يتعرض الشيخ القرضاوي لهجوم الصحافة الشعبية البريطانية عليه في زيارته الحالية للندن. وتدعو بعض الأصوات إلى الطلب اليه بمغادرة بريطانيا، في حين تقوم الصحافة العربية في لندن بالتبشير بأن الشيخ القرضاوي داعية وسطي ومعتدل، وبأنه بعيد في دعوته عن استعمال العنف في حل المشاكل السياسية في العالم العربي وعلى رأسها المشكلة الفلسطينية، وما يجري في العراق من ارهاب وسفك دماء.

فهل حقاً يعتبر القرضاوي داعية دينياً وسطياً ومعتدلاً، أم أنه كباقي رجال الدين يدعو إلى العنف واستعمال السلاح في حل المشاكل السياسية المعقدة في العالم العربي؟

علينا أن لا ننسى أن القرضاوي هو المرجعية الفقهية العليا لجماعة الاخوان المسلمين المتطرفة والدموية في التاريخ المصري الحديث وفي تاريخ العالم العربي الحديث، وصاحبة "التنظيم السري" الارهابي المشهور الذي تزعمه في الأربعينات عبد الرحمن السندي والذي قتل مجموعة كبيرة من السياسيين والأبرياء المصريين، وأفزع مصر من الصعيد إلى الدلتا، والذي فرّخ معظم الجماعات الإسلامية المسلحة في العالم العربي.

إن مواقف القرضاوي ومقالاته وخطبه وأحاديثه تدلُّ على أنه عكس ما تطلق عليه الصحافة العربية من أنه وسطي. وأنه من كبار رجال الدين الذين يدعمون العنف وسفك الدماء في العالم العربي. وأنه ضد الحداثة، وضد العولمة، وضد العلمانية، وضد تحرير العراق، وضد الحل السلمي السياسي في فلسطين، وأنه من المطالبين بقيام دولة دينية وباعادة الخلافة الإسلامية.. الخ. وأن القرضاوي في تعليقه على مقولة سيد قطب من أن المجتمع الحالي هو مجتمع جاهلي يرمي فئات من المفكرين بالردة، وحكم المرتد هو القتل في الإسلام، ويقول: "إن مجتمعنا القائم في بلاد المسلمين، مجتمع خليط من الإسلام والجاهلية، فيه عناصر إسلامية أصيلة، وعناصر جاهلية دخيلة. فيه أناس مرتدون صراحة من دعاة الشيوعية والعلمانية اللادينية، وهم فئة قليلة من الحكام ورجال الأحزاب العقائدية ونحوهم، فلهم حكم المرتدين". والقرضاوي يدعو من تعلم ودرس في الغرب بأنه من "عبيد الفكر الغربي". وبذا فإن طه حسين وحسين هيكل وتوفيق الحكيم وعلي عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق وغيرهم من الليبراليين هم عبيد الفكر الغربي!

-2-

تتجلّى دعوة القرضاوي الدينية السياسية إلى العنف وممارسة الارهاب الديني تحت عنوان "الجهاد والاستشهاد" من خلال إلباس العمليات الانتحارية التي تقوم بها الجماعات الدينية الأصولية المسلحة الفلسطينية لباساً دينياً محضاً. وكأن الصراع العربي– الاسرائيلي في فلسطين أصبح صراعاً دينياً وليس صراعاً سياسياً. وكأن قضيتنا مع اسرائيل هي الدعوة إلى أن تصبح اسرائيل جزءاً من دولة الخلافة الإسلامية أو دعوتها لنا بأن نصبح جزءاً من الدولة اليهودية الصهيونية. ومن هنا يتم صباغة العمليات الانتحارية بالصبغة الدينية الشرعية وإطلاق لفظ "استشهاد " و "جهاد" عليها في حين أن الجهاد والاستشهاد يتم فقط للدفاع عن الدين وليس عن الأوطان. والدليل أن العرب قبل الإسلام لم يستعملوا هذه الكلمات التي جاءت مع الدعوة إلى الدين الجديد والجهاد والدفاع عنه، واعتبار المدافعين عن الوطن مجاهدين استشهاديين. والدليل الآخر أننا لا نطلق على من يدافعون عن أوطانهم من المسيحيين واليهود والبوذيين والملحدين وغيرهم مجاهدين، ومن يموتوا في سبيل أوطانهم من هؤلاء استشهاديين.

