للفقر شأنه شأن اي مفهوم آخر، أنواعا من التعريفات، غير ان أكثرهم قرباً للمفهوم البيئي، يمكن إيجازه ((بظروف محدودة من الحياة، محاطة بسوء التغذية والمرض ومعدلات مرتفعة من وفيات الأطفال الرضع، ومتوسط عمر منخفض للإنسان، في ظل ظروف من الفقر وبيئة بشرية لا تتناسب وكرامة البشر)).
ظاهرة الفقرظاهرة قديمة في العراق، غير انها تعمقت في العقد الاخير من القرن العشرين، واصبح شبح الفقريطبع بصماته بقوة على الريف والمدينة معاً وبات يؤثر على جميع مفاصل الحياة الاجتماعية والبيئة الطبيعية. ووفق لتقديرات منظمة الغذاء والزراعة الدولية )عام 1995 ) اتسعت ظاهرة الفقراء والمهمشين لتظم حوالي 71% من السكان، غالبيتهم من الفئات المبعدة من العملية الانتاجية، شملت شريحة واسعة من ذوي الدخل المحدود ومن أبناء الطبقة الوسطى. وتظهر دراسة برنامج الغذاء العالمي ان 45-55 % من سكان العراق يمكن وضعهم عند خط الفقرعند عام 2003. وبيئة الفقر تلك افضت الى احداث شلل للمؤسسات الخدمية واضعفت الى حد بعيد من فرص ومصادر اشباع الحاجات الأساسية. فالفقر يعني الحرمان ويمثل عجز الانسان عن امتلاك الكفاءة اللازمة لتأمين الحدود الادنى من الرفاه(الجدول رقم 1)0.
مما يزيد الامر تعقيداً التباين بين النمو السكاني الذي تتراوح معدلاته السنوية ما بين 2.8 % - 2.9%، وبين المعدل السنوي لنمو سوق العمل الذي يتراوح ما بين (3.1% -3.3%) مما عمق من مشكلة البطالة والفقر0 وظاهرة الفقر تستند على دعائم أساسية هي: البطالة،تدهور الأجور،التضخم،تراجع البيئة الصحية، تدهور البيئة الاجتماعية وتدهور الموارد الطبيعية. وعلى الرغم من التحسن الجزئي لانخفاض نسبة التضخم والانكماش واستقرار العملة المحلية خلال عام 2004، غير ان شلل قطاعات الانتاج والخدمات، امر مثير للقلق 0ولم تتضح بعد ملامح اي تحديث او استراتيجية لمواجهات مستحقات المرحلة الجديدة، مرحلة الانفتاح التجاري واقتصاديات السوق واعادة بناء القدرات والتأهيل لتلك القطاعات الحساسة.

البطالة:
ما يميز البيانات الرسمية حول حجم البطالة الحقيقية تتسم بالغموض وضعف الدقة والتباين بين مؤسسة واخرى،وتقدر احدى الدراسات أن نسبة البطالة تمثل 40% من السكان القادرين على العمل حتىنهاية عام 2002، يضاف اليهم اعداد من سرحوا من اعمالهم الرسمية عام2003.وتقترب تلك التقديرات من معطيات البرنامج الانمائي للامم المتحدة التي تشير الى نسبة البطالة بلغت50%حتى نهاية عام 2003. اما نتائج مسح التشغيل والبطالة في وزارة التخطيط والتعاون الانمائي ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية، اظهرت ان معدل البطالة بين السكان لعمر 15 عام فما فوق (ماعدا منطقة كردستان العراق) بلغ 28.1% لكلا الجنسين للثلث الاخير من عام 2003 مما يؤكد الحاجة الماسة للتدقيق والتعرف على حجم البطالة الحقيقية.


التضخم:
لعل اخطر نتائج الحروب والعقوبات، بث التضخم لجميع مناحي الذي تسبب بتعميق ظاهرة الفقر.ووفقاً لمعطيات الجهاز المركزي للاحصاء، فأن مع مسلسل التضخم بدء مع بداية الثمانينات بتغييرالاسعار للمستهلكين غير ان التطورات الضخمة في تغيير اسعار بدأت عام 1994 وبارقام فلكية، استمرت حتى عام 2003 . وتبين نتائج مسح الانفاق العائلي على السلع الاستهلاكية والخدمات ان التضخم للاسعار الاستهلاكية خلال الفترة (1993-2002) بلغ 5196% بمقياس عام 1993 0كما توصلت التغيرات خلال مابين 2002-2003 بارتفاع قدره33.6 % لعام 2003 قياساً لعام 2002 ( كما الجدول رقم 2).وتزايد أعباء التضخم تفضي الى تدهور اكبر للبيئة الاجتماعية.

