مقدمة وتنويه
في تصوري لقد حان الوقت لمراجعة السيرة النبوية الكريمة مراجعة نقدية قاسية، تعتمد غربلة الأخبار وتصفية الروايات، وذلك في ضوء منهج نقدي علمي يعتمد أخر ما وصلت أليه جهود النقد النصّي والتاريخي، واقول بكل صراحة يجب ان تخطّي الخطوط الحمراء في هذه العملية، وفي مقدّمتها عدم التسليم بان كل ماجاء في بعض كتب الحديث صحيح، وذلك مهما كان رجالها، ومهما كان رواتها، بل يجب ان نعيد النظر في تقييمات ومقاييس نفس هؤلاء الجامعين، بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذي والكليني والطوسي، لا تقديس لاحد، وكل هؤلاء بشر، يمكن ان ينسوا، ويخطأوا، ويتأثّروا، وينحازوا، وفي ذلك نحطِّم جبروت الإقصاء، ونستعلي على تأليه الأشخاص، وإلاّ أذا كان كل ما جاء في أسفارهم صحيحاً، ما هو الفرق بين ما جاء في كتبهم وما جاء في القرآن الكريم ؟ حاشا لله، فتلك سقطة كبيرة، أضرّت بالاسلام وا لمسلمين. وقد وضعت لنفسي اكثر من ضابط ومقترب في قرائتي لسيرة اشرف البشر خاتم النبيين محمّد، تخطيت بها المقاييس التقليدية المألوفة التي جُمعت في نقطتين، هما صحّة السند والمتن، لاتجاوز ذلك الى ضرورة تحكيم العقل السليم، وقراءة الظروف التي دوّنت بها المصادر ا لحديثية، وأسفار السيرة التي هي اسفار جمعت بين الغث والسمين، ومن ثمّ روح الاسلام العامّة، ورسالة القران الداعية الى العدل والسلام والحب وا لاخاء هي الاخرى مقترب مهم وخطير يجب الاستفادة منه، ومن ثم هناك العقل الذي مجّدة القرآن وارتكن اليه، وهناك الرأي الذي يقول ان ا لتفسير بالمعقول الطبيعي، والسهل القريب من الأذهان البسيطة، هو أولى من التفسيرالغيبي، البعيد عن الأفهام العاديّة، خاصة وان القران والاسلام والنبي خاطبوا العقول العادية وليس العقول العملاقة، وهناك ضابط آخر هو حساب التاريخ وما تنقله الكتب التاريخية، وهناك ضابط اخر هو طبيعة المتلقي وظروفه، ورسالة المرسِل ورسالته... في ضوء كل ذلك أريد معالجة احدى مفردات السيرة التي طالما نسمعها من الخطباء، ونقرأها في كتب السيرة، ومن اهمها سيرة ابن هشام التي هي بالاصل لابن اسحق. هذا وكلي امل ان اعود لقضية المقاييس في اقرب فرصة ممكنة ان شاء الله تعالى.


إطلالة سريعة
أُحيطت ولادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفيض من المعاجز والأحداث الخارقة التي لم تكن ذا صلة بظروف البيئة التي عاش بها نبينا وحسب، بل لتتصل بكل أرجاء العالم، وتمسّ أطراف الوجود وصميم التاريخ، فهي حوادث كونيّة شموليّة إتسعت لمساحة لخلق الله الرحيب، لتصيب ثباته وتزلزل ثوابت الناس وعاداتهم وأديانهم.
يقول اليعقوبي ( ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم رُجمت الشياطين، وانقضّت الكواكب، فلما رأت ذلك قريش أنكرت إنقضاض الكواكب، وقالوا : ما هذا إلاّ قيام الساعة وأصابت الناس زلزلة عمّت جميع الدنيا حتى تهدّمت الكنائس والبيع، وزال كل شيئ يُعبد من دون الله عزّ وجل عن موضعه، وعُميت على السحرة والكهان أمورهم، وحُبست شياطينهم، وطلعت نجوم لم تُر من قبل، فانكرتها كهان اليهود، وزُلزل إيوان كسرى، فسقطت منه ثلاث عشر شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تكن فحدث ذلك قبل بألف عام... ) 1.
