1-القتلة

منذ تحرير العراق من نظام صدام حسين الدكتاتوري ولحد اليوم أصبح من المألوف بالنسبة للمواطنين العرب مشاهدة ملثمين على شاشات التلفزيون يهددون بتدمير البشرية وقلب الأوضاع في المنطقة وغيرها بإسم الإسلام أو العروبة، كما لو كان هؤلاء الجلاوزة يمتلكون وكالة دينية ودنيوية تسمح لهم بهدر دماء البشر وقطع رؤوسهم والتمثيل بهم بأقصى درجات الوحشية وبإستمتاع سادي بمنظرالدم. ويتحدث هؤلاء كما لو كانوا يتحدثون بإسمك وبإسمي وبإسم الملايين من العرب والمسلمين الذين أصبح قدرهم الإنتماء لهذه الجنسية الإسلامية المنتشرة في مختلف أنحاءالعالم. إنهم يتحدثون بنفس اللغة التي نتحدث بها وينسبون أنفسهم الى ذات التاريخ الذي ننتسب اليه. ونتيجة للأوضاع الإستثنائية المهيمنة على المنطقة العربية والمتمثلة بإنعدام الديمقراطية وحرية الفكر يتم تسليط الأضواء على القتلة وقطاع الطرق كما لو كانوا أبطالا يناضلون من أجل أفكار سامية.
ويمنح هؤلاء المجرمون لأنفسهم القابا ورتبا لا تختلف كثيرا عن الألقاب التي يمنحها لأنفسهم قادة بعض الدول العربية بلا حق وبلا تأهيل. فهذا يمنح نفسه لقب الأمير، وذاك يمنح نفسه لقب القائد إضافة إلى ألقاب أخرى تبدو مضحكة في عصرنا الراهن الذي أصبح قائما على العلم والمعرفة الحقة. ويتجلى إحتقار هؤلاء القتلة للبشر في إحتقارهم حتى لأتباعهم ، حيث يعاملونهم كما لو كانوا أدواة لاحياة فيها : "فلئن فلت ياعدو الله هذه المرة من سهمنا ففي الجعبة سهام لن تفلت منها.." . و من هنا فأن ربط بعض "قنابلهم البشرية" في السيارات بمقود السيارة المفخخة ليس بالأمر المستغرب في ممارساتهم، وأنما تعبر كذلك عن خوفهم من أن تمس المشاعر البشرية هذه "القنابل" لتتخلى في اللحظة الأخيرة عن أفكارها الإنتحارية.
ما يجري اليوم في العراق وفي المملكة العربية السعودية وفي بعض الدول العربية من أعمال إرهابية وممارسات دموية تجاه المسلمين وغيرهم إنما هو نتيجة لمنطق مازال سائدا في بعض البلدان العربية بحجب شرعية الأديان السماوية الأخرى ووضع القيود على من يمارسها من المسيحيين واليهود والصابئة والأزيدية بما يتناقض مع ما ورد في القرآن الكريم حول "أهل الكتاب".
بنية المنطق "الأصولي" قائمة على رفض الآخر ونفيه. ويكمن مصدرها في وجهة نظري في اللحظة التي يمنع فيهاالآخر من حرية ممارسة طقوسه الدينية بما فيها تلك التي تتعلق بأعياد الميلاد ورأس السنة وغيرها. ويمكن في هذا الصدد الرجوع الى عدد لا بأس به من الفتاوي الصادرة من قبل رجال دين مسلمين تمنع بيع رموز لها علاقة بعيد الميلاد للمسيحيين والأجانب معتبرة ذلك إنتهاكا شرعيا يعاقب عليه. لا شك بأن هذه الآراء هي الحلقة الأولى في السلسلة التي تنتهي بممارسة العنف وتدمير كل ما لا يتناسب مع العقليات المتخلفة لممارسي الإرهاب. فكل من ينشأ في ظل ظروف كهذه ويتماثل معها مرشح بهذه الدرجة أو تلك لإشهار سيف الإرهاب تجاه من يخالفه. هذه هي البنية الفكرية التي تقف وراء الإرهاب الديني الذي أزداد بروزا ووضوحا في السنوات الأخيرة وبشكل خاص فيما يتعلق بتحديد اعدائه وأغلبهم من المدنيين والحاق أقصى درجات الضرر فيهم. وقد توسعت دائرة هؤلاء "الأعداء" خلال السنوات الثلاث الأخيرة حتى أصبحت تشمل الأطفال والشيوخ وكل ما يدب على الأرض.