الفقروتدهور البيئة الاجتماعية :
التفاعل بين الفقر والبيئة غالبا ما يؤدي الى تدهور الخصائص البيئية. فالفقراء هم اكثر ضحايا التدهور البيئي، وقدرتهم على حماية انفسهم في تلك الظروف ضعيفة، وكثير ما يعرضون البيئة للخطر بدافع الحاجة. فهم لا يقدرون معنى واهمية صيانة البيئة، ففي سبيل البقاء يعمدون الى سرقة وتدمير كل شئ. وقد يبدو ان الفقر والارهاب صنوان في بعض الاحيان 0وازدياد وتيرة العنف في الشارع العراقي، وانتقالها( حسب بعض التقديرات ) من 14 حالة في الشهر عام 2002الى 357 حالة في الشهر عام 2003، مظهراً من مظاهر تدهور البيئة الاجتماعية0 وفي ظل تلك الظروف فأن الفئات الهامشية والفقراء يمكن ان تشكل كتلة في اللوحة الاجتماعية، ووقود ومصدراً لمعارك ذات اهداف متنوعة0 ويمكن ان تصبح قوة تدميرية و مصدراً لجذب الخطاب أوالاثني أو الطائفي القبلي المؤثر على اللوحة الاجتماعية. على ان هشاشة الاستقرار السياسي ورعب الارهاب، تشكل بيئة مناسبة لتعميق الفقر ومنع فرص التنميةالانسانية.
وبالرغم من الصور المرعبة التي عاشتها بغداد وعدد من كبريات المدن العراقية خلال حقبة الفراغ الاداري الذي اعقب انهيار النظام السابق، وتداخل المجموعات المنظمة داخلياً وخارجياً، لا بد من الاقرار ان نسبة من الفقراء والجياع هي الاخرى واستباحت البيوت والممتلكات (الخاصة والعامة)، بسبب من حاجتهم. غيران بشاعة تلك الصور والسلوك الشاذ المخالف للقواعد القانونية تقتضي التوقف عند هذا الدرس عبر معالجات مشكلات الفقر الشديد الناجمة عن البطالة وضعف الموارد وانهيار الدورة الاقتصادية وضعف الخدمات والتعليم، مما يعني ان اوضاعا بيئية غير ملائمة على الاطلاق هي التي تحكم حياة قطاع واسع من السكان. وترك تلك الاوضاع تفضي الى المزيد في اجهاد النظم البيئية بنوعيها الطبيعية والاجتماعية.


البيئة الصحية :
سجل النظام الصحي تراجعاً كبيراً على امتداد اكثر من عقد من الزمن، ليس فقط لمستوى التجهيزات وتوفر الخدمات الطبية والتوظيفات المالية، وانما بسبب اتساع انتشار دائرة الامراض وسوء التغذية والتلوث المتنوع المصادر 0 وتظهر نتائج المسح الصحي الى ان اكثر من نصف نساء العراق يعانين من الانيميا، وان ربع الاطفال يولدون ناقصي الوزن وان طفل واحداً يموت من بين كل 8 اطفال قبل بلوغهم السنة الخامسة من العمر. ووفيات الاطفال تعد احدى مؤشرات تراجع التنمية البشرية في العراق (الجدول رقم4) . واحدى معايير تراجع طول عمر الانسان. وتبين تقارير التنمية البشرية ان طول عمر الانسان في العراق لم يتجاوز الـ64 عاماً مقارنة مع طول الاعمار 72-74 عاماً لعدد من دول الخليج.