أذن وتأسيساً على ما يقوله اليعقوبي كانت هناك سلسلة من المعجزات الخارقات التي تتسّم بصفة الصدمة، صدمة العادة والمألوف، تجاوزت مبدأ التحذير المحلي الىالتحذير العالمي، وجمعت في نطاق مجابهتها ومباغتتها المحسوس وغير المحسوس، ويبدو من هذ النص وغيره من النصوص في هذا الميدان ان هذه المعجزات حصلت جميعها في لحظة الولادة المباركة أو ليلتها الميمونة.
يقول إبن الجوزي (... ولما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وغاصت بحيرة ساوة، وخمدت نار الفرس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام... ) 2.
يقول الطبري (... ولما كانت ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم إرتجس أيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار الفرس، ولم تخمد قبل ذلك بالف عام، وغاضت بحيرة ساوة... ) 3.
أذن هذه السلسلة من الخوارق إنما كانت في ليلة واحدة، هي ليلة الميلاد الطاهر، وهي خوارق تفوق حدّ التخوم المحسوبة بالارقام العاديّة، اقصد المحلية، علماّ ان هذا الكم من الخوارق المذهلة لم تر د إدعاءً او إخباراً عن النبي نفسه، ولم يذكر لنا التاريخ أن النبي العظيم قرن ذلك بنبوته، ولعل حصول كل هذه الخوارق في ليلة واحدة هي ليلة ولادته الميمونة تفرض هذا القرن، وليس من المعقول ان يغيب تماما، إن واحدة من هذه المعجزات الضخام تكفي لتاسيس هذا القرن، فكيف والحال هذه الكمية المذهلة من الخوارق التي هزّت العالم كله ؟ !
أذا كان هناك شيئ يحير العقل هو أمر هذه النار العجيبة التي إستمرت ألف عام مشتعلة تقهر الريح والنسيان والفكر، ففي هذا المجال يستوقفنا موضوع إيوان كسرى، فإذا كان في ليلة الولادة الرائعة قد تهاوى منه أربع عشرة شرفة، فأنّه في ليلة المبعث قد أنقضم من وسطه من غير ثقل، كما أنخرقت عليه دجلة العوراء، فحزن كسرى كما حزن في الاولى، ودعى الكهنة والعرّاف لحل هذا اللغز العجيب كما فعل في ليلة ا لميلاد 4هذا التواصل الحميم بين ليلة الميلاد وليلة المبعث في تأثيره الإعجازي على ا لطاق يصمت التاريخ عن أي إلتفاتة يمكن أن تسبدّ في ذهن كسرى، وهو الذكي اللبيب، خاصّة وأنّه عاش بعد البعثة سنين، تُرى هل عُدم المراجعة للربط بين الزمنين وهذا التلاقي في الإنعكاسات الحادّة على طاقه المشهور ؟
مجرّد سؤال عابر !
قريش ذاكرة حادّة، ذاكرة عربية شديدة الحساسية للحوادث الكبيرة الغريبة، فليس من المعقول ان تهمل هذا القرن بين ليلة الولادة و إنقضاء النجوم وأهتزاز الدنيا وتصدّع الكنائس والبيع في كل أرجاء العالم، ومن حقنا ان نسال كيف عرف الراوي هذه المعجزة التي تقول انّ كل مكان أو موضع لا يُعبد فيه الله قد تهدم وانهار وتداعى ؟!
ينتهي الطبري وغيره في هذه الرواية الى ( مخزوم بن هاني المخزومي عن أبيه ) وقد مضت على ا لحادثة مائة وخمسون سنة بنص ا لطبري والبيهقي ــ5 هذا ومن حقنا ان نسال عن مصدر هاني هذا خاصة وإنّ المدّة الفاصلة مائة وخمسون سنة، ولم يرد ذكر لمخزوم هذا في تهذيب التهذيب وغيره من كتب رجالية.