-3-

إذن، فكلمة "جهاد واستشهاد" تعبيران دينيان محضان لهما شروطهما وظروفهما السابقة والتي لم تعد موجودة الآن. فالجهاد في سبيل الله قد انتهى منذ زمن طويل عندما اكتمل الدين وانتشر (اليوم أكملت لكم دينكم). والجهاد الديني والاستشهاد الديني الذي استمر بعد اكتمال الدين ونشره هما حروب سياسية وغزوات اقتصادية محضة، لا علاقة لهما بنشر الدين الذي لا يُنشر بحد السيف (لا إكراه في الدين). والجهاد الديني والاستشهاد الديني لا يكونان إلا في سبيل الله وليس في سبيل الأوطان أو الحرية أو الديمقراطية. فقتلى وضحايا الحرية في المشرق والمغرب لا يعتبروا "مجاهدين" أو "استشهاديين" إلا إذا كانوا مسلمين يدافعون عن الدين. فمسيحو الشرق الذين راحوا ضحايا الحرية والدفاع عن الوطن لا يعتبروا مجاهدين ولا استشهاديين. وكذلك المسيحييون المقاتلون في صفوف الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية والجبهات اليسارية الأخرى في فلسطين. فالجهاد والاستشهاد لا يكونان إلا في سبيل الله فقط؛ أي في سبيل نشر دين الله. (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم) (البقرة 190).

فالمسيحيون المناضلون الذين ضحوا بحياتهم في سبيل تحرير أجزاء من الوطن العربي لا يعتبروا شهداء ولا مجاهدين!

والمسيحيون الذين قضوا في سبيل تحرير بلادهم في فلسطين وليس في سبيل الله لا يعتبروا مجاهدين أو استشهاديين!

إذن، فالجهاد والاستشهاد مقصوران على الحروب الدينية في (سبيل الله) والتي انتهت وانقضت بانتشار الدين هذا الانتشار الواسع، إلا إذا كان نريد الآن أن يتخلّى الغرب عن دينه، ونرفع راية الخلافة الإسلامية فوق البيت البيض، وقصر بكنجهام، والاليزيه، وفي اليابان والصين وغيرها!

-4-

إن المقاومة الدينية المسلحة الفلسطينية، التي ذهب ضحيتها الآلاف من "المجاهدين الشهداء" ولم تؤد إلى نتيجة سياسية ايجابية، بل على العكس من ذلك افقدت الفلسطينيين الدعم الدولي وتعاطف الرأي العام الدولي، وأضرت بالقضية الفلسطينية ضرراً كبيرا، والدليل على ذلك أن الانتفاضة قد انتهت الآن في فلسطين دون نتائج ايجابية لصالح الفلسطينيين، واقتنع الفلسطينيون باللجواء إلى الحل السياسي بعد خسارة كبيرة.

ولكن الشيخ القرضاوي ما زال يعتبر الانتفاضة الفلسطينية حرباً دينية/سياسية وليست سياسية فقط، ويدعو إلى الجهاد والاستشهاد، أي إلى العنف الذي يُنكر في لندن أنه يدعو اليه. وفي هذا يقول القرضاوي كما أورد مجدي عبد الهادي (بي بي سي، 7/7/2004):

"إن الهجمات الانتحارية التي ينفذها الفلسطينيون ضد إسرائيل هي وسيلة مشروعة للدفاع عن النفس من قبل أناس لا يملكون طائرات ولا دبابات. وإن مئات من العلماء المسلمين يتبنون الرأي نفسه".

وقال القرضاوي لبرنامج "نيوزنايت" في بي بي سي، مدافعاً عن الهجمات الانتحارية التي تستهدف مدنيين إسرائيليين:

"أعتبر هذا النوع من العمليات الاستشهادية دليلاً على العدالة الإلهية".

وبرر رأيه ذلك بالقول:

"إن الله تعالى عدل بحكمته المطلقة، حيث منح المستضعفين سلاحاً لا يملكه الأقوياء، وهو قدرتهم على تحويل أجسادهم إلى قنابل كما يفعل الفلسطينيون". وهكذا شرعن القرضاوي العنف شرعنة دينية، ومنح الانتحاريين بطاقة دخول الجنة الموعودة.

-5-

وفي الدعوة غير المباشرة لاستعمال العنف والتحريض عليه يتهم القرضاوي الغرب بأنه هو الذي يمارس العنف، وبأن الرد عليه يجب أن يكون بالعنف ايضاً لكي يبرر العنف الديني القائم الآن! وهو ما لم يقدر على تبريره في الماضي من خلال المجازر التي أقامها خالد بن الوليد في حروب الردة الاقتصادية لاجبار الناس على دفع الزكاة والجزية بالقوة، ووقف عمر بن الخطاب ضدها. ومن خلال المجازر التي أقيمت للشعراء والمعارضين للدعوة الإسلامية. ومن خلال مجازر اليهود التي اقيمت في المدينة المنورة قبل ذلك، نتيجة الخلاف بين اليهود والرسول، ورفض اليهود تمويل وتجهيز حروب الرسول ضد قريش، كما وضّحنا في كتابنا (المال والهلال، 2002).

ومن أجل مواجهة عنف الغرب المتخيل، وتبرير العنف الديني المسلح، يقول القرضاوي بأن الغرب هو الارهابي ولسنا نحن، ونحن نواجه الارهاب بالارهاب. ويقول القرضاوي في هذا الصدد في موقعه على الانترنت تحت عنوان (المسلمون والعنف السياسي، 23/6/2004): "الواقع يقول إن الغربيين هم أكثر الناس عنفاً، وإن المسلمين في العالم كله هم ضحايا هذا العنف، ودماؤهم وحرماتهم مستباحة في كل مكان".