الفقر وتدهور موارد البيئة الطبيعية :
فظاهرة الفقر كانت ولاتزال احدى ابرز سمات الريف العراقي على امتداد القرن العشرين،مثلت انعكاساً طبيعياً لسرعة تردي وتدهور الموارد الطبيعية 0وانعكست تلك الظاهرة بسعة هجرات الريف الى المدينة والهجرات البيئية طلباً للماء والكلاء، بسبب الجفاف او الكوارث الطبيعية الاخرى. بدء من العقد الرابع من القرن الماضي وحتى اليوم 0 واذا كانت العقود الثلاثة (الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي ) شهدت تحسناً نسبياً في وضع المدينة والريف، بسبب من العوائد النفطية،فانها لم توقف تردي الموارد البيئية واستمرار الهجرات. ولايزال سكان الريف اليوم اكثر فقراً واكثر حساسية وبحاجة الى تأمين الغذاء مقارنة مع سكان المدن.
تكتسب العلاقة بين الفقر وبيئة الموارد الطبيعية بعداً تاريخياً وراهناً ومستقبلياً في ذات الوقت 0 فالحرمان من الموارد الطبيعية يحمل الفرد والمجتمع اعباء ثقيلة في تأمين غذاءه، ومصادر رزقه فضلاً عن فقده لموارده0 وتبين الدراسات من ان فجوة الغذاء تتضاعف كل عقد من الزمان مما يجسد حجم المشكلة ويضاعف من التكاليف الاقتصادية لتردي الموارد الطبيعية. فموجات الجفاف التي اجتاحت بلدان واسعة من الشرق الاوسط بما فيها العراق خلال اعوام 1998-2000، قلصت نسبة المياه الجارية لنهري دجلة والفرات الى اكثر من 20% وانخفضت معدلات الامطار بنسبة 30% وتدهورت المراعي وتزايدت مستويات تعرية الاراضي وتراجع انتاج المحاصيل الزراعية لمحاصيل الزراعية لمحاصيل الحبوب بنسبة 40% وتدهورت الثروة الحيوانية، وتفشت امراض الحمى القلاعية، افضت جميعها الى تزايد مستوى الفقر وتزايد اعباء اثقال الامن الغذائي. واذا اضيف لذلك مشكلات تدهور الموارد الطبيعية بفعل الملوحة وتقلص مساحات الاراضي الصالحة للزراعة واندثار الغابات الطبيعية، وتقلص المسطحات المائية، والتنوع الاحيائي، جميعها عوامل تقضي بشكل مباشر اوغير مباشر الى تشوهات اجتماعية وهجرات واسعة وتهديدات اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق (كما في معطيات الجدول رقم3).

الخلاصة:
علاج مشكلة الفقر ليست مجرد ضرورة اخلاقية، بل هي مهمة ضرورية للتنمية المستدامة وهو ما يتطلب اصلاح النظم الاقتصادية وتحسين مداخيل الفقراء وحماية الموارد الطبيعية. وتمكين الفقراء من تحسين ظروف حياتهم يفترض ان يوضع في مقدمة اولويات البرامج والمشاريع التنموية0 فنجاح الدولة في تحقيق تقدم يذكر مرهون بتطوير عقد اجتماعي يتميز بتحالف بين الحكومة والمجتمع. ومن بين الخطوات الضرورية للتخفيف من هول تبعيات الفقر، السعي نحو توفير شبكة من الضمانات او الامان الاجتماعي، تستهدف تحسين الخدمات (التعليم، الصحة، النقل والغذاء) وتوفير شروط امن الافراد والسعي لتوفير فرص عمل واسعة، جميعها شروطاً هامة للتخفيف من اعباء الفقر.كما أن إصدار تشريعات لحماية الشرائح الحساسة (الاطفال، الشيوخ، العجزة، المعوقين والنساء) هو الاخر عنصر مساعد للتخفيف من عبء الفقراء وليس اخيراً فأن حماية الموارد الطبيعية، تعني حماية ملايين السكان من هول الفاقة والعوز والفقر.

