(1)– الوحدة العربية ومآلاتها

شهد العالم العربي خلال القرن العشرين عدة أزمات تاريخية عميقة، دفعته إلى التحلل، وفي الوقت نفسه دفعت العناصر المكونة له إلى البحث عن أطر جديدة تلتئم من جديد عبرها، وتعيد تركيب نفسها وتوحيدها من خلالها، مما وفر لها إمكانية الاستمرار في البقاء.
وفي الحقيقة إننا أمام صعوبة كبيرة في اكتشاف قواعد اللعبة المعقدة، التي حكمت التأثير المتبادل بين العوامل الداخلية والخارجية، لما آلت إليه الحالة العربية. خاصة وأنّ الفكر السياسي العربي اعتاد على تحميل الاستعمار كل بلايا التأخر العربي، وأطلق العنان لديماغوجية رنانة تجعل من العداء للإمبريالية والصهيونية (وهو عداء مبرر تاريخيا وواقعيا) وسيلة للتنفيس عن الغضب، وصبه على العامل الخارجي الذي أصبح " شيطان العرب "، ليعفي العامل الداخلي من النقد.
لقد أدى الاحتكاك بالغرب إلى بلورة المفاهيم الحديثة عند العرب، إذ حملت الحضارة الغربية إلى الواقع العربي معانٍ جديدة شبيهة، إلى حد ما، بمعانيها في الغرب، ومختلفة عن معانيها العربية التقليدية في الجاهلية والإسلام والقرون الوسطى. فلا شك أنّ الاتصال بالغرب قد أتاح للعرب التعرف على وسائل الحياة النيابية (الدساتير والبرلمانات)، كما أنهم نقلوا الفكرة الحزبية إلى واقعهم السياسي والاجتماعي، فقامت الأحزاب القومية والماركسية والإسلامية والليبرالية، مما فتح المجال أمام إمكانية تحديث المجتمع العربي.
إنّ قراءة وثائق المؤتمر العربي الأول في العام 1913 تعطينا فكرة واضحة عن فهم القوميين العرب، في أوائل القرن العشرين، لمسألة الديمقراطية والحريات السياسية والمدنية، مما يجعلنا نستنتج أنّ وعي هذه المسألة كان يحكم الموقف السياسي والاجتماعي لكثير من المهتمين والمشاركين في الحياة السياسية العامة آنذاك، باعتبار أنّ ذلك أحد مكوّنات النهضة العربية الحديثة. وطوال التاريخ المعاصر للحركة العربية كان ثمة تلازم بين قضايا رئيسية ثلاث هي : استكمال الاستقلال الوطني، والخروج من التأخر، والوحدة العربية.
ولكنّ التجربة الواقعية للمشروع العربي قد أثبتت، خاصة بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، أنّ هناك أزمة فعلية في بنية هذا المشروع. فما هي أهم تجليات هذه الأزمة ؟ وما هي آفاق المشروع العربي المعاصر ؟


(1)– الوحدة العربية ومآلاتها
إنّ مشروع الوحدة العربية هو جوهر الحركة العربية الحديثة، بمثل ما هو هدفها في الوقت نفسه. ولذا فقد لازم الهدف الحركة منذ نشوئها، وتطور معها نموا وضمورا، وصعودا وهبوطا. ولم تكن الوحدة مجرد توحيد سياسي فوقي لكيانات منفصلة في حدود سياسية، بل هي ـ أساسا ـ عملية توحيد مجتمعي داخلي، ومعركة شاملة للتحديث في الفكر والثقافة والسياسة وأنماط الحياة، في البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المختلفة. ذلك أنه لا يمكن تجزئة المشروع النهضوي العربي، فهو مشروع متكامل تتداخل فيه مهمات التحديث الفكري والسياسي والثقافي مع مهمات النهوض الاقتصادي والاجتماعي، مع مهمات التحرر القومي.
ويمكن النظر إلى العمل العربي المعاصر من أجل الوحدة العربية، كحركة تغيير سياسي ـ اجتماعي ـ حضاري شامل، بما يعنيه ذلك من أنّ مفهوم العمل القومي مفهوم ديمقراطي لا يقوم على أسس عرقية، وهو تقدمي في مواجهة التأخر والاستعمار، هدفه تصفية عوامل التجزئة وإنشاء الدولة العربية الواحدة. مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف في مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي بين أقطار العالم العربي، وما يقتضيه ذلك من التنوع والاختلاف بين كل قطر من هذه الأقطار، وفي هذا السياق يمكن تصور وجود الوحدة مع التنوع.