2- فرسان الإيديولوجيات الساقطة

في حياة الكثير من المواطنين العرب نالت الإيديولوجيات السياسية والدينية والقومية العرقية موقعا مميزاً ، بل مركزيا، إذ أصبحت هذه الإيديولوجيات هي المسير الحقيقي لحياتهم وذلك على أعقاب الإنقلابات العسكرية الفاشلة منها والناجحة وإرتباطا بالتوجهات اليسارية واليمينية والفاشية التي هيمنت خلال القرن الماضي على عقول وقلوب عدد كبير من المثقفين في المنطقة العربية. وجاء كل هذا في إطار ما كان يسمى بـ "حركة التحرر الوطني" المدعومة بالدرجة الأولى من قبل بلدان "المنظومة الإشتراكية" التي كانت مبنية على أسس توتاليتارية وأصبحت هي الشغل الشاغل للساحة بعد سقوط الأنظمة التوليتارية الفاشية في المانيا وإيطاليا واليابان. لا أريد أن أقول بأن حركة التحرر الوطني لم تأت كنتيجة موضوعية للسياسة الإستعمارية الغربية تجاه شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بل أود أن الفت النظر الى مجموعة لا يستهان بها من المظاهر السلبية لهذه الحركة التي تميزت في معظمها بهيمنة العسكرتارية وجاءت بأنظمة فاسدة لا تقل فسادا عما سبقها. وقد كشف لنا التاريخ أن أغلب قادة "حركة التحرر الوطني" لم يجلبوا لشعوبهم سوى الكوارث بعد أن قاموا بتكوين أجهزة قائمة على الرشوة والمحسوبية لحماية مصالحهم الخاصة التي توجها بعضهم بتوريث الحكم الى إبنائه واقربائه أو بالإستيلاء بشكل كامل على كافة موارد الدولة والتصرف بها كما لوكانت ملكا خاصا له. في هذا الإطار تكونت وبشكل خاص في البلدان العربية نزعات فكرية مثيرة للغرابة تختلط فيها الأفكار الإشتراكية التوتاليتارية مع الأفكار النازية العرقية وذلك تحت غطاء "الفكر القومي العربي" الذي تجلى بأكثر أشكاله العدوانية في أيديولوجية حزب البعث لصاحبها ميشيل عفلق، وهي قائمة في أساسها على أفكار ساطع الحصري الذي وضع الأسس الفكرية للإنقلاب الفاشي في العراق بقيادة رشيد عالي الكيلاني. مقابل هذا الهجين الإيديولوجي وفي فترات متقاربة برزت حركات ذات طابع بوريتاني قائم على الدين او على الإيديولوجية الشيوعية، وقد حصلت الأولى على دعم السلفيين في الجزيرة العربية وفي عدد من البلدان الإسلامية، بينما دعمت الثانية من قبل الإتحاد السوفيتي وفيما بعد من قبل بلدان ما يسمى بـ "المنظومة الإشتراكية".
ما زالت هذه الأفكار تشكل في مجموعها خلفية مهمة لما يجري في الساحة السياسية العربية والإسلامية. وقد أدى ذلك الى بروز تحالفات فكرية تبدو للوهلة الأولى متناقضة فيما بينها، غير أنها تلتقي جميعا في الشعارات المتشابهة في غوغائيتها وفراغها، وهي في أغلبها شعارات قائمة على أساس إستغباء الشعوب وإعتبارها قطيعا يمكن أن يسيره من يشاء عن طريق الترغيب والتهديد وإن لم يكن هذا كافيا فبقطع الرؤوس ومصادر الرزق. ويجد المتابع لوسائل الإعلام العربية نماذج كثيرة لهذه التحالفات التي تجلت في أوضح أشكالها تجاه أحداث العراق، حيث ما زال العديد من المثقفين العرب بما فيهم بعض المثقفين العراقيين يطلقون على حملات الإرهاب الجارية هناك جزافا تسمية"المقاومة" وذلك في الوقت الذي أصبح فيه من الواضح للجميع أن هذه "المقاومة" لا تستهدف فقط جنود التحالف بل كذلك المدنيين من الأجانب والعراقيين والبنى التحتية للإقتصاد العراقي لإلحاق اكبرالأضرار بهذا البلد لكي لا يصبح نموذجاً للديمقراطية والتعددية في المنطقة العربية. في هذا "المستنقع" تلتقي القوى الظلامية مع بعض قوى اليسار والإسلاميين المتطرفين – بما فيهم أولئك الذين يعتبرون العمليات الإنتحارية التي تؤدي الى موت الأطفال والنساء والأبرياء جهادا- لتصل الى أعلى درجات الإنسجام في عقليتها التآمرية متهمة كل من لا يسير في طريقها أما "لبراليا جديدا" أو "علمانيا" يستحق الأدانة أو "عميلا" للعدو، وذلك في الوقت الذي يشحذ فيه القتلة سكاكينهم للإجهاز على ضحايا جدد. ومن الملاحظ أن التوجهات الدينية المتعصبة بدأت منذ الثورة الإيرانية وهيمنة حكم الطالبان في أفغانستان تحتل وبشكل متزايد مواقع الأحزاب والقوى القومية واليسارية في تعبئة الشارع العربي والإسلامي. وهذا هو ما يجري اليوم في العراق، حيث أستطاع مقتدى الصدر الذي لا يمتلك أي درجة من التأهيل العلمي أو الديني أن يعبأ قطاعا جماهيريا لا يستهان به لمواجهة عملية التحول في العراق والسعي لتسييرها بإتجاه التطرف الديني العصبوي لإقامة نظام طالبان جديد هذه المرة تحت غطاء شيعي. من جهة أخرى تقوم "هيئة علماء الإسلام" السنية التي أسست في الفلوجة حكم طالباني مستقل عن العراق يخضع لما يسمى بـ "الشريعة" بالتدخل المباشر في الشؤون السياسية مروجة للأفكار الوهابية الغريبة عن المجتع العراقي وذلك عن طريق التشجيع على الأعمال الإرهابية وتقديم الدعم المباشر وغير المباشر للإرهابيين العرب في العراق كما لو كانت تشكل ذراعهم السياسي إضافة لنشرها للطائفية والتعصب والتحريض على أتباع الديانات الأخرى كما حصل في بيانها الأخير حول "الإعتداء الجنسي على صدام حسين"، حيث جرى الحديث عن "النصارى أ وغيرهم من الكفار". وليس من المستغرب أن يقوم الإرهابيون بعد ساعات على صدور هذا البيان المشؤوم بالهجوم في بغداد والموصل على المسيحيين وكنائسهم التي تشكل جزءا مهما من تاريخ العراق وتراثه الغني. والى جانب هؤلاء يقف أيتام النظام البائد الذي هيمن على حياة العراقيين حتى لم يعودوا قادرين أن يبصروا ما يحيط بهم وأصبحوا لأكثر من 25 سنة يعيشون في جزيرة مغلقة ومنفصلة تماما عن العالم الخارجي، وعلى شاشات التلفزيون كانوا لا يشاهدون سوى وجه "القائد الضرورة" ووجوه عائلته "الضرورة" و لا يسمعون سوى أغاني التبجيل بهم وبإنتصاراتهم المزيفة.