تقول ا لرواية السابقة أن كسرى إرتج وهو يرى تداعي الطوق وخمود النيران المقدّسة وغيرها من الظوهر الخارقة الأخرى، فاستدعى ( الموبذان ) ـ 6، لحلِّ هذا الاشكال المرعب، فأخبره الموبذان يرؤية عرضت عليه، وكان تفسيرها عنده ( حدث يكون في ناحية العرب... ) ـ 7، ثم ألتمس عالماً عند النعمان بن المنذر، وذك هو عبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني، فلم يجد عند جوابا، واخبره أن علم ذلك عند خالة المدعو سطيح، ويروى أنّه اجاب بما يفيد بنبوة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ولسطيح هذا أخبار عجيبة غريبة / منها أنّه تنبأ بظهور النبي العربي، ومنها أنّه تنبأ بخلافة الصديق ومقتل عثمان بن عفان وبما يحدث في خلافة بني أمية والعباس وما بعدهما من فتن واضطرابات، ويرون كل ذلك عن أبن عباس، قالوا : أنّه عاش ثلاثمائة سنة أو خمسائة أو سبعمائة ــ 8، ليس من ريب أن كل هذا الحشد من الاخبار الغريبة كان من الضروري ان تقترن بالمعاجز السالفة، ومن ثمّ تنعكس بدلالاتها على لحظة المبعث العظيم، وبشكل عام على قضيّة نبوّة الرسول ا لكريم بما يدخلها في سجال فكري ودلالي بين المؤمنين من جهة وعتاة الكافرين من جهة ا خرى، وهو الامر الذي نفقتده تماماً. لم نقرأ هذه المعاجر في كتب الحديث المعتبرة ويعلّق الذهبي على الرواية السابقة ( هذا حديث منكر غريب ) ــ 9.


حديث النور
مصفوفة المتون
1 : في طبقات إبن سعد ( أخبرنا سعد بن منصور، اخبرنا فرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أمامة الباهلي، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأت أُمّي كأنه خرج منها نور أضاءت قصور الشام ) 10
وفي السند فرج بن فضالة وقد ضعّفوه جداً 11، والسند ينتهي إلى أبو إمامة الباهلي وكان عمره في حجة الوداع ثلاث سنوات، فالرواية على لسانه تدليس فضلاً عن كونها بحكم المرسلة في هذه الحالة، أي من مراسيل الصحابة، وفي السند أيضا لقمان بن عامر، ذكره الذهبي في الضعفاء ولم يوثّقه إلاّ إبن حبان، وفي توثيقه نظر 12.
2 : في طبقات أبن سعد (... أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء العجلي، عن ثور بن يزيد، عن أبي العجفاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : رأيت أمي حين وضعتني سطع منها نور اضاءت له قصور بُصرى ) 13
في السند عبد الوهاب بن عطاء العجلي، ضعّفه احمد ـ 14، وليّنه أخرون ـ 15، وفي السند أيضاً أبو العجفاء، وهو ليس من الصحابة، وقال الحاكم : حديثه ليس بالقائم، وقد أُختلف في إسمه، قيل إنّه هرم بن نسيم، وقيل نسيم بن هرم، وقال البخاري : في حديثه نظر 61، وحديثه مرسل كما هو واضح.
3 : وفي الطبقات أيضاً (... أخبرنا معاذ بن العنبري قال : حدّثنا إبن عون، عن أبن القبطية في مولد النبي صلى الله عليه وسلم قال : قالت أمّه : رأيت كأن شهاباً خرج منّي أضاءت له الارض ) 17،ومن الواضح أنّ إبن القبطية لم يبين مصدره عن أم الرسول الكريم التي توفيت وكان عمره صلى الله عليه وآله وسلم، فالرواية مرسلة لأن أبن القبطية هو عبيد الله بن القبطيّة ـ تهذيب التهذيب 7 / 44 ـ
4 : وفي الطبقات أيضا ( 1 : قال : أخبرنا محمّد بن عمر، أخبرنا محمّد بن عبد الله بن مسلم عن الأزهري، 2 : قال وحدّثنا موسى بن عبيدة عن أخيه ومحمّد بن كعب القرضي، 3 : قال وحدّثنا عبد الله بن جعفر الزهري، عن عمّته أم بكر بنت المسور، عن أبيها، 4 : قال وحدّثنا عبد الرحمن بن إبراهيم المدني وزياد بن حشرج، عن أبي وجزة، 5 : قال وحدّثنا معمّر بن أبي نجيح، عن مجاهد، 6 : قال وحدّثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن أبن عباس، دخل حديث بعضه في حديث بعض...
