القسم الرابع

عُرض على الفقيه المرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي الملقب بإمام العصر رئاسة حزب الأمة الإسلامي في مصر، فرفض بعد ان ترك العمل الحزبي في صفوف (الإخوان المسلمين )، وقال : بأن كل الأمة ليس مع هذا الحزب ولا حتى بعض الأمة. ما دام الأمر كذلك فمن الأفضل لي أن أكون لكل الأمة بدلا من أن ألون نفسي بلون حزب سياسي ديني. لأن الحزب يفقدني خصومة وأنا لا أرى سبب لهذا الإختيار لأن مَن يستميل للدين يجب أن يكون للجميع، ولا يجب أن يجند لنفسه خصوما دون سبب من الدين. وعليه فعالم الدين يجب أن لا يكون ملونا بصبغة سياسية حزبية ". (ينظر: المقابلة التي أجراها محمود فوزي مع الشعراوي، من القرية إلى القمة، ط 6، القاهرة، ص 49-50 ). وعندما سُئل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي أستاذ الشريعة الاسلامية في جامعة دمشق، إنكم ترفضون الإنتظام الحزبي. أجاب : " أنا ارفض انتمائي الى جماعة لأن كل المسلمين جماعتي ولأنني فرد من كل جماعة منهم ". (ينظر: الحوار مع الشيخ البوطي، مجلة الأمان، العدد 103 في 6 أيار 1994).
يقول الدكتور عمر فروخ عضو جمعية البحوث الإسلامية في بومباي وعضو المجمع العلمي في العراق وسورية : "يغشى عالمنا الإسلامي اليوم ضعف روحي وضيق في الأفق والأخذ بأشكال العبادات والعادات مع غفلة عن كل ما يستره المستقبل عنا... وأما الأحزاب فكلها خارجة عن الإسلام". (عمر فروخ، تجديد في المسلمين لا في الإسلام، ؤار الكتاب العربي، بيروت، 1986، ص 21 ).
أما عن وجهة نظر علماء الشيعة، فأكتفي هنا بالإشارة الى رأي أحد أبرزهم، وهو الإمام محمد مهدي شمس الدين الزعيم الروحي للشيعة ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان. يقول بصدد دخول الحركات الإسلامية في السياسة ما يلي: إنه " يشدد على عدم جواز دخول الحركات الإسلامية الأصولية في لعبة السياسة والسلطة، وبالتالي عدم لجؤوئها إلى العنف كتعبير عن معارضتها لأي سبب من الأسباب، مشددا على أن إستراتيجية الصهيونية، وأدوات النظام العالمي الجديد هي زرع التفرقة والإقتتال في العالم الإسلامي". ( مجلة الوطن العربي، العدد 1029، 22 نوفمبر 1996، ص 4 ). ويقول أيضا: " لا ينبغي لها (للحركات الإسلامية) أن تجعل الوصول الى السلطة السياسية أو المشاركة بالسلطة السياسية من أهدافها. وأثبتت التجارب في هذه المرحلة صحة رؤيتنا فيما نعتقد، لعل هناك مَن يخالفنا الراي لكنني أستعرض التجربة الجزائرية وآثارها، أستعرش التجربة الأردنية وآثارها، أستعرض تجارب أخرى لم تصل بعد ولكنها تحملت تكاليف كبيرة ". ( الوطن العربي، المصدر نفسه، ص 5 ). ويوضح باختصال هذه الحقيقة قائلا: " العنف ممنوع كوسيلة للتعبير عن المعارضة السياسية. نصحتُ قيادة (حزب الله)، بعدم دخول الإنتخابات. أحذر من إستخدام الحركات الإسلامية بشكل خفي من قبل قوى شريرة. ما يجري في الجزائر لايخدم الإسلام في شئ، بل تحول الى عصبية قاتلة ". (الوطن العربي، المصدر نفسه، ص 5-7 ). وكلنا نرى صحة ماقاله، فما يجري اليوم في العراق بعد سقوط الطاغوت صدام وحزب البعث، من عمليات ارهابية مقيتة باسم الإسلام خراب للإسلام، وتشويه للعقيدة الإسلامية.