ويبدو أنّ الثغرة الرئيسية في المشروع الوحدوي العربي خلال التاريخ العربي المعاصر، تكمن في إهمال الخصوصيات القطرية والمشاكل المحلية الواقعية. فلقد جرى رسم صورة وردية للواقع العربي، أوحت بأنّ الوحدة قائمة فعلا في الجوهر، وأنّ تحولها واقعا ملموسا أمر تمنعه الأسباب الخارجية. وبالرغم من أنّ الاستعمار قد انحسر تباعا، على الأقل في شكله التقليدي، وترك كيانات عربية مستقلة، فإنّ الوحدة لم تتحقق، وعندما تحققت فإنها لم تتواصل، بل أنّ ما تلا الاستقلال الوطني هو واقع الكيانات لا واقع الوحدة.
ومع أنّ وقائع هذه الإقليمية والكيانية تعود الى الثلاثينات والأربعينات، أي إلى ما قبل مرحلة الدولة المستقلة، فإنّ الحركة العربية المعاصرة لم تبذل جهدا يذكر في تحليل هذه الظاهرة، مما يشير إلى قصور معرفي وسياسي في آن واحد، عبر عن نفسه بغياب مقاربة واقعية لمسألة الوحدة ومشاريعها.
وفي كل الأحوال فإنّ التناقض الرئيسي في الواقع العربي هو التناقض القائم بين قوى التجزئة السياسية وقوى التوحيد السياسي، وحل هذا التناقض لن ينتج عن حتمية مسبقة، بل يحتاج إلى رؤية حقيقية للخصائص القطرية، بجميع جوانبها الإيجابية والسلبية. مما يؤكد أن سيرورة الاتحاد العربي هي ذاتها سيرورة التقدم العربي، سيرورة عقلنة وعلمنة ودمقرطة وتحديث المجتمع العربي.
وفي الواقع، بعد انهيار الجمهورية العربية المتحدة في العام 1961 بدأت سيرورة تاريخية ذات سمات نوعية خاصة، أبرزها قاطبة : ترسخ سلطة الدولة القطرية التي أقامت في داخلها بنى تحول بذاتها دون توجهها نحو الوحدة. وبهذه البنية النوعية الخاصة، قامت سلطة الدولة القطرية بمهمتين تتعارضان تعارضا جذريا مع مهام تجسيد الأمة لدولتها القوميـة : أولهما، فقد فتتت مجتمعاتها بدل أن تدمجها، وأحيت القوى والمصالح ما قبل الوطنية والقومية ( العشائرية، والطائفية، والجهوية )، بدل أن تميتها. وثانيتهما، وضعت حدودا صارمة حيال الأقطار العربية الأخرى، بدل أن تفتح حدودها الخاصة تجاه أمتها، بينما فتحت الحدود مع الخارج غير العربي، سواء عبر التجارة، أو التبادل الثقافي، أو العلاقات السياسيـة.
وباختصار، فقد برز وضع جديد، الغرض منه تلبية جملة حاجات، تستجيب لمهام الحفاظ على وضع التجزئة، ولوظائف إعادة إنتاج التبعية، وذلك من خلال إقامة بنى داخل كل قطر تحول دون سير العالم العربي نحو التقدم على طريق وحدته.
إنّ شعار الوحدة العربية، رغم أهميته بالنسبة لقضايا العمل العربي في التاريخ المعاصر، أصبح أكثر صعوبة وتعقيدا. لأنه من جهة أولى، لم يدخل في إطار العمل والإنجاز المتواصل. ولأنه من جهة ثانية، لم ينمُ بشكل واضح ومتدرج. ولأنه من جهة ثالثة، اصطدم بتجارب فاشلة وبتراجعات متوالية. وفي ضوء هذا الواقع ، لم يعد يجدي طرح شعار الوحدة بصيغته العامة، إلا بمقدار ما تكون الصيغ عملية وواقعية، يمكن من خلالها تجسيد الهدف.