إ نّ آمنة بن وهب قالت : لقد علقتُ به ـ تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فما وجدت له مشقّة حتى وضعته، فلما فُصل منّي خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثمّ وقع على الا رض معتمداً على يديه، ثمّ أخذ قبضة من تراب فقبضها ورفع راسه الى السماء، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رأيت أعناق الابل ببصرى) ــ 18.
وهذه الاسانيد أمّا مرسلة أو موقوفة ــ والمتن كما نرى غير متّسق العناصر، كما أنّه يختلف في بعض فقراته عن المتون السابقة، وفي الحقيقة أنّ هذه اللحظة الكونية الرهيبة ــ أي إضاءت العالم ـ بهذه الشموليّة والدرجة لم يسجّلها لنا التاريخ العربي في ذاكرته، ولم تتحوّل إلى مادّة سجاليّة وهو أمر لابد أن يحدث في خضم معركة التصديق والتكذيب التي أستمرت ( 23 ) عاماَ.
إنّ الحدث هو المكوّن الجوهري للتاريخ، ومثل هذه الإضاءة المدهشة كان لابدّ أن تأخذ مجراها في بنية الرواية العربية وشعرها ونثرها، تماماً مثل حادثة الفيل مثلا، ولكن للاسف الشديد أنّ شيئا من هذا القبيل لم يحصل، ولا نعتقد أنّ ذلك يعود إلى إهمال الذاكرة العربية، وهي المغرمة أنذاك بالغريب، بل لانّ هذا الغريب لم يكن له نصيب من الحقيقة، وإلاّ ما المانع ؟! وهذه أبسط الوقائع نجد صداها في شعر هذه الذاكرة وحكاياتها، كما انّ هذا التداخل يجعل من فرز الحديث بقبال سنده الحقيقي أمر عسير، وهذا يزيد في صعوبة الحكم.
5 : وفي سيرة الذهبي ( وقال يونس بن بكير، عن إبن إسحق، حدّثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معران، عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنّهم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، قال : أنا دعوة إ براهيم، وبُشرى عيسة، ورأت أمي حين حملت بي كأن نوراً خرج منها أضاءت له قصور بُصرى من أرض الشام ) ـ 19.
والسند مقطوع...
6 : وفي دلائل البيهقي عن معاوية بن صالح أن ام رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت نوراً أضاءت له قصور الشام، وفي رواية أضاءت منه قصور الشام ــ 20، وفي السند معاوية بن صالح، منهم من يرى أنّه وسط، وليس بالثبت، ولا بالضعيف، ومنهم من يضعّفه ــ 21، وقال أبو حاتم : لا يُحتجّ به وكان القطان لا يرضاه ــ 22، وفي السند أيضاً سعيد بن سويد، فهو مجهول لم ينسب كما في لسان الميزان 2 / 33، وفي الضعفاء الكبير ( قال البخاري سعيد بن سويد لا يُتابع في حديثه 3 / 408 ) ـ 23، ولم نعثر له على ترجمة في كتب الرجال مثل تهذيب التهذيب والجرح والتعديل.

الينابيع الأولى
من حقنا ان نسأل عن الينابيع الأولى لرواية النور، أي على صعيد المصادر الأساسية الروائية التي تنتهي إليها سلسلة هذه الأحاديث.
•أبو إمامة الباهلي ( صحابي ) كان عمره إبّان حجّة الوداع ثلاث سنوات.
•أبو العجفاء ( تابعي ).
•إبن القبطية ( تابعي ).
•الزهري ( تابعي ).
•محمّد بن كعب العرضي ( تابعي ) ولد في آخرخلافة علي عليه السلام.