-6-

وفي خطب صلاة الجمعة يختتم القرضاوي دائماً دعاء ختام خطبة الجمعة، بالدعوة إلى محاربة اليهود والنصاري حرباً دينية، وكأن الصراع العربي – الإسرائيلي أصبح صراعاً دينياً بمعنى أننا نحارب اسرائيل لكي تعلن اسلامها أو تحاربنا اسرائيل لنعلن يهوديتنا. وأننا نحارب الغرب لكي يعلن اسلامه ويحاربنا الغرب لكي نعلن مسيحيتنا. ولو أننا انتهينا من اليهود والمسيحيين، فسوف نتجه غداً شرقاً لكي نحارب الصين واليابان وكوريا وغيرها من البوذيين لكي يعلنوا اسلامهم، أو يتغلبوا علينا ويجبروننا على البوذية.

ومن هنا يدعو القرضاوي إلى حرب دينية مع اسرائيل ومع الغرب. وهو يدفع بذلك "صراع الحضارات" إلى الأمام أكثر من صموئيل هنتنجتون والذي هو في حقيقته "صراع جهالات". فهو يدعو إلى قتل اليهود وإزالة دولة اسرائيل المعترف به دولياً وعربياً ومن قبل دولته الأولى مصر ومن قبل دولته الثانية قطر. ويحرض المصلين على الحرب بدعائه على منبر صلاة الجمعة قائلاً:

"اللهم عليك باليهود.

اللهم عليك بحلفائهم من الصليبيين الكائدين الحاقدين.

اللهم خذهم، ومن ناصرهم، ووادهم أخذ عزيز مقتدر.

اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين.

اللهم أزل دولتهم، وأذهب عن أرضك سلطانهم، ولا تدع لهم سبيلا على أحد من عبادك المؤمنين.

اللهم يا منزل الكتاب، ويا مجري السحاب، ويا سريع الحساب، ويا هازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم.

اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم".

-7-

أليس لليهود حق بعد ذلك، في مطالبة السلطات البريطانية بطرد القرضاوي من لندن؟

فلو أن كاهناً مسيحياً أو حاخاماً يهودياً كان يدعو دعاء القرضاوي على العرب في الكنيسة أو في الكنيست، ويطلب من ربه ازالة دولة العرب وسحقهم، وزار عاصمة عربية، فماذا نتوقع من الإعلام والرأي العام العربي أن يقول في زيارته؟

هل كانوا سيرحبون به، وينثروا الورد على رأسه، ويفرشوا له السجاد الأحمر؟

إن هذا الدعاء الذي درج القرضاوي على اختتام كل خطبة جمعة به، دعاء منتقى بعناية شديدة، وله خلفية ايديولوجية واضحة. وهو دعاء لا يأتي من مؤذن في مسجد، أو شيخ متواضع، أو درويش من دراوشة الصوفية، ولكنه يأتي من شيخ يقود الإسلام السياسي الآن في العالم العربي من خلال منابر متعددة. فالقرضاوي الآن هو أهم قيادي وأقوى زعيم ديني سياسي في العالم العربي. ومثل هذا الدعاء محسوب عليه دينياً وسياسياً كمواقف. والقرضاوي الآن لا يستطيع أن يدعو هذا الدعاء بعد خطبة الجمعة في لندن. وهو لم يدع هذا الدعاء في خطبة الجمعة الماضية في مسجد ريجنت بارك في قلب العاصمة البريطانية، خشية من أن يطرد من لندن بعد أن أصبح محاصراً ومراقباً من البوليس البريطاني.

فإلاسلام في القاهرة أو في الدوحة يختلف عن الإسلام في لندن في رأي القرضاوي. ولكل مقام مقال. ولكل مقام دعاؤه!

-8-

إن الذين يبررون للشيخ القرضاوي وسطيته ويسوّقون لها من خلال ادانته لهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ومن خلال الهجمات البربرية التي حدثت في اندونيسيا في جزيرة بالي عام 2002 يتعامون عن حقيقة أن أي انسان كائناً من كان لا يملك إلا أن يندد بهاتين العمليتين البربريتين. وأن تنديد القرضاوي بهما لا يدعو إلى انكار حقيقة مواقفه في استعمال العنف في فلسطين والعراق. والدليل أنه وهو المستشار الأعلامي الديني الأعلى والأب الروحي في "قناة الجزيرة" لم يبد رأياُ مخالفاً لما تقوم به "قناة الجزيرة" من الدعوة إلى العنف مما اضطر بعض المعلقين إلى اطلاق لقب "قناة الملثمين" أو "قناة الأشباح" عليها.

فإذا كانت هذه هي المواقف السياسية الدينية الوسطية حقاً للقرضاوي، فكيف يكون حال المتطرفين الدينيين إذن؟!

(تنشر بالتزامن مع جريدة "السياسة" الكويتية، و "المدى العراقية"، و "الأحداث المغربية")