نرجع الى فقهاء السنة مرة اخرى، وتحديدا أحد كبار الأئمة الشيخ محمد متولي الشعراوي المتوفي عام 1998، الإمام والشاعر والمفكر المجدد الذي إحتجت عليه اسرائيل، وقالت عنه امريكا "أسكتوا الشعراوي"، عمل مع الإخوان المسلمين، ثم ترك العمل الحزبي بعد أن إطلع على خفايا العمل السياسي المتحزب، فأنكلره وقال : " حين أجد شخصا يقول : أنا عايز أحكم علشان أطبق الإسلام، أقول له أنت كذاب !!! قل أنا أريد أن أُحكَم بالإسلام أصدقك !!! لكن انك تحكم أنتَ بالإسلام، لا، لا تنفعني !!! ولهذا فأنا أقول وأنادي بأنه أريد أن أُحكَم بالإسلام، لماذا ؟ لأن الذي يريد أن يتهافت على حكم دولة، نعرف أنه يريد خيرها لنفسه". ( ينظر: الشيخ الشعراوي من القرية الى القمة، ص 78). وقال أيضا في معرض جوابه على سؤال : هل توافق على عمل علماء الدين بالسياسة الآن ؟ قال: "لا أوافق على هذا الآن. لأن السياسة غير الدين الآن، ولكن عندما يكون الدين هو السياسة وتكون السياسة هي الدين تبقى قضية أخرى". وسُئِل َ هل يمكن أن تقوم أحزاب على أساس ديني ؟ أجاب : " أنا لا أقبل كلمة أحزاب سياسية على أساس ديني. فالسياسة صراع فكري بشري ضد فكر بشري آخر. أما الدين فهو خضوع فكر بشري لفكر سماوي، والفرق بطبيعة الحال كبير ولا يحتاج الى شرح أو ايضاح ". ( المصدر نفسه، ص 44 ).

الأحزاب الإسلاموية تفرق الجماعة الإسلامية الى فرق متناحرة
لاشك أن الاحزاب السياسية الاسلامية والاسلاموية تعمل طبقا للمناهج التي يضعها الاعضاء، ولاسيما القيادة العليا لكل حزب، ويكون للمرشد العام الدور الريادي في التوجية الى درجة أنه يستطيع ان يكفر المسلمين الآخرين لأتفه الأسباب احيانا. ومن المعلوم أن هذه المناهج تختلف بعضها عن البعض الآخر في الأهداف وأساليب العمل. فهناك أحزاب اسلامية تنبذ العنف السياسي، وهناك أحزاب اسلاموية تنشد العنف السياسي وتمارس الإرهاب، والفرق بين هذه وتلك كبير. ففي الدول الأوربية، على سبيل المثال السويد، يستطيع المواطن، أيا كان أن يعبر عن آرائه بحرية في الدين والفكر والسياسة والإجتماع ووو على أن لا يعتدي على الآخرين فيسيولوجيا وسيكولوجيا. ولكن إذا تجاوز الفكر والقول الى ممارسة العنف فإن القانون يتدخل مباشرة، ويصبح المواطن مسؤولا عن تصرفاته فيما إذا إعتدى على الآخرين أو لا. وكل عمل ينشد العنف بأي شكل من الأشكال يحاسب عليه القانون، ذلك أن الحرية كما يُعَرفها بعض السويديين هي أن تقول أو لاتقول، وأن تعمل أو لاتعمل ماتريد على أن لا تعتدي على الآخرين. فالحرية هي إذن ممارسة ديمقراطية في غياب العنف. وإذا ما قارنا هذا التفسير العقلاني المدني مع الإسلام الحنيف نجد بأن الإسلام هو الآخر يدعو إلى السلام والمحبة والعدالة والمساواة. وأن قتل المسلم للمسلم من الكبائر، وأن مَن قتل نفسا بغير نفس كأنما قتل الناس جميعا. قال الله تبارك وتعالى : ((مَن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا)). (سورة المائدة/32 ).
