأسناد خارجي ربما يكون هذه المرة اكثر فاعلية عن ذي قبل لفرض هيمنتها على مناطق أوسع لتجعلها (مقفلة) ما دامت أجهزة الامن العراقية الفتية وحتى القوات متعددة الجنسيات تقف عاجزة او ربما غير مكترثة بما يجري داخل تلك المناطق (المقفلة) ولا تبدي اي تحرك فعال لوقف عصابات النشاط التخريبي فيها.
كل من يراقب عن كثب الخط البياني لتحرك هذه العصابات منذ سقوط النظام الدكتاتوري العام الماضي وحتى بعد الاعلان عن قانون السلامة الوطنية وبدء الاجراءات القضائية الاولية تمهيدا لتقديم صدام حسين واعوانه الى محكمة عراقية.. يلاحظ دون شك تصاعدا واتساعا خطيرين في نشاطها الارهابي التخريبي واصرارها الوقح على الاستخفاف بالقانون خصوصا وانها تلقى دعما معنويا حثيثا ومنتظما من جانب وسائل اعلام وتنظيمات وتجمعات من دول الجوار وما دونها والتي لا تريد ان ترى عراقا حرا ديمقراطيا يربك هياكلها السياسية والاجتماعية المنخورة, كما ان الذي يشجع هذه العصابات على التمادي في نهجها الدموي هي حالة اللامبالاة والخوف والتردد المتفشية بين ابناء الشعب العراقي وعجز المؤسسات الامنية العراقية الفتية لحد الان عن كشف هوية الزمر التخريبية أمام الرأي العام العراقي وتقديمها للعدالة دون تاخير.
وفي حال استمرار الاوضاع على حالها دون حلول جذرية وفورية وصارمة للقبض على منتهكي القوانين وكشف هوياتهم ونشر صورهم امام الرأي العام والاسراع بتقديمهم للعدالة, فأن العراق سيشهد نشوء مناطق (مغلقة) تابعة للعصابات المسلحة قد تكون أوسع من مثيلاتها في حقبة الخمسينات و الستينات وتكون عصية على قوات الامن الوطنية.. بالاضافة الى احتمال نزوح واسع النطاق للمواطنين هربا منها, و مزيد من اعمال العنف والقتل والتخريب في كل ارجاء البلاد.
وفي ظل غياب اعلام عراقي وطني مؤثر ومقبول لدى الرأي العام العراقي, فان محطات التلفزة الفضائية المملوكة لحكومات دول ناطقة بالعربية والتي اصبحت مصدرا رئيسيا للاخبار والمعلومات لدى عامة العراقيين, ستواصل سعيها ودعمها المعنوي لهذه الجماعات المسلحة لتوفير مناخ ملائم لتمرير خططها الرامية لاشاعة عدم الاستقرار واجهاض العملية السياسية الجديدة في البلاد.
وما التظاهرات التي نظمها بكل جرأة ووقاحة مسلحون في هذه المناطق تأييدا للدكتاتور مطالبة بالافراج عنه سوى بداية لتنفيذ المخطط الاوسع الرامي للعودة بالبلاد الى ما قبل التاسع من نيسان 2003 واستلاب مقاليد الحكم واجهاض اية محاولة للتغيير السياسي, خصوصا وان هذه العصابات تحظى بدعم غير معلن من جانب بقية حكام دول المنطقة الذين يرفضون بقوة اي مشروع ديمقراطي تحرري يقوض عروشهم وينهي عقودا من الاستبداد والاستفراد بالحكم ويحطم المفاهيم والتقاليد الموروثة التي ابقت مجتمعات هذه الدول في سبات وضياع وضلال.
ان حكومة الدكتور اياد علاوي التي تعهدت بالقضاء على الارهاب واستئصال بؤره أينما كانت ستجد نفسها في موقف حرج لا تحسد عليه اذا تركت هذه المناطق (المقفلة) مقفلة دون ان تسود فيها سلطة القانون.
لندن