•المسوّر ( صحابي ) ولد بعد الهجرة بسنتين، فيكون عمره عند رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حوالي ثمان سنوات.
•أبو وجزة ( تابعي ).
•إبن عباس ( صحابي ) واحاديثه عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بحكم المرسل لصغر سنه.
•خالد بن معدان ( تابعي ) ــ 24.
•العرباض بن سارية ( صحابي ).
وبالعودة إلى هذه الأسماء نكتشف أنّ طابع الارسال يغلب على مسانيد الرواية التي نحن بصددها، فهي تتنهي عند تابعي أو صحابي صغير السن، ولا يُعقل أنّه سمع رسول ا لله صلى الله عليه وآله وسلم وأدرك مغرى كلامه، ورواية ا لعرباض موقوفة كما هو واضح، والرجل كان من أبناء الصفّة، والشيئ الذي أريد قوله هنا، أنّ مثل هذه الأحداث الضخام لا يمكن أن تقف عند تابعي او صحابي واحد لم يُعرَف عنه التوغل الشديد في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنّ الأحداث ذات الطابع الإعجازي الخارق المتوتّر روحيِّاً إذا إقتصرت روايتها على تابعي أو صحابي غير متغلغل... إنّ مثل هذه الأحداث تثير الشك في حصولها، ونحن نقول هذا لا لانّ مثل هذا النور المزعوم أو تلكم الظاهرة الإعجازية كثيرة على رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم، بل هو أعظم واشرف من كل ذلك، بل لأنّ طريقة روايتها لا تساعد على التثبت منها، فمثل هذه الأحداث ننتظرها في رواية كبار الصحابة، وننتظرها في روايات متواترة على لسان رسول الله، وننتظرها في وقائع من السجال والحجاج والافتخار... كل هذا لم يحصل للاسف الشديد، ذلك أنّ هناك علاقة أكيدة بين جلال الحدث ــ في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ــ والوسط الصحابي الذي كان يعيش في كنفه الشريف.
الرواية ( 1 ) مخدوشة السند بـ ( فرج بن فضالة ) كما أن سعد بن منصور مجهول، ولا يُعرَف 25، ومصدرالرواية أو إمامة الباهلي كان عمره في حجّة الوداع ثلاث سنين فروايته بحكم المرسلة.
الرواية ( 2 ) مخدوشة السند بـ ( عبد الوهاب بن عطاء العجلي وأبي العجفاء ) كما أنّ ثور بن زيد وإنْ وثّقه جماعة وأثنى عليه بعض الرجاليين، إلاّ أنّه كاك قدريّاً وكارهاً لعلي بن أبي طالب عليه السلام ــ 26، والرواية مرسلة، ثمّ أنّ عبد الوهاب يدلّس عن ثور ( تهذيب التهذيب 6 / 453 رقم 935 ــ
الرواية ( 3 ) مرسلة.
الرواية ( 4 ــ 1 ) مرسلة أساساً، لانّها تنتهي عند الزهري التابعي، وهي مخدوشة السند بـ ( محمّد بن عبد الله بن مسلم )، فقد ضعّفه إبن معين وقال : لا يُحتجُّ بحديثه، وقال كل من أبن ابي خيثمة عن أبن معين، وأبو حاتم ليس بالقوي، وقال ابن حبان : كا رديئ الحفظ كثير الوهم 27.
الرواية ( 4 ــ 2 ) مرسلة أساساً، لانّها تنتهي عند محمّد بن كعب القرضي، وفي السند موسى بن عبيدة وقد ضعّفوه جدّاً، وكانت روايته عن اخيه ( وهي في السند الآنف ) ـ 28 مرسلة.
الرواية ( 4 ــ 3 ) بحكم المرسلة لانّ المسوَّر كان صغيرا، إذ ولد بعد سنتين من الهجرة المباركة ( وأم بكر ) هذه لم يرد بها مدح أو ذم ــ 29.
الرواية ( 4 ــ 4 ) مرسلة أساساً، فإبن وجزة هذا ليس صحابيِّاُ وقد توفي سنة 130 للهجرة.