لقد دلت التجارب الوحدوية العربية المعاصرة أنّ مطلب الديمقراطية لا يقل أهمية عن الوحدة ذاتها، إذ إضافة إلى كونه مطلبا حيويا للجماهير، فإنه المحتوى الحقيقي الفعلي للوحدة، وهو أيضا المناخ الذي يساعد على قيامها، ثم على استمرارها وحمايتها بعد أن تقوم. كما دلت على أنّ الوحدة لا تعني الدولة المركزية أو الاندماج الكامل والفوري لأجزاء الأمة العربية. وهكذا فقد تبلورت نظرية التدرج في تشييد الوحدة العربية المستندة على البعدين الاقتصادي والاجتماعي، حيث تستند هذه النظرية إلى أنّ الوحدة، بمنطق التاريخ المعاصر، تقوم على وحدات اقتصادية تمهد لها وتقود إليها، وهذه الوحدات الاقتصادية تتم بداية داخل كل قطر عربي، ومن ثم داخل كل مجموعة إقليمية عربية.
وفي الواقع تفرز المنطقة العربية أربعة تجمعات إقليمية رئيسية، تنبثق من اعتبارات متنوعة تعكس اهتمام أطرافها بمحيطهم الجغرافي المباشر، يقع اثنان منها في الجناح الأفريقي من العالم العربي هما : تجمع وادي النيل، والمغرب العربي الكبير. ويقع الآخران في الجناح المشرقي من العالم العربي هما : التجمع الخليجي، والهلال الخصيب. فبعد كل الأفكار والتجارب الوحدوية، التي عرفتها الأمة العربية في تاريخها المعاصر، تبلورت كتابات وحدوية جديدة، خاصة منذ سبعينات القرن العشرين ، تتميز بـ " عقلنة الخطاب الوحدوي ". وهي تنطلق من أنّ الكتابات الرومانسية عن الوحدة العربية تساهم في إغناء الوجدان العربي، وتوسع دائرة الحلم العربي، لكنها لا تقيم الوحدة. إذ أنّ التأثير الحقيقي لا يتم إلا بعد فهم معطيات المحيط العربي، بكل متغيراته وثوابته. وهو ما يعني محاولة إنجاز الحسابات السياسية التاريخية والعقلانية، ومحاولة تعميق الوعي بالمصالح والمنافع والخيرات المشتـركة.
ويحتل مفهوم الدولة القطرية مكانة هامة في الكتابات الوحدوية الجديدة، باعتبار أنّ تراكم خبرات بناء الدولة الوطنية الحديثة يساعد على إمكانية بلورة رؤية واقعية لكيفيات بناء الدولة القومية الواحدة. وعلى هذا الأساس، فإنّ البناء الوحدوي العربي، المستفيد من التجارب الوحدوية السابقة بما فيها بناء الدول الوطنية الحديثة، يعتبر بمثابة تعاقد قومي جديد، أساسه الخيار الديمقراطي الحر.
إنّ الوحدة العربية ليست عملية قيصرية إكراهية ضد كل الوقائع القائمة في العالم العربي، وإن كانت في جوهرها ثورة على جوانب كثيرة من تلك الوقائع، بل هي خيار طوعي حر وواعٍ يسلكه الأفراد والجماعات بفرادة مدركة لمصلحتها. كما أنّ علاقة الوحدة العربية بالتقدم هي علاقة السبب بالنتيجة، إذ أنّ كلا منهما سبب للآخر ونتيجة له في آن واحـد. فإذا كانت التجزئة محصلة التأخر التاريخي للأمة العربية والأوضاع الإمبريالية التي نشأت عنه، وعامل تكريسه وتعميقه، فإنّ الوحدة هي محصلة التقدم العربي والتحرر من السيطرة الإمبريالية ورافعتهما في آن واحد.
إنّ الروابط المعنوية التي تربط الشعوب العربية، على أهميتها بالنسبة للوحدة القومية، لا تكفي لإقامة البنيان السياسي المؤسساتي للدولة الواحدة. إذ أنّ هذا البنيان يحتاج، بالإضافة إلى العوامل المعنوية، إلى قاعدة مجتمعية مدنية، قائمة على وحدة التفاعل الحياتي والمعيشي، وعلى بنى سياسية ومؤسساتية داخل مجتمعاتها الوطنية، قبل أن تنتقل إلى الكيان القومي الواحد.
كما أنّ التجربة أثبتت أنّ الوحدة العربية ليست عقيدة أو أيديولوجية مغلقة على ذاتها بل هي مفهوم وهدف استراتيجي، يمكن أن تتلاقى على تحقيقه تيارات فكرية وسياسية متعـددة. فوحدوية أي برنامج أو ممارسة، لم تعد تقاس بالشعار المرفوع، بل تقاس – أساسا - بمقدار نجاح هذا البرنامج أو الممارسة في إيجاد وقائع وحدوية فعلية على الأرض، تستقطب الجماهير إلى العمل الوحدوي.

يتبع


كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
[email protected]