ولكن ما نجده في ممارسات الأحزاب الاسلاموية من قتل وارهاب عمل منافي للوحدة الاسلامية وللعقيدة الاسلامية. (( ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )). (سورة آل عمران/104). فالإسلام دين وسطي يرفض التطرف والغلو. كقولـه تعالى ((وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا )). (سورة البقرة/143). وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام " لاتقاطعوا، ولا تدابروا، ولاتباغضوا، ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله اخوانا، كما أمركم الله ". (حديث صحيح، انظر شيخ الإسلام ابن تيمية، اقضاء الصراط المستقيم مخالفة اصحاب الجحيم، دار الكتب العلمية، 1987، ص 150 ). فالأحزاب الاسلاموية تُشرذم الاسلام الى فئات متناحرة فيما بينها، وتحول المجتمع الى مجتمع العسكرة والارهاب. لذلك وجد بعض الفقهاء أهمية الوحدة الاسلامية، ورفضوا الأحزاب الاسلاموية، بل رفضوا بعض الاحزاب الاسلامية لأن مخاطرها وسلبياتها على الاسلام أكثر من ايجابياتها.
جاء في الحديث النبوي الشريف : " وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا : مَن هي يا رسول الله ؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي ". (رواه ابو عيسى الترمزي، ينظر ابن تيمية، المصدر السابق، ص 31 ). فما هي هذه الجماعة. أي حزب من هذه الأحزاب العديدة والمتناحرة فيما بينها يمكن أن يكون ذلك الذي كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه ؟ ما أكثر الأحزاب الإسلاموية في الشرق الأوسط وحدها ؟ توجد في العراق ودول الجوار وحدها اليوم ما يقارب مائة حزب بأسم الإسلام، وأغلبها تمارس العنف السياسي، وكثير منها تمارس الإرهاب وتقتل من المسلمين بحجة تعاونهم مع الأجنبي. وعليه يجب أن نقول الحقيقة ولا نخش في الله لومة لائم، لأن أفضل جهاد في سبيل الله هو كلمة حق عند سلطان جائر، كما قال الحديث النبوي الشريف. فما أكثر جورا أن يقطع الإنسان رأس مسلم جاء الى العراق، وهو يعمل بعيدا عن السياسة وربما كرها لقوات الإحتلال أيضا، جاء لكي يعيل أطفاله، فيقطع رأسه، لأنه يبحث عن رزقه. فاسمعوا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كما قال : " بأن مَن كان في طريقه الى العمل فهو في جهاد في سبيل الله الى أن يرجع. إذن كيف يمكن قطع الرقاب بأسم الإسلام، والإسلام برئ من ذلك؟ كيف يجيز البعض لنفسه، باسم الإسلام أن يقطع رقاب مسلم، وربما مؤمن برئ بأسم الله والإسلام ؟ وقد قال الحق تبارك وتعالى ((ومَن يقتل مؤمنا مُتَعمِدا فجزاؤه جَهَنّمَ خالدا فيها وغَضِبَ الله عليه ولعَنَه وأعَدَّ له عذابا عظيما)). (سورة النساء /93 ). وطبيعي قتل النفس البرئ يشمل الإنتحار أيضا في قتل الأبرياء، لأن الإنتحار هو قتل نفس برئ للأنسان بدون وجه حق. ولنقرأ مقولة شيخ الإسلام ابن تيمية : كافر عادل خير من مسلم جائر. ثم كما قال الحديث النبوي: الكفر يدوم ولكن الظلم لا يدوم.
في الحقيقة والواقع أن الأحزاب الاسلاموية تفرق الجماعة، واعني هنا الجماعة الإسلامية ككل، او الوحدة الاسلامية، او الدين الإسلامي. هذه الأحزاب الاسلاموية فرقت الإسلام الى شيع وتحزب في تصارع وتناقض وصراع. لقد صدق رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام في ضرورة الإلتزام بالجماعة وعدم شرذمتها. قال : " إن الله أمر يحيى ابن زكريا بخمس أن يعمل بهن، ويأمر بني اسرائيل أن يعملوا بهن فذكرها... ثم قال : وأنا آمركم بخمس أمرني بهن : السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة. فإن مَن فارق الجماعة – جماعة المسلمين – قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلاّ أن يراجع. ومَن دعا بدعوى الجاهلية – العصبية – فهو مَن جثا جهنم. قيل يارسول الله وإن صلى وصام ؟ قال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم... فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله ". (نقلا عن، محمد مصطفى رمضان، الشعوبية الجديدة، ص 79).


القسم الخامس والأخير: اشكالية مفاهيم تسييس الإسلام وحزب الله وفصل الدين عن السياسة

[email protected]