الرواية ( 4 ــ 5 ) مرسلة أساساً، وابن أبي نجيح لم يرو عن مجاهد سماعاً، ذكره النسائي في المدلّسين 30.
الرواية ( 4 ــ 6 ) بحكم المرسلة لأنّ إبن عباس كانك صغير السن في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، ثلاث عشر سنة، وفي سندها ( طلحة بن عمرو ) وهو ضعيف جداً، متروك 31
الرواية ( 5 ) مرسلة أساساً.
الرواية ( 6 ) مخدوشة السند في معاوية بن صالح وسعيد بن سويد.

هل هناك غاية مبطّنة؟
•خرج منها نورأضاءت له قصور بُصرى ( الرواية 2 ).
•خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ( الرواية 1 ).
•كأن شهاباً خرج منّي أضاءت له الأرض ( الرواية 3 ).
•خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب ( الرواية 4 ).
وليس من ريب أن الرواية ( 5 ) التي تقول ( أضاءت له قصور بُصرى من الشام ) إ نّما هي محاولة واضحة للجمع بين أكثر من رواية تتصل بمكان محدّد ومسمّى، ذلك أن ( بُصرى من بلاد الشام )، الأمر الذي يجعل هذه الرواية مصدر تشكيك بالمساحة العالميّة التي تدعيها روايات أخرى، بل تجعلنا نشكك بانارة الشام الصريحة في الرواية ( 6 )، حيث في ذيل الرواية نقرأ (... خرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها حتى رأيت أعناق الابل ببصرى ) ـ 31.
هذا التصاعد العجيب في منطقة الإنارة أو الإضاءة يكشف عن رغبة في المبالغة، بل يشكف عن تفاعل حي مع الغريب وتضخيمه وتعميقه وتأسيسه، ولكن الرواية التي تقول ( أضاءت منه قصور الشام )، وهذا التاكيد على الشام، بكل تفاصيلها، القصور والابل والبيوت، هل هو بريئ ؟ النص سلطة خفية، والتحليل الدقيق يفتش عن السلطة الخفية.
أضاءت له قصور الشام !
أضاءت منه قصور الشام !
هي الشام !
هل هناك محاولة لتكون الشام هي المعادل الموضوعي للعالم كله ؟ ألبعد ليس خاصّة شامية فريدة، هناك من بلاد الله ما هو أبعد من الشام، ولكنّها صناعة المجد بطريقة تثير ذاكرة الإ قتران بين نور النبوّة ومكان بعينه، والمقصود هو المكان وليس النور.
لنقرأ هذه الرواية كي نعرف مزيداً من الاسرار هنا ( حدّثنا ابو العباس محمّد بن يعقوب قال : حدّثنا أحمد بن عبد الجبار قال : حدّثنا يونس بن بكير، عن إبن إسحق قال : وكانت أمُّه بنت وهب أم رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم تُحدَّث أنّها أُُتيت حين حملت بمحمّد صلى الله عليه وسلم فقيل لها : إنَّك قد حملت بسيّد هذه الامة، فإذا وقع على الأرض فقولي : أعيذه بالواحد، من شرّ كل حاسد في كل بر عاهد ن وكل عبد رايد، ويرود غير رايد فإنّه عبد الحميد الماجد، حتى آراه قد أتى المشاهد... فإنأية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بُصرى من بلاد الشام... ) ـ 32، فهذه الرواية ترتفع بقصور بصرى في الشام، فهي لم تضيء للنور، بل تمتليئ بالنور على بعد ألاف الا ميال، فهي مباركة، هي مقدسة، نالت من النور حظوة عظيمة !
الرواية ضعيفة، ويكفي أن نعرف أنّ يونس بن بكير ضعّفه وليّنه جماعة 33، أمّا أحمد بن عبد الجبار فقد كذّبه معين، وقال أبو أحمد الحاكم : ليس بالقوي عندهم، تركه إبن عقدة، وقال إبن عدي : رأيتُ أهل العراق مجمعين على ضعفه، وقيل : لا يتورّع في أن يُحدّث عن كل أحد، وقد ضُعِّف عند بعضهم لانّه لم يلق من يحدث عنهم 34.