مصادر
1.عدنان ي.مصطفى (2003) : التنمية الاجتماعية في العراق، المسارات والافاق- بيت الحكمة-دراسات اجتماعية، العدد 5 ص 59-67.
2.باسل ج. الحسيني (2003) : السياسات الاقتصادية في العراق، الواقع الراهن مع نظرة مستقبلية- برنامج الامم المتحدة الإنمائي - بغداد.
3.وزارة التخطيط والتعاون الانمائي ووزاة العمل والشؤون الاجتماعية(2004): تقرير حول نتائج مسح التشغيل والبطالة لسنة 2003 – الجهاز المركزي للاحصاء –دائرة تخطيط القوى العاملة ودائرة العمل والضمان الاجتماعي –بغداد.
4.الجهاز المكزي للاحصاء- منظمة الامم المتحدة للطفولة (2000) : المسح متعدد المؤشرات لسنة 2000- التقرير الاولي-بغداد.
5.الجهاز المركزي للاحصاء (2004): الاسعار والارقام القياسية لاسعار المستهلك لسنة 2003- وزارة التخطيط والتعاون الانمائي –تكنولوجيا المعلومات- مديرية الارقام القياسية- بغداد.
6.الجهاز المركزي للاحصاء (2004) : مسح الانفاق العائلي على السلع الاستهلاكية والخدمات- وزارة التخطيط والتعاون الانمائي –مديرية احوال المعيشة –بغداد.
7.علي حنوش(2000) العراق: مشكلات الحاضر وخيارات المستقبل- دراسة تحليلية عن البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية- دار الكنوز الأدبية –بيروت.
8.FAO(2002)Drought in the Near East : Cearl and Livestock Production down sharply. Rome.
9.FAO (2002) Assessment of the Food and Nutrition ,Iraq, Technical, cooperation programmer. Rome.
10.George Corm (2003).The Economic and Financial Situation in Iraq Institutional arrangements- Financial Obligations- Reconstruction issue. ESCWA.
11.World Food Programme (2004) WFP, Iraq Operation Update- july2004, Relic web.
12.UNDP (2003) Human Development Report, Published in 2003.

********************

جدول رقم 1
اعداد السكان ونسبة الفقراء والبطالة في العراق %(1986 -2003)
العاممجموع السكاننسبة الفقراء نسبة البطالة
1986 16.3 24*-
1990 17.9 25*-
1994 19.870*-
1995 20.271**-
2003 26.0 45-55***-
2003 26.0-40-45****
2003 26.0-28****
المصادر:
*ع0ي0 مصطفى (2003) التنمية الاجتماعية في العراق – بيت الحكمة – دارسات اجتماعية عدد(5) ص59-67 0
** منظمة الغذاء والزراعة الدولية (1995) – روما0
*** برنامج الغذاء العالمي 2004- روما0
**** ب0ح0 الحسيني (2003 ) السياسات الاقتصادية في العراق - برنامج الامم المتحدة الانمائي – بغداد0
**** وزارة التخطيط والتعاون الانمائي ووزارة العمل ةالشؤون الاجتماعية (2004) مسح التشغيل والبطالة لسنة 2003 0 الجهاز المركزي للاحصاء – وزارة العمل والضمان الاجتماعي - بغداد 0

************************

جدول رقم 2
الرقم القياسي لاسعار المستهلك في العراق للسنوات (1988-2003)
جدول رقم (9-أ)(1988=100)
السنةالرقم القياسي السنوي لمجموعة المواد الغذائية فقط الرقم القياسي العام *
السنـوي
1988 100.0 100.0
1989 107.1 106.3
1990 176.0 161.2
1991 640.4461.9
1992 1104.7 848.8
1993 3483.1 2611.1
1994 21020.4 15461.6
1995 110323.7 69792.1
1996 84154.3 59020.8
1997 97213.2 72610.3
1998 108138.283335.1
1999 108145.4 93816.2
2000 104813.2 98486.4
2001 113398.6 114612.5
2002 123705.5 136752.4
2003 145551.8 181301.7
* الرقم القياسي العام لكافة المجاميع الرئيسية وهي ( الغذائية، المشروبات، الملابس، المنزلية، الايجار، الوقود، النقل، الطبية، متنوعة )0

*****************************

جدول رقم 3
بعض التغيرات في الموارد الطبيعية خلال القرن العشرين في العراق

1.المسطحات المائية تراجعت في نهاية القرن العشرين الى 50%
2.الاراضي الصالحة للزراعة تراجعت من 20% من المساحة الجغرافية الى 12%
3.الاراضي الرعوية كانت توفر 70% من احتياجات التغذية الحيوانية واصبحت تمثل مابين 10-25%
4.اراضي الغابات كانت تمثل 4% من المساحة الجغرافية، واصبحت تمثل 0.2%

**************************

جدول رقم 4

مقارنة بين معدلات وفيات الاطفال والامهات بين العراق وسوريا

العراق سوريا
معدل وفيات الاطفال بعد الولادة (لكل الف) 108 23
معدل وفيات الاطفال قبل السنة الخامسة (لكل الف)28 28
معدل وفيات الامهات (لكل مائة الف ) 294 110

UNDP Human Development Report, Published in2003

د.علي حسين عزيزيشغل منصبوكيل وزارة البيئة