3- المتفرجون

في ظل هذه الظروف القاسية توجد هناك تحديات حقيقية فيما يتعلق ببناء المجتمع المدني الديمقراطي في العراق. مع هذا أشعر أحيانا بأن العديد من قوى المجتمع المدني والقوى العلمانية والدينية المتنورة فوتت وما زالت تفوت على نفسها الفرصة بعد الأخرى في التوجه بشكل جدي للشارع العراقي وعدم تركه ضحية للعمى الأيديولوجي السياسي والديني المتطرف وللخوف الذي ينشره الإرهابيون على طول العراق وعرضه. فالمجتمع المدني لا يقوم على أساس النيات فحسب، بل يتطلب جهودا عملية متواصلة من أجل التغيير وبناء المجتمع الجديد القائم على المساهمة الواعية والفعالة للمواطنين في مجمل هذه العملية. لقد قامت الحكومة الإنتقالية العراقية بجملة من الإجراءات التي تستهدف إعادة الأمن والإستقرار الى العراق، إلا أن الأحزاب الممثلة في هذه الحكومة لم تقم لحد الآن بأي دور تعبوي ملحوظ على مستوى الشارع العراقي، وهي في ذلك لا تختلف عن مجلس الحكم السابق الذي لم يتمكن من تأكيد وجوده في الساحة العراقية وتركها لرواد التطرف الديني الإسلامي الشيعي والسني في الوقت الذي أنصرف فيه لتوزيع المناصب ومراكز القوة على أتباعه. في الوقت ذاته لم تقم هذه القوى والأحزاب بمراجعة واضحة وصريحة لماضيها السياسي ومسؤوليتها التاريخية كأفراد وكحركات سياسية تجاه أحداث العراق السابقة وأنتقال السلطة الى نظام البعث الدموي، بل عالجت هذا النظام كما لو كان جاء الى السلطة على غفلة منها ومن الشعب العراقي علما بأن بعض هذه القوى لعب دورا مهما في ترسيخ سلطة البعث سواء بعد أنقلابه الدموي في سنة 1963 أو بعد إنقلابه الثاني في سنة 1968. و لا أريد هنا أن أدخل في تفاصيل وإستطرادت حول ما حصل في العراق خلال السنوات الثلاثين الأخيرة والخلفيات التاريخية لما يجري في العراق حاليا، حيث إن هذا سيكون بتحصيل حاصل من مهمات القوى السياسية العراقية والباحثين في التاريخ، بل أن ما يشغلني هو تفرد المتطرفين الدينيين والإرهابيين بالساحة العراقية بكل ما يرتبط بذلك من معالم الخوف والتخلف والإعتداء على الغير إبتدءا بفرض الحجاب على النساء وإنتهاءا بتفجير الكنائس وملاحقة الأقليات الدينية التي قدمت للعراق خدمات كبيرة في مختلف مراحله.
الآن وبعد مرور أكثر من سنة على تحرير العراق من نظام البعث الفاشستي وفي إطار التحضير لأول إنتخابات ديمقراطية في تاريخ العراق الحديث أصبح من الضروري أن يقف الجميع أمام مسؤولياتهم التاريخية والشخصية بمعالجة بعيدة عن التبرير لما حصل في الماضي لكي نتمكن من بناء مستقبل أفضل و لا نستحيل الى متفرجين في العملية التاريخية الجارية حاليا في العراق. فلم يعد من المشروع بعد ما رأيناه من المقابر الجماعية أن نحاول إخفاء جثثنا في السراديب.