7 : في سيرة إبن كثير ( أبن أبي سويد الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص حدّثتني أمي : إنّها شهدت ولادة أمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ولادته، قالت : فما من شيئ أنظره في البيت إلاّ نور، وأني أنظر إلى النجوم تدنو حتى أني لأقول لتقعنَّ عليَّ ) 35، يبدو أن أم عثمان كانت بخيلة بالخبر، فلم تسر به إلاّ إبنها، وفي السند أبن أبي سويد، بروي عن ( عبد العزيز بن عمران ) الضعيف المتروك 36.
8 : في الطبقات ( قال أخبرنا عفان بن مسلم، أخبرنا حمّاد بن سلمة، عن أيوب، عن عكرمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ولدته أمّه وضعته تحت بُرمة فأنفلقت عنه، قالت : فنظرتُ إ ليه فإذا هو قد شقَّ بصره الى السماء ) 37.
الرواية مرسلة، وحمّاد بن سلمة تغيّر حفه في آخر عمره، وله أوهام وغرائب 38، وكذّب عكرمة مجاهد وإبن سيرين ومالك 39.

حديث السجود والختان
9 : في الطبقات ( قال أخرنا الهيثم بن خارجة، أخبرنا يحي بن حمزة، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وُلَِدَ وقع على كفيِّه وركبتيه، شاخصاً بصره الى السماء ) 40.
الرواية مرسلة.
من ظاهرة النور إلى الركوع والسجود مروراً بتلك النظرة التأمليّة في أرجاء السماء، وقبل ذلك إمتحان طاق كسرى ونار المجوس... من هذه ا لسلسلة من الخوارق يطلُّ بن الراوي ظاهرة جديدة، خاصّة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنّها أحدى عمليّات التطهير الجسدي، فقد خضع هذا الجسد الطاهر لأكثر من عمليّة قيصرية على نحو إعجازي، والغاية من ذلك الطهارة والنظافة...
لقد وُلِد رسول الله مختونا !
10 : في دلائل البيهقي (... حدَّثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن إبن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال : ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً، قال : فأعجب به جدُّه عبد المطلب، وحضي عنده، وقال : ليكوننّا لأبني هذا شأن، فكان له شأن ) 41.
في السند الحكم بن أبان، ذكره الذهبي في المغني، قال أبن المبارك أرم به 42، وفيه عكرمة وحاله مردّدة، وله رواية مخالفة تماماً !
قال أبن كثير ( وهذا الحديث في صحّته نظر ) 43.
11 : ( روى الحافظ بن عساكر، من حديث سفيان بن محمّد المصيصي، عن هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن بن أنس، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مِن كرامتي على الله أنّي وُلِدتُ مختوناً ولم ير سوأتي احد ) 44.
أورده من طريق ا لحسن بن عرفة عن هشيم به 45، ثمّ أورده من طريق محمّد بن محمّد بن سليمان ـ وهو الباغندي ــ حدّثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمص، حدّثنا موسى بن أبي موسى المقدس، حدّثني خالد بن سلمة، عن نافع، عن إبن عمر قال : وُلِد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسروراً مختوناً ) 46.
يعلّق إبن كثير على ذلك بقوله ( وفي هذا كله نظر ) 47.
عملية الختان هذه أخذت مساراً آخر في إحدى روايات الحافظ بن عساكر، فقد روى أبن عساكر من طريق عبد الرحمن بن عيينة البصري، حدّثنا علي بن محمّد المدائني السلمي، حدّثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زياد، عن أبيه ن عن بكرة ( أن جبريل ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين طهر قلبه ) 48، قال إبن كثير ( وهذا غريب جدّا) ــ 49، وقال الذهبي : قلتُ : هذا منكر ص28.
في قبال هذه الروايات الإعجازية نقرأ الحديث بشكل طبيعي ( وقد روي أنّ جدّه عبد الملطلب ختنه وعمل له دعوة جمع قريشاً عليها ) 50، وفي هذا الصدد يطالعنا الذهبي بالرواية التالية ( وقال الوليد بن مسلم، عن شعيب بن حمزة، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن إبن عباس رضي الله عنهما : أنّ عبد الملطب ختن النبيّ يوم سابعه وصنع له مأدبة وأسماه محمّداً ) 51.
قال الذهبي ( هذا أصحّ ما رواه سعد ) 52.
أعتقد أن ولادة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كانت عاديّة كأي ولادة عرفها بنو البشر، لا معجزات ولا خوارق، ولم يكن محمّد العظيم يحتاج الى كل هذه المعاجز، بل ولا الى معجزة واحدة منها، فان نوره في هديه وفي ذلك كفى.


المصادر
( 1 ) التاريخ 2 / 8 ــ 9.
( 2 ) المتظم لابن الجوزي 20 ص 250 ــ 251.
( 3 ) الطبري 2 / 258.
( 4 ) الطبري 2 / 279 ــ 280.
( 5 ) دلائل النبوّة 1 / 103 ــ 104.
( 6 ) نفس المصدر.
( 7 ) سيرة أبن كثير 1 / 215.
( 8 ) نفس المصدر 1 / 215 ــ 222.
( 9 ) السيرة ا لنبوية للذهبي ص 38.
( 10 ) طبقات إبن سعد 1 / 102.
( 11 ) مغني الذهبي 2 / 509. تهذيب التهذيب 8 / 260 رقم 485.
( 12 ) مغني الذهبي 2 / 535، تهذيب التهذيب 8 / 455 رقم 827.
( 13 ) المصدر 102.
( 14 ) مغني الذهي 2 / 413.
( 15 ) تهذيب التهذيب 6 / 450 رقم 935.
( 16 ) تهذيب التهذيب 12 / 165.
( 17 ) المصدر ص 102.
( 18 ) المصدر ص 101 ــ 102.
( 19 ) المصدر ص 42.
( 20 ) دلائل النبوة للبيهق 1 / 68 ــ 69.
( 21 ) تهذيب التهذيب 10 / 211.
( 22 ) مغني الذهبي 2 / 666 رقم 6315.
( 23 ) تهذيب التهذيب 10 / 151 رقم 288.
( 24 ) علوم الحديث لصبحي صالح ص 108 الهامش.
( 25 ) لسان الميزان 3 / 20 رقم 69.
(26 ) تهذيب التهذيب 2 / 34 رقم 57.
( 27 ) نفس المصدر 9 / 278 ــ 280 رقم 458.
( 28 ) نفس المصدر 10 / 356 رقم 636.
( 29 ) نفس المصدر 12 / 460 رقم 2917.
( 30 ) نفس المصدر 6 / 55 رقم 101.
( 31 ) نفس المصدر 5 / ص 23 رقم 38.
( 31 ) الطبقات 1 / 102.
( 32 ) المصدر 1 / 70.
( 33 ) مغني الذهبي 2 / 765.
( 34 ) تهذيب التهذيب 1 / 51 ــ 52 رقم 88.
( 35 ) سيرة إبن كثير 1 / 207.
( 36 ) تهذيب التهذيب6 / 350 رقم 671.
( 37 ) المصدر 1 / 102.
( 38 ) مغني الذهبي 1 / 189.
( 39 ) نفس المصدر 20 / 438 رقم 4169.
( 40 ) المصدر 1 / 103.
( 41 ) المصدر 1 / ص 93 ــ 94.
( 42 ) المصدر 1 / 183 رقم 1647.
( 43 ) سيرة إبن كثير 1 / 209.
( 44 ) نفس المصدر والصفحة.
( 45 ) نفس المصدر والصفحة.
( 46 ) نفس المصدر والصفحة.
( 47 ) نفس المصدر والصفحة.
( 48 ) سيرة إبن كثير 1 / 210.
( 49 ) نفس المصدر والصفحة.
( 50 ) نفس المصدر والصفحة.
( 51 ) المصدر ص 27.
( 52 ) المصدر والصفحة.

[email protected]